سجون أميركا.. سجل حافل من الانتهاكات تحجبه الدعاية
رغم ارتفاع صوت الولايات المتحدة الأميركية في المحافل المتصدية لانتهاك حقوق الإنسان والاعتقالات التعسفية والعنصرية، تكشف الأرقام خللا واضحا بين الصورة البراقة لبلد الحرية وواقع سجونها المرير، يكشف التقرير التالي الانتهاكات القانونية والإنسانية لوضع السجون في أميركا وآثاره الاجتماعية الفادحة على الشعب الأميركي.
تضم الولايات المتحدة الأميركية 5% من تعداد سكان العالم، و25% من مسجونيه، وبينما تقرأ هذه السطور يقبع 2.2 مليون شخص في أميركا خلف القضبان. ورغم انخفاض معدلات الجريمة منذ التسعينيات ارتفعت معدلات السَجن إلى مستويات غير مسبوقة بالتاريخ. ويستاء الأميركيون بجميع انتماءاتهم السياسية إلى حد كبير من هذا الوضع، ويوافقون على أن تكاليف السجن الجماعي كبيرة للغاية ولا تعود على البلاد بنفع كبير. لكنهم يختلفون حول دور العنصرية المنظمة وأسباب عنف الشرطة الأميركية مع المواطنين، وكذلك أهمية المسؤولية الشخصية والقصاص.
ومع ذلك، توجد أرضية مشتركة من ثلاثة معايير أخلاقية أساسية ينبغي أن تحكم استخدام السجن كعقوبة وهي معروفة في مختلف أنحاء أميركا. أولاً، يجب أن تتناسب العقوبات مع الجرائم، ثانياً، على القضايا المتشابهة أن تعامل معاملة واحدة، وثالثاً، لا ينبغي للعقاب الجنائي أن يضر أكثر مما ينفع. وما يثير الأسف -ودهشة البعض- أن نظام الولايات المتحدة ينتهك كل هذه المبادئ.
فيما يتعلق بالتناسب، فإنه يتطلب أن تتلاءم العقوبة مع الجريمة، وهذه الجملة أكثر من مجرد كليشيه قديم، فهي تعني أن العقوبات يجب ألا تكون مفرطة أو مفرّطة، فالحبس لمخالفة مرورية خاطئ وكذلك الاكتفاء بضرب المغتصب على يده تحذيرا. ولا توجد صيغة دقيقة ومحددة للتناسب، ولكن يسهل ملاحظة نقيضه من الممارسات في الغالب. ففي عام 2012، أدين نحو 10 آلاف شخص في الولايات المتحدة يقضون عقوبات بالسجن مدى الحياة بسبب جرائم غير عنيفة. وإجمالا، يقضي ما يقرب من 50 ألف شخص في الولايات المتحدة أحكاما بالسجن مدى الحياة دون إخلاء سبيل مشروط. بينما نجد أن في المملكة المتحدة التي تضم ما يساوي خُمس سكّان أميركا فإن عدد هؤلاء تقريبا 50 فقط!
وأحد الأسباب الرئيسية في تزايد عدد نزلاء السجون هو ظهور قوانين الحد الأدنى الإلزامي لإصدار الأحكام التي تجبر القضاة على إصدار عقوبات ثابتة لجرائم معينة، يرتبط أغلبها بالمخدرات. وقد أقرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة هذه العقوبات القاسية في عام 1991، في قضية تتعلق بمخالف لأول مرة، يُحكم عليه بالسجن دون إخلاء سبيل مشروط لحيازته 672 غراما من الكوكايين.
ووجد الأغلبية في هذه القضية، التي عرفت بقضية هارملين ضد ولاية ميشيغان، أن الحظر الدستوري الذي يمنع بتطبيق العقوبة "القاسية" و"غير المألوفة" لم يحظر العقوبات غير المتناسبة، وفقا للقاضي الراحل أنطونين سكاليا المشارك في القضية.
وحتى إذا كانت المحكمة الدستورية مصيبة بشأن الدستور، فإن الأحكام غير المتناسبة تنتهك مبدأ أخلاقيا أساسيا: حيث لا ينبغي أن تتجاوز العقوبات خطورة الجرائم التي تعالجها. وقال سكاليا إنه حتى لو كانت العقوبة قاسية فإنها لم تكن غير مألوفة، ولتكون العقوبة غير قانونية عليها أن تحمل الصفتين. وعلى هذا التفسير، إذا كان الشنق والحبس شائعا، فسوف تجتاز الدستور. لكن من الناحية الأخلاقية، يجب أن تكون القسوة كافية لحظر شكل من أشكال العقاب.
وجاء مبدأ أساسي آخر للعدالة الجنائية من أرسطو وهو يقول بمعاملة القضايا المتشابهة المعاملة ذاتها، فإذا وُجد تشابه بين نوعين من الجرائم -في درجة الخطورة أو في شخصية وظروف الفاعل- يجب أن تتم العقوبة بطريقة مماثلة. إلا أن التعسف والتمييز شائع للغاية في السجون الأميركية وكذلك في محاكمها، ففي قضية فورمان ضد ولاية جورجيا عام 1972 قضت المحكمة العليا في الولايات المتحدة بإلغاء قوانين عقوبة الإعدام القائمة باعتبارها كانت مليئة بالتقلبات المزاجية وغير متسقة وأنها تمارس التمييز ضد الأقليات والفقراء. فتم تعليق عقوبة الإعدام في جميع أنحاء الولايات المتحدة لمدة أربع سنوات، إلى أن قامت بعض الولايات بإصلاح قوانينها الأساسية للوفاء بالمتطلبات الدستورية.
من الواضح أن القرارات المجحفة لا تنطبق فقط على عقوبة الإعدام، فهي موجودة بقوة في كل أنحاء نظام العدالة الجنائية الأميركية، ففي الوقت الذي يكون فيه رجل أميركي من أصل أفريقي بلا شهادة المدرسة الثانوية وفي منتصف الثلاثينيات من عمره، فهناك احتمال بنسبة 70٪ تقريبا أنه سيقضي بعض الوقت في السجن. وتزيد نسبة تعرض الرجال السود في الولايات المتحدة للاعتقال عن نسبة التحاقهم بعمل. وعلى الرغم من أن عدد البيض الذين أبلغ عن تعاطيهم المخدرات يزيد بخمسة أضعاف عن السود، فإن عدد السجناء السود يزيد بعشرة أضعاف عن البيض. وفي كل المراحل بدءا بالتوقيف ثم الاعتقالات فالمقاضاة فالإدانات فالأحكام، نجد أن التمييز العنصري هو القاعدة وليس الاستثناء في بلاد الحرية.
وأخيرا، هناك القاعدة البديهية التي تقول إن العقوبة يجب ألا تضر أكثر مما تنفع، التكاليف الأكثر وضوحا للسجن هي النقدية: حيث تنفق الولايات المتحدة نحو 30 ألف دولار سنويا على كل سجين! بتمويل من مليارات الدولارات من الميزانية الفدرالية. فالحبس هو أغلى شكل من أشكال العقوبة، وكان يمكن استخدام هذه الأموال لعلاج الإدمان بدلا من ذلك، وهو سبب مهم للنشاط الإجرامي، وتحسين ظروف للمجتمعات التي تتوطن فيها الجريمة.
وما هو غير مستغرب أن السجون غير فعالة كذلك بشكل مذهل في إيقاف الجريمة، حيث أُعيد اعتقال أكثر من نصف السجناء الذين أُفرج عنهم في عام 2005 في غضون 12 شهرا، وفقا لأبحاث أجريت عام 2014، وقُبض على أكثر من الثُلثين بحلول نهاية عامهم الثالث. ووجدت دراسة حديثة أجرتها لجنة العقوبات الأميركية أن ما يقرب من ثُلث المجرمين الفيدراليين أعيد إدانتهم في غضون ثماني سنوات، في حين أن الأدلة من ولاية تكساس تشير إلى أن سجن الأشخاص يجعلهم أكثر عرضة لارتكاب جرائم أكثر خطورة والتفرع إلى جرائم جديدة. ومع ذلك، لم يكن إعادة التأهيل هدفا مشروطا في سياسة السجون الأميركية منذ عام 1984، عندما أصدر الكونغرس تعليماته للجنة العقوبات الأميركية المشكّلة حديثا آنذاك بأن "السجن ليس وسيلة مناسبة لتشجيع وإعادة التأهيل".
وبجانب كل ذلك تجد الدراسات فداحة العبء المريع الذي يضعه السجناء على الأُسر والمجتمعات، فعندما يدخل شخص ما إلى السجن، تجد 65% من الأُسر نفسها غير قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للمعيشة وفقا لمركز إيلا بيكر لحقوق الإنسان في كاليفورنيا. ومن المرجح بشكل كبير أن يصبح الأطفال الذين سُجن آباؤهم -وخاصة السود- بلا مأوى. وكذلك في العديد من السلطات القضائية، لا يمكن للمجرمين المدانين أن يصوتوا أبدا، مما يعني أن مجتمعاتهم المحلية لديها صوت أقل مما كانت تملك إذا لم تكن نسبة كبيرة منهم مسجونين، وهو ما يقلل من فاعلية العملية الانتخابية.
لكنّ الباحثين في أميركا وجدوا أنفسهم أمام معضلة أخلاقية أخرى وهي ضرورة القصاص الأخلاقي، فهل يستحق القاتل مثلا أن تخفف عقوبته؟ جادل الفيلسوف إيمانويل كانط بأن العقوبة تصحح مقاييس العدالة التي يخرجها المجرم عن نصابها. والفكرة تقول إن المجرمين يستحقون المعاناة بسبب ما قاموا به، وأن عدم معاقبتهم خطأ جوهري. ويجد معظم الناس هذا الرأي بشكل حدسي مقنعا إلى حد ما في جزء كبير بسبب نزعتنا الانتقامية التي نجدها داخل أنفسنا.
غير أن الباحثين جادلوا بأن هناك على الأقل ثلاثة أسباب للتساؤل عما إذا كان ينبغي لنا أن نتصرف على أساس هذه المشاعر؛ أولا، عانى الكثير من الأشخاص الذين يرتكبون الجرائم من الحرمان والظلم والإساءة والإدمان والمرض العقلي. كما أننا لا يمكننا -أخلاقيا- أن نعاقب الناس لكونهم نتاج الوراثة والبيئة. ولا ننكر أن الحظ يلعب دورا كبيرا في ظروف وجود الناس في مكان الجريمة وما إذا كانوا يرتكبون جرائم، وأن هذه الحالات الطارئة يجب أن تخفف من الألم الذي نلحقه بالمجرمين كلما أمكن.
ويترتب على هذا الرأي أن إلحاق الضرر لا يمكن تبريره إلا للحيلولة دون حدوث شيء أسوأ، وبالتالي فإن الانتقام لغرض الانتقام وحده لا يملك أي دور في نظام عدالة منصف. وبشكل عام فحتى أولئك الذين يرفضون هذه النظرة الراديكالية -الذين يعتقدون أن الانتقام له مكان في آلية العدالة الجنائية- يجب أن يتفقوا أنه لا يمكن تبرير الشرور التي نجدها في السجون الأميركية اليوم، والافتقار الكبير إلى التناسب في النظام، وفشله في التعامل مع الحالات المتشابهة على حد سواء، وعواقبه الضارة على السجناء والمجتمعات المحلية التي لا تتسق مع الصورة اللامعة للمجتمع الأميركي باعتباره مجتمعا إنسانيا راقيا.