شعار قسم ميدان

بعد تزايد فضائح التحرش.. هل الرجل كائن متحرش بطبعه؟

"لم تعد مصر مكانًا آمنًا".. كانت هذه الرسالة الضمنية التي عبّرت عنها العديد من الفتيات والنساء المصريات في تغريدات يحكين فيها معاناتهن مع التحرش في مصر.(1)

فقد كشف حجم التفاعل مع هذه الحملة على مواقع التواصل وداخل مُنظمات المجتمع المدني المعنيّة بقضايا حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل بشكل خاص، عن واحدة من الجراح الغائرة الكبيرة التي  يعاني منها المجتمع المصري، وأتى في ذات السياق أيضًا تقرير مرعبللأمم المتحدة كشفت فيه أن نسبة 99.3٪ من النساء يتعرضن للتحرش في مصر، وهو ما يعني تقريبًا أن التحرش الجنسي يكاد يطول كل الإناث في مصر.(2)

وعلى الرغم من الشيوع الكاسح لظاهرة التحرش، إلا ان ما يلفت الانتباه هنا هو الارتباك الواضح في تحديد مفهوم مُتماسك للتحرش؛ حيث تشير دراسات أوسع عن الظاهرة إلى أن التحرش ليس مقتصرا على الوقوع بين الذكور والإناث وحسب، بل امتد ليشمل الأطفال أحيانا والأقليات الثقافية والعرقية والدينية من قبل بعض متعصبي الأغلبية، وفي أحيان أخرى يقع على المعارضين للسُلطة أثناء التظاهرات والوقفات والفعاليات الاحتجاجية من قبل رجال الأمن أو حتى المتعصبين للنظام، وتهدف تلك الدراسات إلى إعادة صياغة مفهوم التحرش وتوسيعه، فلا  يظل مقتصرًا على الدلالات الجنسية وحسب، والتنبيه إلى وجود دلالة أوسع للظاهرة كالنزعة العدوانية والرغبة في العنف وإظهار القوة و إقصاء المختلف.(3)

 

في دراسة بعنوان "استباحة النساء في المجال العام"، توضح الباحثتان هند زكي وداليا عبد الحميد في سياق تأريخهم لظاهرة التحرش الجنسي في مصر، "وجود أبعاد اجتماعية ونفسية أوسع من مجرد أزمة الكبت أو الرغبة الجنسية عند المتحرش؛ فأحيانا يصل الأمر إلى رفض وجود أجساد النساء أو المخالفين بصفة عامة داخل المجال العام".4

وأثناء محاولة جادة لتكوين مفهوم واضح عن التحرش، توضح الكاتبة إنجي عبد المنعم أن فعل التحرش الجنسي يحتوي على مركبيّن متوازييّن، "فالتحرش في معناه الأول هو فعل عدواني ومُسيء وعُنصري بالأساس، ثم المعنى الجنسي وهو المتعلق بكوّن الفعل العدائي نفسه يندرج تحت بند العنف الجنسي أو الإساءة الجنسية وليس مجرد فعل مُسيء بشكل عام أو عُنف مُجرد".5

بهذا يمكن القول إن ظاهرة التحرش الجنسي في التحليل النهائي هي ظاهرة مُركبة تعتمد على درجة من العنف والعدوانية والعنصرية القائمة على أساس النوع الاجتماعي، وبين الكبت الجنسي والرغبة في تفريغ طاقة جنسية لا تجد لها متنفسًا. وبالنظر إلى التحرش كفعل عدواني قبل أن يكون فعل جنسي، يقودنا إلى تساؤل مهم عن الطبيعة السيكولوجية لدى الشخص المتحرش، ودلالة الإساءة والطاقة العدوانية التي يحملها فعل التحرش؟

يرى فرويد بأن الإنسان مدفوع إلى إشباع حاجته من العدوان كما هو مدفوع إلى إشباع حاجته من الجنس؛ مدفوع إلى استعمال الآخر وإلحاق الأذى والآلام به وقهره إن لزم الأمر
يرى فرويد بأن الإنسان مدفوع إلى إشباع حاجته من العدوان كما هو مدفوع إلى إشباع حاجته من الجنس؛ مدفوع إلى استعمال الآخر وإلحاق الأذى والآلام به وقهره إن لزم الأمر

في العديد من التغريدات وتجارب التحرش تشتكي الضحايا أحيانًا من كوّن المُتحرش شخص لا تبدو عليه سمات عدائيّة أو إجرامية معيّنة، قد يكون المتحرش رجلا كبيرا في السن تبدو عليه هيئة الوقار، أو شابا ميّسورا الحال، زميلا متفوقا في الدراسة أو رئيسا ناجحا في العمل، وفي بعض التجارب كان المتحرش هو شخص من أقارب الضحية، ربما كان في لحظة أخرى هو من سيدفع عنها المتحرشين ويدافع عنها. فما الذي يدفع شخصا له صلة قرابة بفتاة ان يمارس بحقها أفعال عدوانية؟

في مشروعه الضخم، فسر فرويد الإنسان بأنه حيوان فسيولوجي ذو مظاهر نفسية واعية، فيُسلم فرويد ابتداءً بماهية عدوانية وشريرة للإنسان(6)، سابقة على وعيه وأفكاره، ففي النموذج التحليل النفسي الفرويدي يملك الإنسان دافعيّن محركيّن أوليّن تتمحور حولهم أغلب أنشطة الحياة، دافع اللذة ودافع الحفاظ على الذات، وفي وقت لاحق أضاف فرويّد الدافع العدواني، وأعطى له مجالا مُستقلا ومنافسًا لدافع اللذة ودافع الحفاظ على الذات؛ لتصير تلك الدوافع الثلاثة هي المحرك الرئيس لأغلب الأنشطة الإنسانية.(7)

بهذه الطريقة يفسر مؤسس التحليل النفسي النزعة العدوانية لدى الإنسان عن طريق ردها إلى تكوينه البيولوجي والنفسي ذاته، في كتابه "قلق في الحضارة" يقول فرويد: "ليس الإنسان كائنًا طيّبًا وضعيفًا، ذا قلب متعطش للحب وفقط، بل على العكس فإن أكثر من يملك طاقة وقدرة على الحب وإظهار مشاعر التعاطف والتضامن مع الآخرين، هو كائن كغيره من الكائنات تحتوي مُعطياته الغريزية على قدر لا بأس به من العدوانية، وبالتالي فإن حتى القريب بالنسبة إليه  ليس فقط موضوع للحب وللعاطفة أو للجنس، بل هو أيضًا موضوع تعويض واعتداء، فالإنسان مدفوع إلى إشباع حاجته من العدوان كما هو مدفوع إلى إشباع حاجته من الجنس، مدفوع إلى استعمال الآخر وإلحاق الأذى والآلام به وقهره إن لزم الأمر، وبدون إشباع تلك النزعة رُبما يشعر بنقص في إحساسه بذاته، فالإنسان ذئب أخيه الإنسان".

هكذا تجد الروح العدوانية، حسب فرويد، أساسها في التكوين البيولوجي للإنسان، جنبًا إلى جنب مع النزعة إلى الجنس والحب، غرائز لا فكاك للإنسان منها، مما يجعل أمل القضاء عليها سرابًا، وكل ما يُمكن عمله هو تقليص هذه الدوافع إلى حدود معيّنة، لا القضاء عليها تمامًا. وينهي فرويّد تحليلاته موضحًا أن غرائز الإنسان تبقى محركة له، إلا إنها تظل متعارضة تمامًا مع فكرة المجتمع والحضارة، لأن هذه الأفكار تقوم على الحد من رغبات وغرائز الفرد لصالح قيّم ومبادئ عقلانية غير شخصية تُشكل ما يمكن أن يكون شكل من أشكال العقد الاجتماعي أو الأخلاقيات العامة التي تحفظ من المجتمع من حالة التوحش.

في النقاشات العامة المتعلقة بقضايا التحرش والعُنف الجنسي، دائمًا ما تنتهي بعدة توصيات مُعلقة في الهواء أشبه بتعليمات وأوامر من قادة أو نُخب ولكن بلا قواعد تؤمن بها وتعمل على تنفيذها. فدائما ما يتم في ختام أي مؤتمر أو حملة سواء كانت رسمية أو مجتمعية بالتأكيد على دور الدولة والقانون في القضاء على هذه الظاهرة، مع ضرورة أن يكون هناك مناهج خاصة بالتربية الجنسية في وسائل التعليم الرسمية المختلفة، وطرح قضايا النوع الاجتماعي، والعمل على نشر قيّم المساواة بين الجنسين واحترام أجساد النساء في المجاليّن العام والخاص، مع مُطالبة حازمة بتطبيق عقوبات قانونية رادعة على المتحرشين.(8) 

وبالاستمرار مع التحليل النفسي، يعتقد فرويد ويوافقه كذلك "هربرت ماركيوز" باستحالة وجود مجتمع غير قمعي بشكل مُطلق، فبحسب ماركيوز" كل شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تقوم على قمع الغرائز إلى حد ما، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في مجتمع ولا أن يكون فاعل داخل شبكة علاقات اجتماعية فعلاً دون خضوع بعض رغباته و غرائزه وطاقاته للضبط والسيطرة والتحكم"، وبحسب تصور هذا النموذج التحليلي الفرويدي المادي للإنسان؛ لا يُمكن أن يفعل الإنسان هذا من تلقاء نفسه، طالما تُرك من دون سُلطة تجبره على الانصياع وعقلنة رغباته وغرائزه.(9)

المصدر : الجزيرة