شوشين.. تعرف على الفلسفة اليابانية التي ساعدت ستيف جوبز في بناء شركة أبل

قبل يوم واحد من عيد ميلاده التاسع عشر في 24 فبراير/شباط من عام 1974، كتب ستيف جوبز إلى صديق طفولته تيم براون خطابا من صفحة واحدة يشرح له فيه بعض الأفكار حول البوذية، ويخبره بأنه يخطط للسفر إلى الهند وأنه يدخر المال خصيصا لهذا الغرض(1). بعد شهور ذهب ستيف جوبز إلى وجهته بالفعل في الرحلة الشهيرة التي قضى فيها نحو 7 أشهر، باحثا عن "التنوير الروحي"، ليعود برأس حليق يحمل الكثير من الأفكار المختلفة.

بدت آثار الرحلة بالفعل في أعمال ستيف جوبز التالية، فقد استلهم كثيرا من المفاهيم البوذية ليطبقها في رحلته المهنية اللاحقة، مبتعدا بها عن جوهرها الديني الأصلي. لكن تأثر جوبز الأكبر كان بالنسخة اليابانية من البوذية أو ما يُعرف باسم "بوذية الزن"، عندما عثر على مركز ياباني لتعلم البوذية بجوار منزله في وادي السيليكون في كاليفورنيا، حيث التقى بالراهب "كوبون تشينو أوتاغاوا (Kobun Chino Otogawa)"، والذي أصبح فيما بعد معلم جوبز الروحي.

كانت فلسفة "شوشين" هي أهم المبادئ التي تعلمها ستيف جوبز من بوذية الزن، واتخذ منها أسلوب حياة. ويرى الكثيرون اليوم أن هذه الفلسفة انعكست في حياة جوبز وطريقة إدارته شركة أبل. وبالفعل يعتبر مفهوم "شوشين" الياباني طريق كثير من رواد الأعمال إلى التميز والابتكار.

عقل المبتدئين

تعني شوشين في اللغة اليابانية "عزيمة المبتدئين"، وهي القابلية للتأثر والحماس الذي يصاحبنا عندما نشرع في تعلم لغة جديدة، أو بدء مجال مهني جديد، حين يمتزج التوتر بالرغبة في التعلم، وحين نكون متواضعين بشأن ما يُنقل لنا من معلومات وخبرة؛ ما يجعلنا أكثر انفتاحا على التعلم والتلقي. بعد ذلك، شيئا فشيئا تتكوّن الخبرة وتزيد، وتختفي عقلية المبتدئ لتحل الثقة محل التوتر، لكن ما نخسره حقا حينها هو الانفتاح على وجهات النظر المختلفة، والشعور بأنه لا يزال هناك شيء ما لنتعلمه، وبأن الطريق لا يزال مفتوحا وطويلا(2).

تقول الحكاية الشهيرة إن شابّا يُدعى "توكوسان" كان قد قرر زيارة رايوتان -كاهن الزن الشهير- ليطلب بعض آرائه في الفلسفة، وببساطة رحّب الكاهن بتلميذه وقدّم له كوبا أخذ يصب فيه الشاي، ولكن حتى بعد أن امتلأ الكوب، استمر الكاهن في صب الشاي لينسكب على حواف الكوب وفي الصينية وعلى المائدة، ليصرخ توكوسان: "توقف! ألا ترى أن الكوب ممتلئ؟!"، وهنا أجابه الكاهن: "نعم، وعقلك مثل هذا الكوب تماما، عليك إفراغه قبل أن تطلب مني أن أعلمك"(3).

كتاب "العقل الهادئ.. عقل المبتدئ"، للراهب البوذي "شونريو سوزوكي" (مواقع التواصل الاجتماعي)

في كتابه الذي نشره عام 1970 بعنوان: "العقل الهادئ.. عقل المبتدئ"، صاغ الراهب البوذي "شونريو سوزوكي" تلك العبارة التي تختصر معنى شوشين: "في عقول المبتدئين هناك العديد من الاحتمالات، بينما في عقل الخبراء هناك القليل منها فقط"(4). مفهوم شوشين إذن هو الحفاظ على شعور الانفتاح والشغف حتى مع مُضيّنا طويلا في طريق النمو والارتقاء على مدار حياة الفرد، إنه يعني أن تترك مخاوفك وافتراضاتك المسبقة حتى عندما تظن بأنك تعرف بالفعل كل ما عليه الأمر، ومعرفة أن الابتكار غالبا ما يحدث حين يلتقي الأشخاص الذين يعرفون القليل جدا مع أشخاص يعرفون الكثير، حيث يقل التوتر وتندمج الخبرة الكبيرة مع الرؤية بعيون جديدة(5).

ثقة ليس لها مبرر .. هل نعرف حقا؟

هذا السؤال تحديدا هو الذي يدعوك مفهوم شوشين للتفكير فيه، لقد اشتهر عن سقراط قوله: "كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف"، واشتهر عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: "كلما ازددت علما، زادني علما بجهلي"، ومع ذلك فإن أغلب الخبراء متهمون بالانغلاق، والحقيقة أن الأمر متعلق بتقديرنا لحجم ما نعرفه فعلا، والمفاجأة هنا أن البشر يُقدّرون معارفهم وخبراتهم بأكثر مما هي عليه في الحقيقة(6).

في هذا السياق، تحدثت دراسة نشرتها مجلة "كوجنيتيف ساينس (Cognitive Science)" عام 2015 لباحثين من جامعة ييل عما أسمته "لعنة الخبرة"، وطرحت تساؤلا مُهمّا حول ما إذا كنا نجيد بالفعل تقدير معارفنا. وللإجابة، طلب الباحثون من مجموعة من الخريجين الجدد تقدير مستوى معرفتهم بالموضوعات التي درسوها، ثم اختبروا قدرتهم الحقيقية على شرح هذه الموضوعات، ليتبين أن الطلاب بالغوا في تقدير مستوى فهمهم لها(7).

صدر الكتاب المصور "الزن عند ستيف جوبز ، مُركّزا على العلاقة بين ستيف جوبز وصديقه ومعلمه الكاهن البوذي "كوبون تشينو أوتاغاوا"، ليكشف عن علاقة بين كثير من العاملين في وادي السليكون. (مواقع التواصل)

الأكثر من ذلك أن مجرد إيهام البعض بأن لديهم قدرا ما من المعرفة، حتى لو لم يكن ذلك حقيقيا، كفيل بأن يعتقدوا بذلك بالفعل وبأن يتصرفوا كما لو كانوا خبراء. في دراسة نُشرت في "جورنال أوف إكسبريمنتال سوشيال سايكولوجي (Journal of Experimental Social Psychology)" عام 2015، مُنح لمختبَرون درجات عالية في اختبار المعرفة السياسية، لم تكن تعكس معرفتهم الحقيقية، المفاجأة أن المختبَرين صاروا أقل رغبة في التعرف على وجهات النظر الأخرى، وهي ظاهرة تدعى "التأثير الدوغماتي المكتسب"، وتعني أن تُملي عليك خبراتك ومعرفتك السابقة موقفا ما يجعلك أكثر انغلاقا(8).

في التكنولوجيا والفنون القتالية

في عالم الأعمال يبرز التحدي نفسه، مهما كانت النجاحات السابقة، فهناك دائما الجديد لتتعلمه، ليُمكّنك من مواجهة المشكلات الجديدة ومنافسة الأقران وتحقيق الطموحات، لذا لاقت فلسفة شوشين رواجا كبيرا في عالم الأعمال في العقود الماضية، كان ستيف جوبز أحد المعجبين بها، وكتب "إدوين كاتمول" -المؤسس المشارك مع جوبز في شركة بيكسار- عن هذه الفلسفة وما استفاده منها في مسيرته الريادية، ولم يكن جوبز وكاتمول وحدهما في هذه المسيرة(9).

بعد أشهر من رحيله، صدر الكتاب المصور "الزن عند ستيف جوبز (The Zen of Steve Jobs)"، مُركّزا على العلاقة بين ستيف جوبز وصديقه ومعلمه الكاهن البوذي "كوبون تشينو أوتاغاوا"، ليكشف عن علاقة بين كثير من العاملين في وادي السليكون، خاصة جوجل وأبل، بمركز للتأمل يتبع طائفة زن البوذية باسم "Do Zen Meditation"، وهو نفسه المركز الذي كان يرتاده ستيف جوبز. وليس للأمر علاقة بتبني الأفكار البوذية من منظور ديني بقدر تطويعها لأغراض التطور الوظيفي، في محاولة منهم لتهدئة العقل بما يساعدهم على الابتكار ومواجهة التحديات المختلفة(10)(11).

تحدث "سانجاي جالونا"، الرئيس التنفيذي لشركة "Larsen & Toubro Infotech"، عن هذه العلاقة العكسية بين الخبرة والابتكار، مؤكدا أن تنامي الخبرة وتراكم سنوات العمل يؤثران في الإبداع، ويجثمان مثل "حقيبة أمتعة ثقيلة" تبطئ حركة الشركة وتؤثر في قدرتها على الابتكار ومواجهة المشكلات.

في المقابل، يكبح اعتناق مفهوم شوشين التأثير السلبي للغرور الذي يصحب الخبرة، ويدفعنا للتركيز فقط على ما يثبت صحة معتقداتنا ويزيد شعورنا بالكمال والتفوق، إنه يخرجنا من منطقة الراحة التي نركن إليها تدريجيا وتجعلنا عبيدا لمعتقداتنا القديمة حين نتخلى عن كل السبل لمعرفة معتقدات وأفكار أخرى؛ ما يجعلنا عاجزين عن مواكبة التغييرات السريعة من حولنا(12)(13).

وقد استلهم عالم الأعمال من الفنون القتال اليابانية الطريقة التي استخدمت بها شوشين، والتي تتلخص في أن ترى حرفتك بعيون جديدة وتطورها باستمرار(14). تعتبر شوشين جزءا لا يتجزأ من الفلسفات التي تتبعها العديد من فنون الدفاع عن النفس، إذ تُشجع أيضا على ممارسة التعلم مدى الحياة، وترسخ الاكتشافات المتواصلة في هذا المجال أهمية هذه الفلسفة. في أواخر عام 2010، أحدث عدد قليل من المقاتلين ثورة في أساسيات لعبة الجوجيتسو البرازيلية، وهي أحد أنماط الفنون القتالية اليابانية التي انتقلت إلى البرازيل، بعدما ركز اللاعبون على تقنية جديدة هي قفل الساق، ليتمكنوا من هزيمة عدد كبير من الحاصلين على الأحزمة السوداء ذات المستوى العالمي، رغم الألقاب والميداليات التي حصلوا عليها(15).

فجِّر وهم المعرفة.. كيف نطور عقلية شوشين؟

للوصول إلى مستوى شوشين، سيكون عليك استحضار الحالة التي عهدتها عندما كنت تشرع في تعلم مهارة جديدة، هل تذكر كيف كنت عندما بدأت في ممارسة رياضة جديدة، أو لغة ثانية، أو تعلم العزف على آلة موسيقية؛ مبتدئا تماما بقليل من الأفكار المسبقة، وبكثير من الإثارة والانفتاح؟! ربما تعلمت في تلك المراحل كيف تُنحّي غرورك جانبا وتقتنع بأنه لا بأس بأن تخطئ لبعض الوقت. لاستعادة هذه الحالة، ينصح الخبراء بأن تتبع بعض الطرق التي نستعرضها فيما يلي:

  • ادعم عقلية النمو

بداية، احرص على امتلاك "عقلية النمو"، وهي القناعة بأن الخبرة والذكاء والمعرفة أمور يمكن أن نكتسبها بمرونة ونطورها باستمرار. حاول أن تكون دائما مبتدئا في مجال ما، إجبار أنفسنا باستمرار على التعلم وتجربة أشياء جديدة، يحفظ عقلية المبتدئ.

أحد أيسر السبل للحفاظ على عقلية المبتدئين لديك هي محاولة تعلم نشاط بدني جديد لم يسبق لك تجربته، كالرقص أو الباركور أو تسلق الصخور أو ركوب الأمواج أو اليوجا، وتعود أهمية الحركة تحديدا لكوننا نتحرك اليوم أقل من أي وقت مضى، ستتعلم بينما تمارس الرياضة، وستكون لديك بالفعل عقلية المبتدئين بميزاتها الأقل تقيدا والأكثر انفتاحا.

عليك أيضا بين حين إلى آخر أن تختبر قدر معارفك الحقيقية، اشرح لشخص ما فكرة أو موضوعا أو نظرية تظن أنك تجيدها، ستعرف عندها مقدار ما تفتقده(16)(17).

 

  • كن في جانب المستمع أحيانا

تدفعنا خبراتنا للشعور بأن علينا المساهمة في كل حوار، اختر أحيانا أن تكون في جانب المستمع، وتَحَلَّ بالهدوء والانتباه لما يقوله الآخرون، أفرغ عقلك من الأفكار واستمع فقط دون تفكير في الرد، فقط جرب طرح مزيد من الأسئلة لتشجيع المتحدثين على التوسع في شرح وجهات نظرهم(18).

توقف عن محاولة "إضافة قيمة" في كل حوار بالحديث عن تجربتك الخاصة، إذ بقدر ما يفيد ذلك من حولك أحيانا فإنه يحرم الآخرين أحيانا أخرى من المشاركة بأفكارهم ويحرمك من الاطلاع على ما لديهم. كذلك لا تسعَ إلى أن تكون الفائز في المناقشة، التخلي عن تلك الرغبة في إثبات صحة وجهة نظرك والشعور بأنك غير قادر على منافسة المتحدث يتيح لك مساحة لتعلم شيء جديد.

جرب أيضا أن تتصور جدالا مع نفسك حول فكرة تعتنقها، بحيث تبحث وتتأمل في الآراء المختلفة التي لا تدعم فكرتك، إننا نميل لمتابعة وجهات النظر التي تدعم أفكارنا، ونتجاهل تلك المخالفة لها، فيما يعرف بـ"الانحياز التأكيدي" الذي يقودنا إلى التحيز والانغلاق(19).

  • مارس اليقظة الذهنية ورحّب بالتجارب الجديدة

يكون من الصعب أحيانا إفراغ عقلك من الأفكار التي تعتقدها سلفا، لذا جرب اليقظة الذهنية بالتخلي عن الأفكار غير الضرورية وتوجيه كل تركيزك إلى اللحظة الحالية. تساعد ممارسة اليقظة في دعم القدرة على الملاحظة، دون إصدار الأحكام، والتخلي عن الأفكار والمشتتات الخارجية، إنها محاولة لإفراغ العقل ليكون مستعدا لاستقبال أفكار جديدة، تدريجيا ستتحرر من الأحكام المسبقة، وسيكون بوسعك التوصل إلى وجهات نظر جديدة.

اقرأ أيضا: خمس تمارين لليقظة الذهنية تساعدك في التغلب على التوتر أثناء الإمتحانات

وأخيرا، احرص على أن تتضمن خطتك عادة جديدة لتدخل الحيوية على يومك، العادات المنتظمة تساعدنا في الحفاظ على الإنتاجية، لكنها ترسخ أحيانا بعض الملل، وتُبقينا في منطقة الراحة بشكل يؤثر في قدرتنا على الإبداع أحيانا، لذا ابحث بين الحين والآخر عن تجارب جديدة، ربما في السفر إلى أماكن جديدة، أو قبول دعوات الأصدقاء والعائلة لمناسبة لم تعتد حضورها، لتحفز قدرتك على الانفتاح والتعلم عبر التجارب الجديدة.

_____________________________________________

المصادر

  1. رسالة بخط اليد لستيف جوبز معروضة للبيع في مزاد.. هذا محتواها!
  2. Shoshin and the power of being an eternal beginner in the workplace
  3. A beginner’s mindset
  4. ‘Shoshin’: el término budista que te hará aprender más y ser más feliz
  5. Shoshin: Having a “Beginner’s Mind” Can Improve Your Life
  6. ‘Shoshin’: el término budista que te hará aprender más y ser más feliz
  7. The Curse of Expertise: When More Knowledge Leads to Miscalibrated Explanatory Insight
  8. When self-perceptions of expertise increase closed-minded cognition: The earned dogmatism effect
  9. Shoshin: The power of beginner’s mindset
  10. What Zen Taught Silicon Valley (And Steve Jobs) About Innovation
  11. Word: Shoshin
  12. Shoshin: The power of beginner’s mindset
  13. This Japanese concept will help you see the world – and learn – in a different way
  14. Shoshin and the power of being an eternal beginner in the workplace
  15. How John Danaher’s Leg Lock Philosophy Is Changing The Fundamentals Of Brazilian Jiu-Jitsu
  16. كيف نعزز الشوشين
  17. Shoshin: Having a “Beginner’s Mind” Can Improve Your Life
  18. This Japanese concept will help you see the world – and learn – in a different way
  19. Shoshin: The power of beginner’s mindset
  20. Beginner’s Mind: How to Foster a Zen Mindset for Creative Living
المصدر : الجزيرة

إعلان