هوس إلى حد الجنون.. لماذا يعشق البعض أبل إلى هذا الحد؟
"اسمي ريتشارد، وأنا مدمن، مدمن أبل"، بهذه العبارة عنون الناشط السياسي والكاتب في صحيفة الغارديان البريطانية "ريتشارد سيمور" قبل سبع سنوات مقالة له تحدَّث فيها عن إدمانه منتجات العلامة التجارية "أبل"، وأتبع العنوان بعبارة "ساعدوني"، فقد رأى آنذاك في سلوكه تجاه "ساعة أبل" هوسا غير طبيعي، فرغم أنه اعتبر الساعة قطعة تافهة وغالية الثمن، فإنه في الوقت نفسه كان يشعر برغبة قوية في امتلاكها، ويتوق إلى الحصول عليها معتبرا إياها قطعة جميلة يجب أن يضعها حول معصمه (1).
لا يبدو سيمور وحيدا في هوسه هذا، فقد وصل عدد مستخدمي "أبل" حول العالم إلى أكثر من مليار شخص، وهناك أكثر من 113 مليون مستخدم في الولايات المتحدة وحدها (2)، وبينما يتنوَّع جمهور العلامة الشهيرة ليضم فئات عمرية ومجتمعية مختلفة، يترقَّب كثيرون الفرصة التي تُمكِّنهم من دفع ثمن أجهزة "أبل" والانضمام إلى هذا النادي الواسع الذي يتشوَّق أعضاؤه إلى الحصول على مزيد من أجهزة "أبل" أو حتى على النسخ الأحدث من الأجهزة التي يقتنونها بالفعل، وربما يدفع هذا الشوق بعضهم إلى تتبُّع كل الأخبار عن مؤتمر "أبل" السنوي لتلبية نَهمهم، لذا إذا كنت تعرف واحدا من هؤلاء، فمن المؤكَّد أنه حظي بساعات حافلة ومثيرة خلال الليلة الماضية أثناء متابعة المؤتمر السنوي الجديد.
علاقة شخصية
يرى متخصصون أن العلاقة التي تربط الأشخاص بالعلامات التجارية هي علاقة تشبه إلى حدٍّ كبير علاقة البشر ببعضهم، فقد أصبح للعلامات التجارية قيمة ومعنى لدى المستهلكين، وهذا يجعلهم ينظرون إليها كأنها شريك أو إنسان حقيقي (3)، إنها علاقة شخصية تنعكس على سلوك الشخص، ونظرته لذاته، بل وحتى على علاقته بالأصدقاء والعائلة والمحيط من حوله.
يختلف نوع هذه العلاقة فتأخذ صورا مختلفة، إحداها هو "حب العلامة التجارية"، وفيها يتعلق المستهلك بعلامة "أبل" تعلُّقا عاطفيا، وكذلك هناك "الشغف بالعلامة التجارية"، وهنا يكون الرابط العاطفي أقوى لدرجة تجعل المستهلك يُعظِّم الشركة ومنتجاتها، ويعتقد بأهميتها الكبرى مقارنة بمنافسيها الموجودين حاليا في السوق العالمية، وتزيد لديه الرغبة بامتلاك منتجاتها واستخدام خدماتها، بل إنه أيضا يربطها بهويته ويستثمر أو يدفع من موارده لتحقيق ذلك!
من صور العلاقة أيضا "الثقة بالعلامة التجارية"، وهو نمط أقل هوسا يرى فيه المستهلك أنه يمكنه الاعتماد على قدرة منتجات "أبل" لأداء الوظيفة المصممة لأدائها، كالثقة في كفاءة هواتف آيفون من حيث التصميم الخارجي وقدرة الكاميرا، أو أجهزة "ماك" فيما يخص العمل المكتبي، أو "ساعة أبل" لمراقبة السلوك الصحي، وأخيرا هناك نمط "الولاء للعلامة التجارية"، حيث يُظهِر الشخص التزاما عميقا تجاه "أبل"، ويظهر هذا الالتزام في إعادة شراء منتجات الشركة مستقبلا وتكرار استخدامها رغم محاولة المنافسين تغيير سلوكه أو جذبه لتجربة منتجاتهم المشابهة (4)، لكن هل يمكن أن تتحوَّل علاقة الحب هذه إلى إدمان؟ وإن حدث فهل سيكون إدمانا حقيقيا؟
إدمان حقا؟!
تعتقد "سوزان فورنير"، أستاذة وعميدة كلية الأعمال في "جامعة بوسطن" الأميركية، في أحد أشهر أبحاثها حول العلاقة بين المستهلك والعلامة التجارية أنه يمكن تصوُّر هذه العلاقة كمثلث، ضلعه الأول التعلُّق بالعلامة التجارية الناتج عن الحب والشغف والاتصال بها الذي يجعل المستهلك يشعر بالوحدة معها وبانتمائه إليها، وضلعه الثاني الرابط السلوكي تجاه العلامة التجارية من خلال الالتزام والاعتماد على العلامة التجارية، ويتمثَّل الضلع الثالث في المعتقدات الشخصية حول العلامة التجارية كالنظرة إلى جودة منتجاتها، وترى "سوزان" أن المشاعر الناتجة عن هذه الأضلاع الثلاثة قد تتفاوت في شدتها من المشاعر الخفيفة إلى القوية التي يمكن أن تصل بصاحبها إلى الإدمان (5)، ويؤيدها باحثون آخرون يؤكدون أن هذا النوع من العلاقة الشخصية بين العلامة التجارية والمستهلك يُنشِّط مكانا في دماغ الشخص هو المسؤول عن حدوث الإدمان، تماما كما يحدث في حالة إدمان الكحول والنيكوتين (6).
بالعودة إلى "ريتشارد" وغيره ممن يشاركونه الفكرة نفسها، ربما تطوَّر حب "ريتشارد" لـ"ساعة أبل" ووصل في قوته إلى درجة الإدمان، لكن هل نظرة "ريتشارد" للأمر تكفي للحكم عليه أنه مدمن لـ"أبل" كما يقول؟ وكيف يمكن أن نُميِّز بين الحب والولاء لشركة مثل "أبل" وبين إدمان منتجاتها؟
رغم أن هناك تشابها بين الولاء وحب وإدمان العلامة التجارية، فإنه ليس للولاء أو الثقة بالعلامة التجارية أي تأثير في التحوُّل إلى إدمانها (7)، حيث إن هناك فرقا علميا واضحا بين هذه المفاهيم، ويمكن استخدامه للتعرف إلى صورة علاقة المستهلك بعلامته المحببة، فإدمان العلامة التجارية يحمل ملامح السلوك الإدماني المعروف في أوساط الطب، ويتسم بتطرُّف في سلوك المستهلك يظهر في تأثُّره العاطفي بمنتجات أبل، والإلحاح الداخلي المبالغ فيه للحصول عليها بأي ثمن، وتحت أي ظروف.
لفهم هذا الأمر، طوَّر فريق بحثي مُكوَّن من د. منى مراد، أستاذ مساعد بالجامعة الأميركية بالشارقة، ود. تشارلز كوي، الأستاذ بجامعة ويستمنستر البريطانية، مقياسا لقياس إدمان المستهلك للعلامة التجارية وعُرف باسم "باسكيل"، وأكَّدا في بحثهما أن إدمان العلامة التجارية يشمل الانشغال العقلي والسلوكي بعلامة تجارية معينة مدفوعا برغبة وإلحاح داخلي غير مُتحكَّم فيه بامتلاك منتجات العلامة التجارية لتحقيق الإشباع والرضا العاطفي، إذا نظرنا إلى "أبل" فإن شعور المستهلك برغبة قوية يصعب السيطرة عليها للحصول على أيٍّ من منتجات أبل، والتفكير المستمر في تحقيق ذلك، وحصول الرضا العاطفي بعد ذلك، يُعَدُّ مؤشرا على إدمان "أبل" (8).
هذا الإدمان قد يؤثر على حياة الشخص بصور عدة، وقد يصل بالمدمن إلى مضاعفات مماثلة لإدمان الكحول وغيره كاضطرابات النوم، والصعوبة في التركيز، وتدهور الأداء الأكاديمي والرياضي، وحتى العلاقات الاجتماعية، وقد يؤدي حب التملك الذي يتسم به إلى ظهور أعراض أخرى كالأرق والاكتئاب واضطراب رغبة التملك، إضافة إلى أن مدمني العلامة التجارية لا يكترثون بالتكلفة المادية لها، وليس لديهم الرغبة بالحصول على أي بدائل أخرى (9)، لكن كيف يحدث هذا؟ وهل للعلامات التجارية مثل "أبل" دور في ذلك؟
إلى أقصى درجة
يرى باحثون في علم الأعصاب أن تعرُّض الأشخاص لتجارب مختلفة ومذهلة يُحفِّز أدمغتهم لإفراز مواد كيميائية تُسبِّب شعورهم بالسعادة والرضا الذاتي والرفاه، وباستمرار التعرُّض لها يحدث الإدمان على مسببات أو مصدر هذه التجارب، ويبدو أن العلامات التجارية التقنية الشهيرة ومن بينها "أبل" تعلم هذه الحقيقة، فتُركِّز على تعزيز الرابط العقلي بين المستهلك ومنتجاتها (10).
يحدث هذا من خلال ابتكار منتجات تقنية صديقة للمستهلك، ستجد مثلا أن منتجات "أبل" تتسم كما وصفها مستخدموها بسهولة الاستخدام، وثبات الجودة، والتطور المستمر (11)، بل إن الشركة أيضا تحرص على التوسع لتستوطن عالم مستهلكيها بدءا من الهواتف والأجهزة المكتبية إلى ساعة اليد والمحفظة المالية وأجهزة المنزل، وتخترق مجتمعات مختلفة لتُقدِّم خدماتها لهم عن طريق تقديم خدمات تعلُّم البرمجة مجانا للأطفال على سبيل المثال، كما تعمل بشكل مكثف لزيادة جماليات أجهزتها مع المحافظة على بساطة استخدامها لغير المتخصصين وزيادة جودتها والتحكم في أسعارها (12)، والأهم المحافظة على روح الابتكار فيها من خلال تقديم حلول ومزايا جديدة تفوق دائما رغبات المستهلك (13).
حسنا، لا يبدو هذا سيئا تماما، لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد. وكما حدث في الأيام الماضية قبيل مؤتمر "أبل"، تكتظ المنصات الإلكترونية عادة بالإعلانات المشوِّقة، وبعض التسريبات التي لا تُقدِّم تفاصيل عن المنتجات الجديدة بقدر ما تساهم في زيادة هذا التشويق، وذلك بهدف استثارة محبي "أبل" عقليا ودفعهم إلى التفكير في منتجاتها الجديدة وبناء التوقعات حولها، فتنجح بذلك الشركة في خلق الرابط العقلي معهم، ورفع مستوى الطلب على التجربة الجديدة، وزيادة توقعات الرفاه منها (14)، ولسوء الحظ، فإن هذا ليس كل شيء أيضا.
عادة ما تحرص "أبل" والعلامات التجارية الأخرى على ملامسة الاحتياجات النفسية لدى مستخدميها (15)، وبالنسبة لمنتجات أبل على وجه الخصوص، فإنها باتت ترتبط بالتقدير الشخصي للمستهلك وكيف ينظر إلى ذاته وقيمته الشخصية. هذا التقدير يتأثر بالصورة التي يحب أن يظهر عليها في المجتمع وتُشكِّلها اليوم بطريقة ما مقتنياته وما يرتديه. بعبارة أخرى، صار اقتناء منتجات أبل جزءا من الصورة النمطية للموظف المُنتج أو للفتاة العصرية، وهو ما يدفع الملايين إلى اقتنائها من أجل التأقلم مع هذه الصورة والمحافظة على التقدير الذاتي.
رجال أبل
على جانب آخر، فإنه حين يحصل مدمن "أبل" على أي منتجاتها أو يستخدم خدماتها، فإنه يشعر بالسعادة، وهذا ينعكس إيجابا على رفاهيته، وتقييمه لسعادته في حياته عموما، بل إن هناك باحثين يؤكدون أن الشخص قد يُدمن على علامة تجارية ما كي يُحسِّن مزاجه ويشعر بالمتعة. بمعنى آخر، فإن بعض مدمني "أبل" يستمدون سعادتهم من الإدمان على منتجاتها وخدماتها.
هذا الهوس عادة ما يُحوِّل الشخص إلى قناة تسويقية لعلامته المحببة، فتجد مدمن "أبل" لا يمل من تشجيع مَن حوله على تجربة منتجاتها والتمتع بالخبرة نفسها (16)، لكن هذا الحماس قد يتطوَّر لينتج لدى الشخص اضطرابات سلوكية مثل اضطراب التسوق القهري أو ما يُعرف بـ"هوس الشراء" وغيرها، وقد يُعرِّض ذلك الشخص لمشكلات مالية ويؤثر على قراراته الشخصية كالرغبة بالعمل لساعات طويلة أو أداء مهام مجهدة لزيادة قدرته على تحقيق الرفاهية من خلال شراء منتجات العلامة التجارية التي يُفضِّلها (17).
تماما كما يُتعامَل مع أي اضطراب سلوكي، قد يُفيد التعلُّم عن الموضوع بصورة مُفصَّلة في التعامل معه وتفادي الوصول إلى الآثار السلبية لحب "أبل" أو غيرها من العلامات التجارية، سيساعد التعلُّم عن إدارة المال والادخار في التحكم بالرغبة المُلِحَّة التي تدفع الشخص إلى ملاحقة كل جديد، لكن عندما تخرج الأمور عن السيطرة يُنصح دائما بطلب الدعم والحصول على الاستشارة التخصصية أو النفسية للتعامل مع هذا التحدي (17).
——————————————————————————————————————-
المصادر:
1: My name is Richard and I am an addict – an Apple addict
2: HOW MANY PEOPLE USE IPHONES IN 2022?
3: Investigating the causes and consequences of addiction to high-Tech brands
4: Brand addiction: Exploring the concept and its definition through an experiential lens
5: Consumers and Their Brands: Developing Relationship Theory in Consumer Research
6: Investigating the causes and consequences of addiction to high-Tech brands
7: المصدر السابق.
8: Brand addiction: conceptualization and scale development
9: Investigating the causes and consequences of addiction to high-Tech brands
10:How Apple Neurologically Hooked Its Customers
11: HOW MANY PEOPLE USE IPHONES IN 2022?
12: Why Apple Is Still A Great Marketer And What You Can Learn
13: Brand addiction: brand characteristics and psychological outcomes
14:How Apple Neurologically Hooked Its Customers
15: Investigating the causes and consequences of addiction to high-Tech brands