كيف تحولت العملات المشفرة إلى "شرير" النظام المالي العالمي؟

"إما أن تموت بطلا، وإما أن تحيا بما يكفي لترى نفسك وأنت شرير!".
(هارفي دينت، من فيلم "فارس الظلام" (The Dark Knight))
هناك الكثير من الطرق لامتلاك المال على تفاوت شرعية هذه الطرق: يمكنك ببساطة أن تكسبه، أو ترثه، أو تعثر عليه، أو تزوِّره، أو تسرقه، إما إذا كان اسمك ساتوشي ناكاموتو، وكنت مبرمجا موهوبا، فيمكنك ببساطة أن تخترعه.
في مساء الثالث من شهر يناير/كانون الثاني عام 2009، كان ذلك تحديدا ما فعله السيد ناكاموتو، عندما ضغط على بضعة أزرار على لوحة المفاتيح الخاصة به، وأنشأ عملة جديدة أطلق عليها "بيتكوين" (Bitcoin). كان كل شيء يعتمد على وحدة التخزين الرقمية "البت" (Bit) دون وجود فيزيائي للعملة، لم يكن هناك ورق أو نحاس أو فضة، بل مجرد واحد وثلاثين ألف سطر من الأكواد البرمجية وإعلان على شبكة الإنترنت. (1)
ناكاموتو، الذي لا يعرف أحد هويته الحقيقية إلى اليوم، يدعي أنه رجل ياباني يبلغ من العمر ستة وثلاثين عاما، وأنه قضى أكثر من عام في كتابة الكود البرمجي للعملة، مدفوعا بغضبه من الأزمة المالية الأخيرة عام 2008. لقد أراد إنشاء عملة حصينة ضد السياسات النقدية المتقلبة وضد افتراس السياسيين ووحوش المصارف العالمية! يُتحكم بهذا الاختراع الجديد بالكامل بواسطة البرمجيات، التي ستطلق ما مجموعه واحد وعشرون مليونا من عملة بيتكوين، معظمها تقريبا على مدار عشرين عاما قادمة. كل عشر دقائق تقريبا ستُوزع العملات، وأسرع جهاز حاسوب هو الذي سيفوز بأكبر قدر من المال!
حلم البلوك تشين
سرعان ما تزايد الاهتمام باختراع ناكاموتو الجديد، واستغل المزيد من الأشخاص أجهزة الحاسوب الخاصة بهم لممارسة "تعدين" هذه العملة، وظهرت أربع وأربعون بورصة تسمح بتداولها، مما سمح لأي شخص لديه عملات بيتكوين بتداولها مقابل عملات رسمية مثل الدولار أو اليورو. وهكذا أصبح بإمكان مهندسي الحاسوب المبدعين تعدين العملة، وبإمكان أي شخص شراؤها.
سيسمح الكود البرمجي بإرسال الأموال مباشرة بين الأشخاص، دون وسيط، ولا يمكن لأي طرف خارجي صنع المزيد من عملة بيتكوين، مثلما تُطبع العملات الورقية. لن تلعب البنوك المركزية أو الحكومات أي دور في هذا. لو كان ساتوشي ناكاموتو يدير العالم لكان قد أغلق البنك الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوروبي، وربما أغلق ويسترن يونيون. كل شيء يعتمد على إثبات التشفير بدلا من بناء الثقة في تلك المؤسسات المالية العالمية. مثلما ذكر ساتوشي: "المطلوب نظام دفع إلكتروني يعتمد على إثبات التشفير بدلا من الثقة التقليدية في المؤسسات".
ما جاءت به فكرة البلوك تشين تحديدا هو التخلص من مركزية البنوك ووحوش النظام المالي العالمي، وأن يملك المستخدم الحق في نقل الأموال دون رقابة من أي جهة، وأن نتوقف عن الثقة في تلك المؤسسات التي "تضيع أموالنا وتأخذ نسبة عند إجراء التحويلات المالية المعتادة"، كما روَّج مؤيدو البيتكوين والعملات المشفرة. لكن هل ما حدث بعد ذلك في سوق العملات المشفرة يُثبت صحة الفكرة؟ أم ينطبق عليها مقولة هارفي دينت: إنها عاشت بما يكفي لترى نفسها وهي تلعب دور الشرير في القصة؟ هنا قد تجيبنا قصة انهيار شركة "FTX" الأخيرة وخسارة مؤسسها سام بنكمان فريد لثروته بالكامل، ومعها خسارة المليارات من الدولارات من أموال العملاء والمستثمرين في المنصة. (2)
لكن الأمر لم يقتصر على خسارة الأموال فحسب، لأن المعضلة في الفجوة الضخمة بين النظريات وما يحدث على أرض الواقع، إذ يعمل الأشخاص المشاركون في عالم الكريبتو اليوم بناء على أسطورة تأسيسية تمتلئ بالكثير من التناقضات: نحن اخترعنا العملات المشفرة للتخلص من مركزية النظام المالي العالمي لنحمي أموالنا من نظام غير موثوق، نحن لا نريد وسيطا للتداول يجني مليارات الدولارات من أموالنا، نحن نرغب بالسرية والحفاظ على تعاملاتنا المالية دون أن يعرفها أحد غيرنا. لكن ما يحدث على أرض الواقع يضرب كل تلك الأفكار في مقتل.
انهيار الثقة
البعض يُشبِّه انهيار منصة "FTX" بأنها نسخة العملات الرقمية لانهيار بنك "ليمان براذرز" (Lehman Brothers) عام 2008 الذي اشتعلت بعده الأزمة الاقتصادية العالمية. ومثلما أثار انهيار البنك حينها موجة من إعادة التفكير في الرهن العقاري، فإن انهيار "FTX" سيسبب إعادة تقييم عالم العملات المشفرة بأكمله. المشكلة الرئيسية هنا أن إمبراطورية سام بانكمان فريد كانت قائمة على عدّة أشياء في الوقت نفسه، شركة لتداول العملات المشفرة وشركة للإقراض ورهن الأصول، بل وعملة تداول خاصة بها، كل هذا خلق تركيزا للقوة والسلطة في مكان واحد، وهو للمفارقة عكس ما تبشر به فكرة التشفير واللا مركزية في عالم العملات المشفرة.

حسنا هذا ليس كل شيء. لفهم الأزمة أكثر ربما علينا العودة إلى عام 2017، حين أصدرت "بينانس" (Binance)، أشهر منصة لتداول العملات المشفرة، عملتها الرقمية الخاصة "BNB" التي تُصدر على شبكة البلوك تشين، وهي عملة صممتها لمكافأة العملاء على بعض الأفعال مثل التداول على المنصة، أو إحالة بعض الأصدقاء إليها. (3) ومنذ ذلك الحين، تمتلك كل منصة لتداول العملات الرقمية عملتها الخاصة، أو "التوكين" (Token) الخاص بها. وسرعان ما تضخمت قيمة هذه العملات إلى عشرات المليارات من الدولارات، وتحولت في الأغلب إلى حجر الأساس الذي يتكئ عليه سوق الأصول الرقمية سريع النمو في السنوات الأخيرة.
لنأتي الآن إلى عملة "FTT" الخاصة بمنصة "FTX". وصلت هذه العملة إلى أعلى قيمة لها في عام 2021، وبلغت قيمتها السوقية نحو 9.4 مليارات دولار، ولكن على العكس من الأسهم التقليدية مثلا، التي تُمثِّل ملكية قانونية لحاملها في أصول الشركة، فإن عملة "FTT" لا تُمثِّل أي ملكية في أسهم شركة "FTX". وإذا كانت هناك أي قيمة لعملة "FTT" فهي أنها كانت تمنح خصومات لعملاء المنصة ممن يستخدمونها للتداول بنسبة تصل إلى 60% للمتداولين النشطين. (4)
يمكنك تشبيه تلك العملات الخاصة بمنصات التداول على أنها أقرب إلى نقاط الولاء أو المكافآت التي قد تحصل عليها إن كنت زبونا دائما لدى مقهى ستارباكس أو غيرها من الشركات التي تقدم تلك الميزة. هذه النقاط تملك قيمة لكن داخل ستارباكس فقط، ولا يمكنك الذهاب للبنك واستخدامها ضمانا على قرض لشراء منزل مثلا.
ومع ذلك، في عالم الأصول الرقمية الغريب والمتقلب للغاية، تُتداول رموز الولاء على العديد من منصات تداول العملات المشفرة تماما كما يتداول المستثمرون الأسهم في البورصة، والأصعب من هذا أن سام بانكمان فريد نفسه استخدمها ضمانا للقروض التي تمنحها شركته الأخرى "ألاميدا ريسرش" (Alameda Research). خلال الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، وقبل الانهيار الأخير، كانت قيمة عملة "FTT" واحدة تساوي نحو 25.7 دولارا تقريبا، والآن وصلت قيمة العملة إلى 1.3 دولار بانهيار صاروخي.
تلك القيمة كان مصدرها أمرا واحدا فقط: وعد من منصة "FTX" بأن امتلاكك لعملتها يعني أنك تملك ما يعادلها من الدولارات الحقيقية. مرة أخرى، يجب أن تثق في المنصة ومؤسسها، وتتعامل على أساس تلك الثقة، وأن الشاب سام لن يعبث بأموالك الحقيقية، في تكرار للتصور الأصلي لعالم الكريبتو عن البنوك التقليدية في النظام المالي العالمي!
الحاجة إلى الرقابة!
في الأسواق التقليدية، تحاول الشركات الحد من المخاطر التي قد تتعرض لها عبر الحفاظ على "الملاءة المالية"، وتعني امتلاك الشركة دائما لأصول تفوق التزاماتها حتى إذا عانت في أيٍّ من المراحل من مشكلات في توفير "السيولة النقدية". تكفل هذه "الملاءة" للشركة القدرة على توفير السيولة اللازمة عبر بيع أصولها سريعا دون أن تفقد تلك الأصول الكثير من قيمتها، أو عبر الحصول على قروض لتغطية نفقاتها بضمان أصولها المستقرة.
لكن عالم الكريبتو يعمل غالبا بحذر أقل بكثير من القطاع المالي التقليدي، وشركة "FTX" ليست استثناء، فنحو ثلثي الأموال التي تدين بها الشركة للأشخاص الذين امتلكوا عملات مشفرة على منصتها كانت تدعمها بأصول من العملات المشفرة التي صنعتها الشركة بنفسها، وليس من خلال أصول ذات قيمة حقيقية. (5)
دعنا نشرح الأمر بمثال نظري، لنفترض أنك صاحب شركة أو منصة تداول يمنحك العملاء أموالهم، ونجحت في جمع ما قيمته 16 مليار دولار سواء كانت بالعملات الورقية أو المشفرة، هنا ستحتفظ أنت بتلك بالأموال وتدين للعملاء بها. ربما تحتفظ بأموال العملاء في الصورة نفسها (دولار، بيتكوين، إلخ)، وفي سيناريوهات أخرى سوف تستثمر بعض هذه الأموال في أنواع أخرى من الأصول.
أنت الآن مقيد بالتزامات وهي أموال العملاء التي تدين لهم بها، وتملك أصولا وهي الأشياء التي اشتريتها بتلك الأموال. لذا إذا كانت شركتك ملزمة بمبلغ 16 مليار دولار، فيجب أن تملك أصولا تساوي في القيمة 16 مليار دولار، بالعملات والقيم نفسها التي أودعها المستثمرون أو على الأقل قابلة للتحويل إلى تلك الصورة في أي وقت. لكن ما حدث مع سام بانكمان أن معظم أصوله كانت عملة رقمية اخترعها بنفسه، وقال إنها ببساطة تساوي 16 مليار دولار.
أين ذهبت الأموال الحقيقية إذن؟ لا يزال هذا هو السؤال الأكبر، والإجابة المباشرة أن بانكمان ضخ جزءا من هذه الأموال في شركته الأخرى "ألاميدا ريسرش". ظل الوضع متماسكا ما دامت ثقة الناس قائمة في الشاب الأميركي الغني الذي يملك ثاني أكبر بورصة تداول للعملات المشفرة، لكن الوضع انفجر عندما قرر المستثمرون ببساطة بيع عملاتهم الرقمية على المنصة. هنا لم تملك شركة "FTX" ما يكفي من الأصول السائلة لتلبية تلك المطالب، وانهارت قيمة عملة "FTT" وأصبحت الشركة مدينة بأموال لعملائها أكثر مما تملك من أصول.
هذا هو مفهوم الذعر المَصْرَفي، عندما لا يستطيع البنك مواكبة وتيرة عمليات سحب الأموال، ولكن هذا لا يحدث عادة للبنوك التقليدية لأنها تعمل وفقا لقوانين تمنعها من التصرف بصورة عشوائية وغير مبالية بودائع وأموال العملاء، ففي البورصات الخاضعة للقوانين التنظيمية، تُعَدُّ المضاربة بأموال العملاء أمرا مخالفا للقانون، إلى جانب أن الهيئات التنظيمية تراجع وتتأكد من صحة البيانات المالية للبورصة، ويجب على الشركات أن تشارك كمية الأموال التي تحتفظ بها احتياطيا متاحا لتمويل عمليات سحب العملاء لأموالهم. وحتى إن ساءت الأمور أكثر، وتعثرت الشركات في السداد، فهناك هيئات، مثل هيئة حماية مستثمري الأوراق المالية، تحمي المودعين من فقدان استثماراتهم في حال انهيار شركات التداول في البورصة. (6) لكن لا يوجد أي شيء من هذه التحصينات في عالم الكريبتو. ونتيجة لهذا الانهيار، تدرس شركة "بينانس" الآن إنشاء صندوق مماثل لتجنب الانهيارات القادمة أو أي تعثر لشركات التداول في المستقبل.
To reduce further cascading negative effects of FTX, Binance is forming an industry recovery fund, to help projects who are otherwise strong, but in a liquidity crisis. More details to come soon. In the meantime, please contact Binance Labs if you think you qualify. 1/2
— CZ 🔶 Binance (@cz_binance) November 14, 2022
اللا مركزية والسيطرة!
خلال الأشهر الماضية، باتت أخبار انهيار سوق العملات المشفرة أمرا معتادا، ولكن حتى بالنسبة لصناعة معروفة بتقلباتها الثائرة، فإن سقوط بانكمان جاء بمنزلة ضربة قاتلة. فمن المفترض أنه كان الفتى المعجزة لهذا العالم، وأنه يملك رؤية لمستقبل الصناعة كان يتخيل فيها أن تداول العملات الرقمية سيكون بسهولة التسوق على أمازون.
ومع اقتراب عام 2022 من نهايته، يبدو أن العملات الرقمية في أضعف أحوالها، والأهم أنها أظهرت، مرة تلو الأخرى، خضوعها لسيطرة صناعة تشبه النظام المالي الذي خرجت للثورة عليه في المقام الأول. مثلا وجدت دراسة أجراها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، العام الماضي 2021، أن أعلى 10 آلاف حساب لعملة البيتكوين تملك نحو خمسة ملايين من العملة الرقمية. في وقت الدراسة كان هناك نحو 114 مليون شخص على مستوى العالم يملكون العملة المشفرة، وهذا يعني أن نحو 0.01% من حاملي البيتكوين يسيطرون على 27% من كمية العملة البالغ عددها حتى الآن 19 مليون عملة متداولة. (7) بعبارة أخرى، فإن اقتصاد بيتكوين أقل مساواة بكثير من اقتصاد الدولار الحالي، لأن تركيز العملات المشفرة وقوتها وسلطتها تساوي أو ربما تتجاوز نظيرتها في أسواق المال التقليدية.
أضف إلى ذلك أن منصات التداول المركزية، مثل منصة "FTX"، التي من المفترض أنها أسهل طريقة للمستثمر العادي ليشق طريقه إلى عالم الكريبتو، لا تزال تُمثِّل قدرا هائلا من المخاطر، وعندما تنهار تلك الشركات، كما حدث خلال الفترة الأخيرة، فإن أموال المستثمرين ستختفي معها بكل بساطة.
لكن المشكلة أكثر عمقا من مجرد فقدان الأموال، لأننا كما عرفنا أن عالم الكريبتو قام على فكرة تأسيسية واحدة وهي عدم الثقة في البنوك، وأن الشخص يمكنه الاحتفاظ بأمواله بنفسه وطريقته الخاصة. إذا كانت البيتكوين وأخواتها، من الناحية الفنية على الأقل، قادرة بأن تكون مخزنا للقيمة كالذهب مثلا، فلا يوجد أي ضمان من أي نوع أن قيمة تلك الأكواد الرقمية لن تنهار إلى الصفر يوما ما، وذلك بفضل تصرفات عشوائية لعدد من المليارديرات الذين يتحكمون في الصناعة ويملكون أثرا هائلا على السوق. ما يحدث الآن في الحقيقة هو خيانة واضحة لحلم التشفير اليوتوبي الذي بشَّرنا ذات يوم بمستقبل مالي مزدهر دون وسطاء أشرار يسرقون أموالنا.
________________________________________
المصادر: