شعار قسم ميدان

قضية ابن المستشار.. كيف أصبح القضاة باشوات مصر؟

عنوان ميدان

خلال الأسابيع الماضية، تداول مغردون على منصات التواصل الاجتماعي بمصر مقطعا مصورا لطفل عمره 13 عاما يقود سيارة خاصة بسرعة رفقةَ مجموعة من أصحابه بحي المعادي (جنوب القاهرة)، كما يُظهر الفيديو استهزاء الطفل بشرطي المرور الذي أوقفه وطلب منه رخصته، إذ تحرك الطفل بالسيارة فجأة مما أدى إلى اختلال توازن الشرطي وسقوطه على الأرض، الأمر الذي أثار غضب واستياء الكثيرين ممن شاهدوا المقطع، مطالبين بضرورة محاسبة الطفل وولي أمره.(1)

وبعد انتشار المقطع المصور على مواقع التواصل الاجتماعي وزيادة ردود الأفعال الغاضبة عليه، قامت النيابة العامة المصرية بالتحقيق في الأمر وأصدرت بيانا بخصوص الواقعة، الذي جاء فيه أن الطفل سائق السيارة والمعتدي على الشرطي هو ابن مستشار بمحكمة الاستئناف، أما السيارة، وكيف حصل عليها طفل عمره 13 عاما، فجاء ببيان النيابة نقلا عن والد الطفل: "السيارة التي كان يقودها خلال الواقعة مملوكة لصديق والده الذي اشتراها من الأخير، وإنه يومئذ وخلال وجوده بمسكن صديق والده اختلس مفاتيح السيارة للتنزه بها من غير علم مالكها، ثم دعا أصدقاءه لصحبته".

 

أما عن إهانة الطفل لشرطي المرور فقال بيان النيابة: "ولما التقوا فرد الشرطة استوقفه وسأله عن تراخيص السيارة والقيادة فنفى حملها، ثم دار بينهما الحوار المتداول، حتى توجه فرد الشرطة إلى مقدمة السيارة لتدوين رقم لوحاتها المعدنية، فانطلق الطفل بها خشيةَ تحرير مخالفة ضد مالكها، وفُوجِئ آنذاك باصطدام قدم فرد الشرطة بباب السيارة، فعاد إليه لاحقا مقدما اعتذاره إليه فقبله منه".

 

انتهى تحقيق "النيابة العامة" بتكليف مختص اجتماعي "بخط نجدة الطفل التابع للمجلس القومي للطفولة والأمومة" بدراسة "حالة الطفل المتهم الاجتماعية والنفسية وإعداد تقرير بها، فأودع تقريرا أثبت فيه أن الطفل مدلَّل بشدة من والده، مما دفعه لاقتراف مثل هذا السلوك، موصيا بتسليمه لأهله وأخذ التعهد عليهم بتقويم سلوكه، وعقد جلسات دورية له لذلك".

لكن القصة لم تنتهِ، فبعد خروج الطفل، نجل المستشار، خرج مع أصدقائه في مقطع مصور على موقع "إنستغرام" يحتفل بخروجه من النيابة ويشتم الشرطة بألفاظ بذيئة مُردِّدا جملة "إحنا نحبس منتحبسش"، كما ظهرت مقاطع أخرى لنجل المستشار وهو يتنمر ويسخر من شرطي مرور آخر، ومقطع ثالث وهو يقذف أحد المارة ببيضة في وجهه من داخل سيارته. على إثر ذلك، دشّن المغردون وسم #حمادة_ننوس_المستشار للتعبير عن غضبهم من أفعال نجل المستشار والمطالبة بمحاسبته، الأمر الذي دفع جهات التحقيق لحجز الطفل مرة أخرى ومعه 4 من أصدقائه.

غير أن جميع مَن هم داخل مصر وحتى مَن هم خارجها يعلمون أن القانون لا يُطبَّق على الفئات السيادية مثل الجيش والشرطة والقضاة، وبالطبع رجال الأعمال وأبنائهم، وكل مَن لهم نفوذ وظيفي أو سياسي، بينما تنحصر وظيفة تطبيق القانون فقط على الضعفاء والفقراء ومَن ليس لهم سند.(2)

 

ففي الحين الذي قرّرت فيه النيابة العامة، كما بيّنت في بيانها، عدم حبس الطفل مراعاة لأحكام المادة 119 من قانون الطفل، الذي ينص على عدم قانونية حبس أي طفل لم يتجاوز عمره 15 عاما، ففي الوقت ذاته، قامت قوات الداخلية في السنوات الماضية، خاصة منذ الانقلاب العسكري عام 2013، بالقبض على عدد كبير من الأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم 15 عاما، بل قامت بتعذيبهم وتدمير مستقبلهم، مثل الطفل محمود حسين وغيره من الأطفال الذين امتلأت بهم زنازين السجون والإصلاحيات في مصر.

وبالعودة لموضوع الطفل، فقد أصدر المستشار، والد الطفل، بيانا اعتذر فيه للمصريين ورجال الشرطة عن إساءة ابنه لهم، وأكّد أنه لا يوجد مَن هو فوق القانون، وقال: "تركت ابني من غير محامي عشان يعرف إنه مش فوق القانون". إلا أن القضية أخذت أبعادا أكبر، وسلّطت الضوء على ما يُعرف بازدواجية المعايير و"المحسوبية" والطبقية والنفوذ الوظيفي للجهاز القضائي في مصر.(3)

 

عنوان ميدان

الحقيقة أن الإجابة عن هذا التساؤل تبدو بديهية، لكننا عموما نطرح تساؤلات أخرى بصورة عكسية: إذا لم ينتشر المقطع المصور لنجل المستشار الذي أهان شرطي المرور على مواقع التواصل الاجتماعي، هل كان سيُحاسب؟ هل كان سيادة المستشار والد الطفل سيخرج ليعتذر للمصريين؟

 

والأهم من ذلك، علينا طرح السؤال الذي يعرف إجابته كل مصري وربما كل عربي: هل حقا القضاة وضباط الشرطة والجيش وأولادهم وذووهم متساوون مع باقي المصريين أمام القانون؟ هل جميع الأطفال الذين يُقبض عليهم يعاملون المعاملة التفضيلية نفسها التي تُراعي الحالة النفسية للطفل وتُوصي بعدم حبسه احتياطيا؟

 

أيًّا كانت الإجابة، تظل هذه الحالة "استثنائية"، ففي النهاية، يظل المتهم طفلا عمره 13 عاما، تلقّى تربية في نطاق محدد، وربما يكون المسؤول الأول عن سلوكه ذاك عوامل خارج الأسرة، لكن يظل السؤال الذي طرحناه أعلاه قائما: هل هي حالة فردية حقا؟

 

في الأسبوع نفسه الذي وقعت فيه حادثة "طفل المرور"، وقعت حادثة أخرى أشد غرابة، حين اقتحمت قوة من قسم الشرطة نادي سموحة الرياضي بمحافظة الإسكندرية وقبضت على ثلاثة مدربين من قطاع الناشئين بالنادي، وحوّلهم قسم الشرطة للنيابة العامة، وذلك بعد بلاغ قدّمه أحد المستشارين من أعضاء النادي إثر مشادة نشبت بينه وبينهم، بسبب عدم اختيار نجل المستشار (محمد قطب)، المستشار بمحكمة النقض، ضمن أحد الفِرَق بسبب ضعف مستواه!

وفق هذه الحادثة، وجّهت لهم النيابة اتهاما بالتعدي على المستشار، وحققت معهم 10 ساعات قبل أن تُخلي سبيلهم، ثم انتهى الأمر وديا دون المس بالمستشار ولا محاسبته.(4)

 

وبالعودة للوراء قليلا، في عام 2014 تحديدا، أوقف الرائد الحسيني زهران بإدارة مرور الجيزة سيارة "جيب شيروكي" يقودها شاب لا يتعدى عمره 20 سنة، وطلب منه التراخيص، خاصة أن السيارة كانت بدون لوحات أمامية، لكن قائدها رفض النزول وهدّد الضابط بوالده المستشار، فأوقف الضابط السيارة بالقوة وأمر المجندين بإنزال قائدها واحتجازه. بعدها، سرعان ما تلقى الضابط اتصالا هاتفيا من وكيل إدارة المرور بالجيزة، ونَهَر الضابط قائلا: "إزاي تحجز عربية مستشار؟ هو مش قالك إنها ملك مستشار". على إثرها، أُحيل الضابط للتحقيق، وانتهت القضية دون أدنى محاسبة للمستشار ونجله! (5)

 

هذه الأحداث ليست فردية بالتأكيد، ولم تحدث مصادفة، بل يمكن القول دون مبالغة إنها سلوك منهجي تتصف به حياة "طائفة القضاة" في مصر وأبنائهم، الذين يعرفون أنهم سيصبحون قضاة المستقبل بلا شك، فأحد أكبر أبواب الفساد المقنن داخل الجهاز القضائي في مصر هو تعيين أبناء القضاة ومنع غيرهم حتى لو كانوا متفوقين أو من أوائل كلية الحقوق، حتى إن وزير العدل السابق ورئيس نادي القضاة الأسبق "أحمد الزند" قد صرح قائلا: "مَن يهاجم أبناء القضاة هم الحاقدون والكارهون ممن يرفض تعيينهم، وستخيب آمالهم، وسيظل تعيين أبناء القضاة سنة بسنة، ولن تكون قوة في مصر تستطيع أن توقف هذا الزحف المقدس إلى قضائها".(6)

 

كما ذكرت جريدة الشروق المصرية في عام 2014 أن أبناء القضاة والمستشارين قد استحوذوا على نسبة 35% من تعيينات معاوني النيابة (7)، بالإضافة إلى تعيينات أقارب القضاة، فعلى سبيل المثال قام رئيس نادي قضاة طنطا عام 2012 بتعيين 40 فردا من أقاربه بمجمع المحاكم.(8) إذن، تحول الجهاز القضائي في مصر إلى طائفة متشابكة ومتصلة الدم والمصالح، وباتت بحكم الواقع منعزلة عن الشعب المصري، ويطرح ذلك التساؤل التالي:

 

عنوان ميدان

بسوق التوفيقية بالقاهرة، يمكنك أن تشتري شارة مزيفة لسيارتك (هيئة قضائية، النيابة العامة، محكمة النقض، النيابة الإدارية، نادي القضاة، نسر وزارة الداخلية، ميزان وزارة العدل، هلال وزارة الصحة)، هذه الشارة تُحوِّلك فورا إلى "باشا" لا يمكن إيقاف سيارته في أي "كمين"، هكذا يعتقد أغلب المصريين الذين يعرفون قطعا أن السيارات التي تحمل تلك الشارات والأشخاص التابعين لتلك المؤسسات السيادية غير خاضعين للمحاسبة أو أي قانون.(9)

بسوق التوفيقية بالقاهرة، يمكنك أن تشتري شارة مزيفة لسيارتك (هيئة قضائية، النيابة العامة، محكمة النقض، النيابة الإدارية، نادي القضاة، نسر وزارة الداخلية، ميزان وزارة العدل، هلال وزارة الصحة)

على الجانب الآخر، لا يُعرف في مصر قاضٍ أو مستشار تعرّض للمحاسبة القانونية رغم قضايا الفساد التي ملأت صحائف القضاة في مصر، فالقاضي الوحيد الذي رُفعت عنه الحصانة وقُيِّدت ضده قضية هو المستشار طارق محمد زكي مصطفى رئيس محكمة جنح مستأنف، حيث قُبض عليه في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 بأحد الأكمنة غرب السويس وبحوزته 693 فرش حشيش بوزن 173 كيلو و250 جراما، وصدر ضد المستشار بعد رفع الحصانة القضائية عنه 10 سنوات بالسجن وغرامة 500 ألف جنيه مصري (10)، إلا أنه حتى الآن، لا أحد يعلم إذا ما كان المستشار قد سُجن أم أن القضية تمت تسويتها.

 

الأمر نفسه تكرر مع المستشار رامي عبد الهادي رئيس محكمة جنح مدينة نصر، بعد أن قُبض عليه فور اتهامه بتلقي رشوة جنسية مقابل إنهاء قضية منظورة أمامه، بعد أن قدمت سيدة سورية بلاغا إلى الرقابة الإدارية تتهم فيه عبد الهادي بطلب رشوة جنسية منها مقابل إنهاء قضية تخصها، فوافق مجلس القضاء الأعلى على رفع الحصانة القضائية عنه، لكنه توصل إلى تسوية مع النيابة تقضي بتقديم استقالته مقابل حفظ القضية ونجاته من السجن، وصدر قرار بحظر النشر في القضية.(11)

 

ويبقى السبيل الوحيد لمحاسبة القضاة هو "مجلس التأديب والصلاحية" الذي يُحال إليه القضاة الذين يرتكبون مخالفات تتعلق بوظيفتهم، وليست مخالفات جنائية، ويتشكّل مجلس التأديب والصلاحية من ثلاثة من رؤساء محاكم الاستئناف، وأقدم ثلاثة من مستشاري محكمة النقض، وعند خلو وظيفة رئيس محكمة النقض أو غيابه أو وجود مانع لديه يحل محله الأقدم فالأقدم من أعضاء المجلس.

 

وللعلم، فإن هذا المجلس هو ذاته الذي أُحيل إليه المستشار محمود مكي وهشام البسطويسي بعد طعنهم في نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2005 (12)، لذلك، فمن المعروف أنه لطالما كان هذا المجلس أداة سياسية لاستبعاد القضاة غير المرغوب فيهم، الذين يعارضون الإجراءات السياسية للنظام الحاكم.

 

فبعدما قام القضاة بشرعنة الوضع الشاذ والاستثنائي للانقلاب العسكري في مصر عام 2013، قاموا أيضا بمد الجنرال وحاشيته بالغطاء القانوني لتبرير القتل والاعتقال والإعدامات والتصفيات خارج إطار القانون، بالإضافة إلى تقنين الإسراف في إصدار قرارات الحبس الاحتياطي وتجديده في غيبة المتهم، والحبس في وقائع غير مُجرَّمة مثل رفع إشارة رابعة، ومصادرة حق المتهمين في الدفاع، وعدم معرفة أماكن بعض المحبوسين، والقضاء بأقصى عقوبة على المتهمين.(13)

القضاة في مصر

حاول هؤلاء القضاة جني ثمار تأييدهم للنظام الجديد وصناعته، فطالبوا أن يُحصِّنهم الدستور الجديد من أي تدخل من سلطات الدولة في شؤون القضاة، ووصل الأمر بمطالبة القضاة بمزايا لأنفسهم لضمان استقلالهم عن سلطات الدولة، وعن أي مساس بسلطاتهم المطلقة، لكن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رفض كل تلك المطالب واستخدم القضاء كعصا غليظة يضرب بها خصومه، مدشنا أكبر تغوُّل عرفه القضاء المصري من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية.(13)

 

بذلك، لم يقبل السيسي من القضاة أي نوع من الاعتراض أو الانتقاد، وأحال ستين قاضيا لمجلس التأديب والصلاحية على خلفية توقيعهم على بيان تأييد شرعية الرئيس المعزول محمد مرسي في 24 يوليو/تموز 2013، رغم أن كثيرا من القضاة قد شاركوا في التحريض السياسي لدرجة أن المستشار أحمد الزند ومعه محمد عبد الرزاق ومحمد عبد الهادي فتحوا أبواب نادي القضاة لحركة "تمرد" لتوقيع استمارات انضمام القضاة إلى الحركة في سابقة لم تحدث في تاريخ القضاء المصري، وهو ما يُعَدُّ اشتغالا صريحا بالسياسة، وكما هو معروف، فلم يُحَل هؤلاء إلى مجلس تأديبي!(13)

 

  • باختصار؛ اتضح أن للقضاة المقربين من النظام مكانة مميزة وامتيازات خاصة لدى النظام العسكري في مصر.

 

عنوان ميدان

بداية من عام 2017، أقرّت الحكومة المصرية إضافة مكافأة جديدة على رواتب القضاة، بواقع 5 آلاف جنيه شهريا (280 دولارا)، على أن يبدأ صرفها بأثر رجعي عن شهور عام 2017-2018. ووضعت الحكومة المكافأة تحت بند "بدل طبيعة العمل الشاق"، لتُصرف لأكثر من 5500 قاضٍ بمختلف المحاكم الجزئية والكلية ومحاكم الاستئناف وقضاة محكمة النقض، وهو ما تزامن مع قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي بتشكيل اللجنة القضائية الخاصة بإدارة الأموال المتحفظ عليها لقيادات الإخوان المسلمين ومعارضي النظام، الذين صدر بحقهم قرارات تحفُّظ على الأموال.(14)

 

وطبقا لتصريحات رئيس اللجنة القضائية المشرفة على لجنة التصرف المستشار ياسر أبو الفتوح، فإن الأموال المتحفظ عليها منذ انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 وحتى الآن تبلغ 50 مليار جنيه (2.8 مليار دولار)، عبارة عن أصول وعقارات وممتلكات خاصة وأموال سائلة.(14)

 

إلا أن هذه الزيادة لم تكن الأولى ولا الفريدة من نوعها، إذا يحظى القضاة في مصر بعدة امتيازات مالية وسياسية تساوي تقريبا الامتيازات التي يحصل عليها لواءات القوات المسلحة. فبعد انقلاب عام 2013، أقر وزير العدل السابق أحمد الزند على رواتب القضاة وأعضاء النيابة العامة زيادة بنسبة 30% دفعة واحدة، وبرّر الزند قراره بأنه "أقل ما يمكن تقديمه للقضاة الذين يواجهون إرهاب الإخوان".(14)

كما يحصل القضاة سنويا على مبلغ 30 ألف جنيه (1700 دولار) فرقَ تسوية عن هيئة قضايا الدولة. أما الرواتب الشهرية، فتبدأ من 18 ألف جنيه (ألف دولار) راتبا أساسيا، ويضاف إليها خمسة آلاف جنيه (280 دولارا) تسوية شهور سابقة، و2400 جنيه (135 دولارا) فرق تسوية عن الشهر، و3 آلاف جنيه (180 دولارا) بدل مصيف، و3 آلاف جنيه (180 دولارا) مكافأة رمضان، و4000 جنيه (225 دولارا) بدل جهود غير عادية، و7400 جنيه (415 دولارا) حافز إنتاج، و2400 جنيه (135 دولارا) بدل علاج، بإجمالي شهري يصل إلى 45 ألف جنيه (2500 دولار)، بخلاف بدل الجلسات الذي يُصرف شهريا للقضاة، وكذلك بدل المرور الذي يُصرف لأعضاء النيابة (14)، بالإضافة إلى الحصانة القضائية التي تجعل القضاة منزهين عن أي محاسبة أو مساءلة قانونية، فهم فوق القانون وفوق الشعب.

 

على الجانب الآخر، يحظى القضاة بمكانة تصل إلى حد التقديس في الثقافة المصرية، فرغم قضايا الفساد التي يتورط فيها القضاة، ورغم الوقائع والجرائم التي يرتكبها أبناء القضاة، لا يتناول الإعلام المصري القضاة إلا بمنتهى الحذر الذي لا يتخذه هؤلاء الإعلاميون مع الأديان ولا حتى الأنبياء المعصومين من الخطأ!

 

عنوان ميدان

تعود تلك المكانة في الثقافة المصرية لتاريخ نشأة الجهاز القضائي في مصر، حيث كان القضاة على مر العصور التي تطور فيها الكيان السياسي الذاتي لمصر شخوصا ذوي قيمة، "يخرجون غالبا أو دائما من صميم المجتمع، أي من صفوف الأهالي بالتعبير القديم أو الشعب بالتعبير الحديث، في وقت كانت فيه سائر أفرع الجهاز الحاكم تتألف وتُقاد من أجانب أُرسِلوا من المركز الإمبراطوري في الخارج، أو جيء بهم إلى البلاد من أجل الحكم والحرب والجباية فقط لا غير، في عهود الاستقلال الذاتي للسلطة المحلية في مصر".(15)

 

ففي مقابل رجال الدولة والجيش والإدارة الأجانب كان العنصر المجتمعي (أو الأهلي أو الشعبي) بارزا في تكوين الجسم القضائي طوال التاريخ، "وإذا بدأنا بالعصر المملوكي المُشكِّل لبداية استقلال مصر السياسي الكامل عن الخلافة العباسية المحتضرة، واستمرت تقاليده حافظة لقدر كبير من الاستقلال الذاتي عن الدولة العثمانية، فقد كان علماء الدين هم عماد مرفق القضاء للأغلبية المسلمة، فيما كان آباء الكنيسة وأعيان الأقباط هم عماد القضاء المللي للأقلية القبطية، وكذلك الأمر بالنسبة للطوائف اليهودية الأقل عددا. ومن تحصيل الحاصل القول إن هؤلاء جميعا كانوا من الأهالي، بما أن أبناء طبقة السيف والكرباج والجباية لم يكونوا ينخرطون أصلا في سلك علماء الدين الإسلامي، ومن باب أولى لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بوظائف كهنوت الأديان الأخرى، وقد ظل هذا هو الوضع طوال العصر العثماني، رغم انفراد سلطان "إسطنبول" بتعيين قاضي القضاة، وإيفاده من عاصمة الدولة تحت اسم قاضي العسكر".(15)

قاضي القضاة بالدولة العثمانية
قاضي القضاة بالدولة العثمانية

فكان هذا التكوين الأهلي "قد ضمن للقضاء في مصر قدرا كبيرا من النزاهة والاستقلال ومن ثم الاحترام، والأهم من ذلك الشعور المتبادل بين القضاة والمواطنين بالانتماء إلى رابطة مجتمعية وقيمية واحدة، بمعنى عدم شعور القضاة بالانغلاق والاستعلاء الطبقي، واستمداد المكانة والهيبة من قدسية وظيفة إقرار العدالة ونصرة المظلومين، لا من التسلط الفئوي بمظاهره وأدواته".

 

من هنا، بدأ تاريخ ازدهار النخبة القانونية مع الإصلاحات التي مرّت بها مصر خلال القرن التاسع عشر، خاصة في نهايته، من افتتاح المحاكم المختلطة سنة 1876، ثم الأهلية سنة 1883، فمدرسة الحقوق الخديوية سنة 1886، وأخيرا نقابة المحامين سنة 1912 وما صاحب ذلك من قيادة النخبة القانونية لحركة الكفاح الوطني ضد الاحتلال وقيادة العمل السياسي أثناء مرحلة "التجربة الليبرالية" وفق دستور 1923، فضلا عن قيادة حركة من الكتابة والترجمة والنشر واسعة المجال، دخل فيها زعماء النخبة معارك في حرية الفكر والعقيدة، وقبل هذا وذاك في إصلاح الشريعة الإسلامية والنهوض بها لمهام القرن العشرين.(16)

 

وكان القانون والقضاء هو الرافد الأكبر لأغلب الشخصيات الوطنية مثل: مصطفى كامل وخليفته في زعامة الحزب الوطني محمد فريد، ومن مناصب القضاء جاء أكبر زعيمين لثورة 1919 وحزبها (حزب الوفد) سعد زغلول وخليفته مصطفى النحاس، كما كان القضاء من الروافد الأساسية للمناصب الوزارية ومناصب الإدارة العليا.

 

في كل تلك الأطوار حظي القضاء والقضاة بهيبة ومكانة بلغت حد القداسة لدى المصريين، دون حاجة إلى فرض تقاليد السطوة على المواطن العادي، ودون الحاجة إلى سوء استخدام النفوذ والحصانة والاستعلاء والطبقية المتوطنة لدى بقية مكونات أجهزة السلطة وفروعها، إذ حرص القضاء المصري قبل انقلاب يوليو/تموز 1952 على نبذ تقاليد الاستعلاء الطبقي في اختيار الملتحقين الجدد بهيئة النيابة العامة، وبالهيئة القضائية كلها. "فقد كان النحاس باشا مثلا ابن تاجر أخشاب من مدينة سمنود، وعمل فترة من الوقت في وظيفة عامل تلغراف في محطة السكة الحديد في تلك المدينة. وكان عبد العزيز فهمي باشا ابن مزارع من قرية كفر المصيلحة بمحافظة المنوفية، وكذلك كان توفيق الحكيم عندما عمل وكيلا للنائب العام فى بداية حياته المهنية، وذلك في وقت كانت المعايير الطبقية تُلقي بظلالها الكثيفة على ما يُسمى الآن بالمؤسسات السيادية الأخرى، لا سيما الجيش والشرطة".(16)

النحاس باشا و عبد العزيز فهمي باشا وتوفيق الحكيم

النحاس باشا وعبد العزيز فهمي باشا وتوفيق الحكيمإلا أن الأمر انقلب رأسا على عقب بعد حركة الجيش في يوليو/تموز 1952، فقد اختفت ادعاءات القضاء حول نزاهته عن التسيس، وقام مجلس الدولة وعلى رأسه السنهوري باشا بمد يد العون والمؤازرة إلى الحكومات المتعاقبة على حكم مصر حتى مارس/آذار 1954، وهيّأ السند القانوني والشرعية اللازمة لنظام يوليو العسكري، وقد كان أول مؤشرات هذا التحول فتوى المجلس في 31 يوليو/تموز 1952 التي أتت على هوى حكومة علي باشا ماهر ومن خلفها الضباط الأحرار في تجنُّب عودة الوفد إلى البرلمان، وسقوط كل الدساتير القديمة، بل أفتى السنهوري قائلا: "تضمن الفتوى الصادرة منا دعوة الحكومة إلى استخدام القوة إذا ما حاول مجلس النواب الوفدي المنحل الانعقاد من تلقاء نفسه"، الأمر الذي جعل وحيد رأفت عضو مجلس الدولة يثور في وجه السنهوري ومعه سليمان حافظ قائلا: "لا يليق بسدنة القانون وحرماته أن يستعدوا الحكومة على نواب انتخبهم الشعب لتمثيله، خاصة والوطن بصدد انقلاب عسكري لا يعلم إلا الله أين سيقود البلاد، وإن واجبنا كوننا حقوقيين مدنيين أن نتضافر لمواجهة ما يصاحب تلك الانقلابات العسكرية من خطر على الحريات".(17)

 

وبعد حادثة "ضرب السنهوري بالأحذية على سلم مجلس الدولة"، صدر في 18 يناير/كانون الثاني 1953 مرسوم بقانون اعتبر "كل تدبير اتخذه أو يتخذه القائد العام للقوات المسلحة بوصفه رئيس حركة الجيش التي قامت في 23 يوليو 1952، بقصد حماية هذه الحركة والنظام القائم عليها، من قبيل أعمال السيادة التي لا يجوز الطعن فيها أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة"، وتعاقبت المراسيم بقوانين تُعلن سقوط الدستور ثم حل الأحزاب وتحصين جميع التشريعات والتدابير الصادرة منذ 23 يوليو/تموز 1952 عن رقابة المحاكم، "وبينما بقي السنهوري على رأس قضاء إداري منزوع المخالب، لا سلطان لمجلس الدولة فيه حيال هذه التدابير الثورية المحصنة من رقابة المحاكم، استمر سيل المراسيم بقوانين صادرة عن وزارة نجيب، تارة بتعديل قانون الأحكام العرفية وإنشاء نوع جديد من المحاكم يجلس على منصة القضاء فيها خمسة من ضباط الجيش لمحاكمة أعداء النظام، وتارة أخرى باستحداث مجموعة من المحاكم الاستثنائية مثل "محكمة الغدر" في ديسمبر/كانون الأول 1952، ومن بعدها "محكمة الثورة" في سبتمبر/أيلول 1953، ثم إحالة أعداء النظام لهذه المحاكم الاستثنائية".(17)

 

ثم حدث الخلاف الأكبر بين نظام يوليو وبين القضاة، حين أصدر عبد الناصر عام 1969 عدة تشريعات قانونية تخص الجهاز القضائي، عُرفت تاريخيا بـ "مذبحة القضاة"(17)، إلا أن السلطة قد تراجعت عن تلك القرارات في عهد السادات، إذ حرص السادات منذ قيامه بثورة التصحيح لنظام يوليو على إيجاد منطق جديد يُضفي على النظام صبغة المشروعية المدنية مع إبقائه على سلطات القلب الأمني في الدفاع عن مصالحها، وهي مرحلة استمرت حسب الباحث عمرو الشلقاني حتى بداية أزمة القضاة 2005، فوصل معها نظام يوليو إلى آخر انقلاباته على الشرعية الدستورية قبل اندلاع ثورة 25 يناير.(18)

صورة تجمع بين الرئيس جمال عبد الناصر ومجموعة من قضاة مصر، ويظهر فيها القاضي عبد الرازق السنهوري على يسار ناصر. الأول من يسار الصورة هو المستشار محمد أبو نصير، وزير العدل السابق.
صورة تجمع بين الرئيس جمال عبد الناصر ومجموعة من قضاة مصر، ويظهر فيها القاضي عبد الرازق السنهوري على يسار ناصر.

وعمد نظام يوليو منذ عهد السادات على تمييز نفسه عن مرحلته الناصرية برفع وإعلاء شعارات من قبيل "دولة المؤسسات" واحترام "سيادة القانون" و"استقلال القضاء"، فكان اعتذار السادات عن مذبحتهم في خطاب أمام نقابة المحامين، ثم كان قراره بقانون رقم 85 لسنة 1971 بجواز إعادة تعيين بعض أعضاء الهيئات القضائية الذين عُزِلوا سنة 1969.(18)

 

فكانت النخبة القانونية المصرية من أهم المستفيدين من ذلك التحوُّل في علاقة نظام يوليو مع مبادئ الليبرالية القانونية وما صاحبه من تحوُّل "يميني" في سياسات الدولة الداخلية والدولية على حدٍّ سواء، حيث عاد المحامون لتولي القضايا وفتح مكاتبهم والعمل بالشركات المصرية والأجنبية، كما عاد للقضاة مكانتهم المستقلة عن النظام ولو جزئيا.(18)

 

وبحلول التسعينيات واشتراك جيش مصر في تحرير الكويت من الغزو العراقي مقابل إسقاط 10 مليارات دولار من ديون مصر الخارجية، بدأت الدولة المصرية تلتزم بتبني سياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية تحت إشراف خطة من صندوق النقد الدولي، وفي ظل تكامل اقتصادي كان يُرجى شموله للمنطقة الاقتصادية بأسرها، بما في ذلك إسرائيل في ظل "شرق أوسط جديد"، فكان أول عهدنا مع "الخصخصة" وخلافها في ظل حكومتَيْ الجنزوري ثم عاطف عبيد في نهاية التسعينيات، وكان معها بالطبع ازدهار غير مسبوق في عمل النخبة القانونية المساعد لذلك التحوُّل في السياسة الاقتصادية، ليس فقط في ازدهار وتنوُّع عمل مكاتب المحاماة الدولية بهذا الشأن، ولكن، وهو الأهم، في ظهور مناصب جديدة في جهاز الدولة الإداري يضطلع منه بعض أفراد النخبة القانونية على عملية التحوُّل لاقتصاد السوق، من قبيل هيئة سوق المال، والتمويل العقاري، ووزارة الاستثمار، وجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار، وغيرهم. (18)

 

خلال كل تلك العقود، استمرت كليات الحقوق في دورها التقليدي المتعلق بتخريج أفراد من النخبة القانونية الموالين لنظام الحكم في الشأن الداخلي، ممن أُطلق عليهم في العامية بـ "ترزية القوانين"، فكما تبوّأ من خريجي "كلية الوزراء" مَن عمل لمصلحة السراي والإنجليز قبل سنة 1952، من أمثال أحمد نسيم باشا، فقد اضطلع بالدور المؤيد ذاته للنظام في عهد مبارك أيضا من خريجي الكلية وأساتذتها الكثير من الأسماء اللامعة مثل: رفعت المحجوب، وعاطف صدقي، وفتحي سرور، ومفيد شهاب، ومحمد الرزاز، وآمال عثمان، وغيرهم، ناهيك بأسماء النخبة الموالية للنظام من داخل وزارة العدل والجهاز القضائي بمحاكمه المختلفة، حتى أصبح القضاة هم رجال الدولة وسندها المدني في عصر مبارك.

فتحي سرور ومفيد شهاب
فتحي سرور ومفيد شهاب

وكما فعل السنهوري في مد نظام يوليو وضباطه بالسند القانوني، كذلك فعل القضاة بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 مع الفارق، حيث بذل القضاة جهدا ضخما في إفشال سلطة الرئيس المعزول محمد مرسي والسلطة التشريعية وعرقلة الانتقال، وبعد أن أذاع الفريق عبد الفتاح السيسي بيان الانقلاب على محمد مرسي وعزله من منصب الرئيس وأعلن خارطة الطريق، هدأ النشاط القضائي تماما، وظهر أن غالبية القضاة يؤيدون خريطة المستقبل التي أعلنها العسكر، وقد شارك رئيس المجلس الأعلى للقضاء في مشهد بيان الانقلاب، كما وافق رئيس المحكمة الدستورية عدلي منصور على تولي منصب رئيس الدولة بصفة مؤقتة، "ما يُمثِّل مخالفة للدستور الذي استُفتي عليه سنة 2012، ومخالفة أيضا للحكم الذي أصدرته المحكمة بشأن صحة قانون الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز مرسي"(19)، وترك القضاة للسيسي حرية إصدار سيل من القوانين، وإنشاء المحاكم الاستثنائية، وأباحوا له حرية خرق القانون والدستور واستباحة دماء أي معارض، مقابل الامتيازات المالية والفئوية والطائفية التي حصلوا عليها.

 

وفق كل ذلك، لا يُعَدُّ مستغربا أن يجد أبناء الباشوات الجدد أنفسهم في وضع استثنائي يمنحهم شعورا أنهم طبقة عليا، طبقة تتجاوز الشرطة نفسها!

———————————————————————————————————-

المصادر

  1. صور| السيول تجرف السيارات.. ماذا حدث بطريق الغردقة – رأس غارب؟  تم حذف الموضوع من على موقع مصر العربية واستبداله بموضوع عن السيول
  2. ابن المستشار يُفجر غضب مواقع التواصل بمصر
  3. "نادي القضاة": لا يجب الربط بين خطأ طفل المرور وعمل والده
  4. “عاملوه كمواطن عادي”.. تفاصيل حبس مدربين نادي سموحه رفضوا ضم ابن مستشار بالفريق
  5. «الداخلية» تبدأ تحقيقاتها في مشادة «ابن المستشار والضابط»
  6. بالمستندات .. نكشف جانب من التوريث فى مؤسسة القضاء
  7. بالأسماء.. أبناء القضاة يستحوذون على 35% من تعيينات النيابة الجديدة
  8. القضاء الشامخ .. رئيس نادي قضاة طنطا يعين40 فردا من أقاربة بمجمع المحاكم
  9. "شرطة ولا نيابة يا باشا".. تحليل نفسي لأصحاب "الاستيكرات" الوهمية على السيارات
  10. تفاصيل محاكمة ‘قاضي الحشيش’.. حُكم بمؤبد وتغريم نصف مليون جنيه.. وتهديدات بالقتل واعتداءات بالضرب داخل القفص (فيديو وصور)
  11. جولة في بروفايل مستشار متهم بالرشوة الجنسية
  12. مرسي آخر ضحاياه.. كيف تحول القضاء المصري من حماية القانون إلى انتهاكه؟
  13. "امتطاء القضاء".. هكذا حول السيسي منصة العدالة إلى مسرح للعرائس
  14. زيادة جديدة برواتب القضاة.. هل هي رشوة من السيسي؟
  15. المكانة والسطوة: حول نشأة وتحولات القضاء المصري
  16. ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية، عمرو الشلقاني ، دار الشروق
  17. القضاء المصري وعبد الناصر.. قصة انهيار القانون في مصر
  18. ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية، عمرو الشلقاني ، دار الشروق
  19. "امتطاء القضاء".. هكذا حول السيسي منصة العدالة إلى مسرح للعرائس