شعار قسم ميدان

جاريد كوهين.. فارس غوغل لمراقبة الإنترنت

على متن طائرة النقل العسكرية "هركيوليز C-130" الأميركية، جلس تسعة رجال في أزياء رسمية منتظرين بدء الإقلاع من مطار عمَّان بالأردن نحو العاصمة العراقية بغداد، وفي حوزتهم سترات واقية وخُوَذ عسكرية يلزم ارتداؤها مع بدء التحليق فوق "المنطقة الحمراء".

 

لم يكن العراق بلدا يتوقَّع أيٌّ منهم أن يزوره في حياته، لا سيما وقد بات ساحة حرب بغزو الأميركيين له قبل ستة أعوام من زيارتهم. لكن الفكرة خطرت لـ "جاريد كوهين"، الشاب المتحمِّس ذي السابعة والعشرين حينئذ، الذي قفز إلى فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية تحت قيادة كوندوليزا رايس على خلفية اهتمامه بالشؤون الأفريقية والشرق أوسطية معا. كان جارِد متحمِّسا لما يُمكن أن تُحدثه التكنولوجيا من "أثر إيجابي" في العالم، ومن ثمَّ دعا أهم مؤسسي وتنفيذيي تسع شركات من وادي السيليكون (معقل شركات التكنولوجيا بولاية كاليفورنيا) إلى رحلة يطوفون فيها العراق، ويتحدثون مع قياداته وشبابه، لعلَّهم يحركون المياه الراكدة هناك.[1]

 

لم يكن كل شيء راكدا في الحقيقة كما أخبرهم ضابط عسكري على متن الطائرة، لكن الرحلة من كاليفورنيا إلى المنطقة الحمراء لم تترك أثرا يُذكر في العراق على أي حال، فقد عانى حينها -كما اكتشف الوفد الزائر بنفسه- من بنية تحتية هزيلة، واتصال محدود لسُكَّانه بالإنترنت، وخدمة كهرباء متقطِّعة، وتفجيرات متكررة؛ مشكلات تُعزَى معظمها في الواقع إلى الغزو الأميركي. إذن، عاد تنفيذيو "غوغل" و"يوتيوب" و"تويتر" مع زملائهم من حيث أتوا، أمَّا صاحب الدعوة، جاريد كوهين، فلعله كان المستفيد الأوحد، إذ توطَّدت علاقته بقطاع التكنولوجيا الذي سيقفز إليه فيما بعد، واكتشف للمفارقة رُكنا من أركان الإنترنت لم يعرف عنه هو نفسه الكثير.

جاربد كوهين

على طاولة عشاء في السفارة الأميركية ببغداد، التقى كوهين لأول مرة بالمدير التنفيذي لتويتر "جاك دورسي"، فأخبره الأخير كيف يفتح حسابا على موقع التواصل الاجتماعي حديث النشأة، الذي وقف عدد مستخدميه النشطين عند ستة ملايين فحسب في إبريل/نيسان 2009 (بالمقارنة مع 330 مليونا حاليا).[2] وبعد شهرين من بدء استخدام كوهين لتويتر؛ اندلعت تظاهرات عنيفة في إيران بُعَيد إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسا، ما اعتبره الآلاف من الإيرانيين تزويرا ضد المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي، ثمَّ تحوَّل تويتر سريعا إلى وسيلة رئيسة لتداول المعلومات بين المعارضين في الداخل والخارج.

 

وجد كوهين نفسه عاكفا لساعات على الموقع لمتابعتهم، بيد أن مُعضلة واجهته في أحد أيام الاحتجاجات وهي علمه بأن "تويتر" ينوي تعليق خدماته في وقت متأخر من الليل في الولايات المتحدة ليُجري إصلاحات دورية، ما يعني انقطاع الخدمة عن إيران في وضح النهار.[3] متناسيا حساسية موقعه في الخارجية، ومستندا إلى علاقته مع المدير التنفيذي دورسي؛ أرسل كوهين رسالة إلكترونية يطلب منه فيها تأجيل الإصلاحات الدورية للموقع لكيلا ينقطع الاتصال بين المحتجين في إيران، فنفَّذ دورسي الطلب في الحال.

 

قامت الدنيا بعدها ولم تقعد، إذ اتَّهمت طهران واشنطن بالتدخُّل في شؤونها، ووجدت الخارجية الأميركية نفسها في قلب عاصفة دبلوماسية لتوضيح موقف لم يكن رسميا، ولم يأتِ من أعلى، وإنما كان مبادرة شخصية لا تحمل أي تفكير دبلوماسي لشاب متحمس، لا سيما وقد تعهَّد باراك أوباما -الواصل إلى البيت الأبيض قبلها ببضعة أشهر- بتبنِّي نهج جديد مع النظام الإيراني بعيدا عن الهوس بإسقاطه الذي لازم جورج بوش الابن. وفي مؤتمر صحافي، تجنَّب المتحدث باسم البيت الأبيض تأكيد أو نفي قيام أي مسؤول بالتدخُّل لإبقاء تويتر مفتوحا، وما إن كان تحرُّكا كهذا يرقى لمحاولة إسقاط النظام الإيراني، مؤكدا أهمية حرية الصحافة ووسائل الاتصال، لكن صحيفة نيويورك تايمز كشفت عن أزمة وزارة الخارجية المكتومة، وأشارت إلى جاريد كوهين بالاسم باعتباره صاحب الطلب المُقدَّم إلى تويتر.[4]

EDITORS' NOTE: Reuters and other foreign media are subject to Iranian restrictions on their ability to report, film or take pictures in Tehran. A man uses a mobile phone to record images of a protest in Tehran in this undated photo made available June 22, 2009. REUTERS via Your View (IRAN POLITICS ELECTIONS)

بدت مسيرة كوهين الدبلوماسية على المحك، وعلا صوت أوباما في أحد الاجتماعات متسائلا عن سبب استمراره في منصبه رُغم كونه مسؤولا مُعيَّنا أثناء رئاسة بوش ووزارة كوندوليزا رايس، إذ جرت العادة بأن يرحل مسؤولو فريق تخطيط السياسات بانتقال السلطة بين الجمهوريين والديمقراطيين. "مَن هو جاريد كوهين، ولماذا لم نطرده حتى اللحظة؟"، هكذا تساءل أوباما صراحة في ذروة الأزمة، كما يروي "ألِك روس"، خبير شؤون التكنولوجيا ومستشار وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون حينئذ[5]، لكن كلينتون آثرت أن تقف خلف كوهين، وأصرَّت على أن ما جرى لم يكن خرقا للسياسة الجديدة تجاه إيران، بل كان ضمانا لمبدأ الاتصال الحر والمفتوح، فمرَّت العاصفة بسلام على كوهين، وتوصَّلت إدارة أوباما في الأخير إلى اتفاق مع النظام الإيراني عصف به رجال ترامب بعدها بعامين ويزيد.[6]

 

كانت مغامرة غير محسوبة، أطلق فيها كوهين العنان لإيمانه الدفين بدور التكنولوجيا في "تحرير الناس"، دون أن يفكر في التعقيدات السياسية التي تُشكِّل عوالمهم أو تلك التي رسمت تقاليد وسلوكيات وزارة الخارجية التي يعمل بها، لكن بوصفه شابا لم يبلغ الثلاثين وقتها؛ لن يفقد إيمانه ذاك، وسيُفضِّل الخروج من المؤسسة الحكومية المحدودة رُغم دعمها له في الأخير، والاتجاه نحو آفاق وادي السيليكون حيث الأموال الأوفر والقيود الأرخى والعقول الأشبه به؛ لمواصلة تطبيق ما يعتقده.

 

في سبتمبر/أيلول 2010م، أعلنت غوغل تدشين "مركز أبحاث" باسم "غوغل أيدياز" (Google Ideas)، وأوكلت إدارته لكوهين، أحد الأصدقاء الحاليين لمدير غوغل التنفيذي السابق "إريك شميت"، وباتت مهمة كوهين وشركته الصغيرة وقتها النظرَ في تقاطع التكنولوجيا مع الجغرافيا السياسية، ومجددا ستُدهِش تعقيدات الواقع رومانسية كوهين التكنولوجية، وستكشف عن قصور شديد في معرفته الاجتماعية والتاريخية بالبلدان التي يحب التجوُّل فيها، تماما كما تكشف انطباعاته وكتاباته القاصرة عنها في سنوات دراسته وعمله الأولى، وسترينا عالما كاملا من البيانات ومحاولة التلاعب بسياسات الدول من قِبَل أشخاص مثل كوهين بلا خبرة سياسية عميقة، ولا يدرون أهم مفاتحها السياسية والاجتماعية على الإطلاق.

Google Executive Chairman Eric Schmidt (L) and Jared Cohen, director of Google Ideas, arrive at the Google Big Tent event at the Grove Hotel, on the outskirts of London May 22, 2013. REUTERS/Olivia Harris (BRITAIN - Tags: BUSINESS MEDIA POLITICS)
رئيس غوغل التنفيذي إريك شميدت (يسار) ومدير أفكار الشركة جاريد كوهين (خلفه)

 

عنوان ميدان

وُلِد جارِيد في مقاطعة "وِستون" الثرية بولاية كونِتيكوت، ودرس العلوم السياسية والتاريخ في جامعة ستانفورد مع تخصُّص فرعي في الدراسات الأفريقية، وأظهر اهتماما كبيرا بأفريقيا في سنوات دراسته، وتنقل بين عدة دول في شرق القارة منغمسا في عادات السُكَّان المحليين ومهتما بلغاتهم حتى أتقن السواحيلية، ثمَّ كتب رسالة تخرِّجه عن الإبادة الجماعية في رواندا، وحصد جائزة عنها بوصفها أفضل رسالة تخرُّج لعام 2004م.

 

بعد تخرِّجه، تدرَّب كوهين في وزارة الخارجية الأميركية لبضعة أشهر، حيث طمح لأن يصبح "مستشارا للأمن القومي" حد قوله، قبل أن يذهب لدراسة الماجستير في أوكسفورد بمنحة رودسِ (Rhodes Scholarship) المعروفة والسخية، التي ستُعينه منذئذ على التنقُّل المتكرر في بلدان شتى أثناء دراسته[7]. ومع تصاعد الحديث عن "الإرهاب" في تلك الفترة نجد أن جارِد أولى اهتمامه لمشكلة "معاقل الإرهاب" في أفريقيا، ثمَّ وجَّه أنظاره للشرق الأوسط وبالأخص فلسطين ولبنان وإيران.

 

كانت يهوديَّة كوهين سببا شخصيا إضافيا للاهتمام بـ "الحركات الإرهابية" كمَّا سمّتها الخارجية الأميركية (وعلى رأسها حماس وحزب الله المُعاديان لإسرائيل)، مُضافة إلى شغفه بالسفر ومُغازلة المخاطر من حين لآخر. وحين وصل إلى طهران في أول زيارة له، بعد أن رُفِضَ طلبه للحصول على تأشيرة عدة مرات من السفارة الإيرانية في لندن؛ فوجئ ببلد يختلف كثيرا عن ذلك الذي يراه في الإعلام الأميركي. وسريعا اندمج جارِد في المشهد الشبابي بطهران، وذهب للحفلات حيث الكحوليات المحظورة رسميا، والتقى شبابا لا تعجبهم قبضة نظام الملالي وشعاراته المُعادية للولايات المتحدة، ويستخدمون التكنولوجيا الأحدث -البلوتوث آنذاك- للفكاك من قبضته الاجتماعية. وقد حاول كوهين أيضا أن يحظى بفُرصة لإشباع فضوله بوصفه طالب سياسة وتاريخ، وأن يتحدث مع مسؤولين حكوميين وشخصيات معارضة حديثا مفتوحا، لكنها مهمة لم تُكلَّل بالنجاح نظرا للرقابة المشددة للأمن الإيراني، حيث كاد فضوله أن يُفضي إلى سجنه هناك.[8]

بعد عام واحد، كانت وجهة الشاب إلى بيروت، إذ رتَّب جارِد موعدا مع عدد من مقاتلي "حزب الله" في أحد أفرع ماكدونالدز هناك دونما الإفصاح عن هويته أو اسمه الأخير، ليتفاجأ -كما كتب لاحقا- برجال "يرتدون جينز ’أرماني‘ وسترات ’فرساتشي‘ بدلا من الميري الأخضر.. حاملين حقائب ظهر ثقيلة يُرجَّح امتلاؤها بالكتب لا القنابل، بدلا من أن يحملوا فوق أكتافهم بنادق كلاشينكوف"، حد تعبيراته. وقد تطرَّق الحديث بينه وبينهم إلى السياسة، وعبَّر الجميع عن آراء "شديدة التطرُّف" في نظر كوهين، وتطرَّق أيضا إلى الرياضة والنساء، فيقول كوهين: "حين ابتعد نقاشنا عن السياسة، كان سهلا نسيان أن أولئك الشباب إرهابيون في نظر معظم العالم الغربي". وسرعان ما أفصح كوهين بحذر عن هويته، فقوبل بصمت تبعه طمأنته من مضيفيه إلى أن رجال حزب الله عموما يكرهون الحكومة الأميركية وإسرائيل فحسب، وليس اليهود والشعب الأميركي، ولم يكن جارِد قد تولّى حينها منصبه الرسمي الأول من حسن حظه.[9]

 

تباعا، قرّر كوهين نشر كتاب يدوِّن رحلاته في الشرق الأوسط بعنوان "أطفال الجهاد" (Children of Jihad)، وفي وقت انصبَّ فيه اهتمام واشنطن بقيادة بوش الابن على المنطقة؛ بات كوهين محل اهتمام إعلامي وصحافي باعتباره "الدبلوماسي اليهودي الذي جازف بحياته للقاء مقاتلين وإرهابيين"، ونجا بالكاد من سجن محتمل في إيران. وفي عام 2008 استضافه الإعلامي الشهير "ستيفن كولبرت" في برنامجه ليُحدِّثه عن الشرق الأوسط، وفي الحلقة تساءل كولبرت مستفهما عن سبب كراهية الولايات المتحدة في المنطقة قائلا لكوهين: "إنني أسمع شعار الموت لأميركا كثيرا هناك"، ليرُد الأخير أن شعار "الموت لأميركا" ينطلق في العادة من أناس حصلوا سابقا على خمسين دولارا ليصدحوا به، ليرُد كولبرت ساخرا: "بوسعي أن أقوم بذلك نظير مبلغ أقل بكثير"؛ فيضحك المتابعون. ويتوقع المرء وسط تلك السخرية أن ما يقال من أمور هي معلومات رصينة من مسؤول متخصص في شؤون الشرق الأوسط، لكنها لأي عالم بخبايا المنطقة فضلا عن أحد سكانها لا تعدو كونها انطباعات قاصرة كوَّنها طالب متفوَّق يعشق الترحال فقط، غير مُدرك على الأرجح لما لا يقوله مواطن "شرق أوسطي" لزائر أميركي وجها لوجه. [10]

Children of Jihad
كتاب "أطفال الجهاد"

لذلك بدا الاعتقاد بأن شعار "الموت لأميركا" مدفوعٌ بالمال استنتاجا ساذجا وسطحيا من كوهين، مَن حدّث كولبرت في حلقته تلك عن الشرق الأوسط الذي رآه مغايرا تماما لما يُعرَض في التلفاز الأميركي، ومضيفا أن الولايات المتحدة في الحقيقة مصدر إبهار ومحل اهتمام هناك، وأن الشباب في البلدان التي تنقَّل عبرها لا يختلفون في شيء عن الشباب في الغرب،[11] بل صارت هنالك فرصة ذهبية للتواصل معهم عبر التكنولوجيا بسبب ثورة الإنترنت، ومن ثمَّ كسبهم في صف أميركا، وبالتحديد الشباب الإيراني الذي استنتج كوهين من كُرهه لنظامه الحاكم وشربه الكحوليات واستخدامه للبلوتوث انحيازا سياسيا لواشنطن اعتبره الأشد في المنطقة.[12]

 

ما يعرفه الشخص العادي تقريبا أن ارتداء الجينز ومشاهدة الأفلام الأميركية لا يعدو كونه تجليا لأثر التكنولوجيا والتحديث والتأثير الثقافي الأميركي في العالم ليس إلا، لكن كوهين استنبط من تلك الظواهر تحليلا سياسيا عن شعبية جيدة مفترضة لأميركا بين شباب الشرق الأوسط، دون أن يدري أن الملايين يرتدون الجينز ويشاهدون حفل الأوسكار سنويا ويمقتون السياسة الأميركية في الوقت نفسه، بل لعلهم شاركوا في مظاهرات مناهضة لسياساتها المؤيدة لإسرائيل مرات ومرات، قبل أن يسهروا حتى الصباح في إحدى الحانات بالقاهرة أو بيروت.

 

ينضح كتاب كوهين أيضا بالعديد من الالتباسات التي تكشف قُصور معرفته بالمنطقة على التواصل الشخصي الذي يعشقه، دون علم كافٍ بتاريخها وقوانينها وأعرافها التي يمكن لمتخصصي الدراسات الإسلامية في جورج تاون أو هارفارد أن يخبروه عنها، فحين جلس وجها لوجه مع مقاتلي حزب الله قبل أكثر من عقد، تفاجأ كوهين بأنه أفصح عن أميركيته ويهوديته دون ضرر يُذكر، وفوجئ بما قاله أحد أعضاء الحزب عن موقفه من اليهود، وإن لبنان إن كان له تعداد من اليهود مع موارنته وسنته وشيعته لكانوا أصدقاء له دون مشكلة. ويعقِّب كوهين مُستنتجا أن الرجل ليس ملتزما على الأرجح بالرؤية الشيعية للشريعة الإسلامية، معتقدا أن مقاطعة اليهود منصوص عليها شرعا، وكاشفا بجلاء عن قصور شديد في معلومات بديهية عن الشريعة ومسألة أهل الكتاب فيها، وعن التاريخ الطويل لليهود في المنطقة قبل ظهور دولة إسرائيل، أو على الأرجح ملبسا العداء الثقافي لليهود المرتبط بالصراع مع إسرائيل منذ عام 1948 بأصول وأحكام دينية يتجاوز عمرها ألف عام.

 

لكنّ أحدا لم يحاول تصحيح معرفة الفتى العشريني، إذ وقع معظم مَن أحاطوا به في أَسْر حكاياته ورحلاته، فاستمر الرجل في منصبه، ورأت رايس -ثم كلينتون- في أفكاره إمكانية لجذب الشباب بعيدا عن "التطرف" في المنطقة العربية، ورأوا فيه قابلية لاستخدام التكنولوجيا في العموم لترسيخ مكتسبات ما بعد الحرب الباردة في روسيا والصين. وقد تزايدت وتيرة ترحال كوهين في زيه الدبلوماسي، وذاع صيته بعد واقعة تويتر الإيرانية، فوصل الرجل إلى جبال باكستان وارتدى العباءة البيضاء والعمَّة في جلسات ودية مع مشايخ قبائل الپشتون، ثمَّ طرق أبواب روسيا البعيدة مع رفاقه من وادي السيليكون؛ أملا في أن تكون التكنولوجيا عونا في مزيد من الانفتاح في موسكو حين ساد اعتقاد غربي بأن الروس على الطريق الصحيح بعد انقشاع "الكابوس السوفيتي".

epa02039779 Jared Cohen a member of the Secretary of State's Policy Planning Staff gestures during a meeting with Russian journalists in Moscow, Russia 18 February 2010. A US delegation, which includes leaders of EBay, Twitter, Cisco Systems, Howcast, EDventure, Social Gaming Network, Mozilla, is visiting Russia from 17 to 23 February to meet with representatives of the government, universities, private companies, and NGOs. They will discuss how social media and other innovative technologies can be used to strengthen ties between the US and Russia. EPA/SERGEI ILNITSKY
جاريد كوهين، عضو فريق تخطيط السياسات بوزير الخارجية خلال اجتماع مع الصحفيين الروس في موسكو بالمشاركة مع وفد أمريكي، لمناقشة كيف يمكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات المبتكرة لتقوية الروابط بين الولايات المتحدة وروسيا

بعدها، حاملا معارفه الملتبسة وانطباعاته الثقافية وتصوراته الليبرالية عن التكنولوجيا وانحيازاته الواضحة بوصفه مسؤولا أميركيا سابقا؛ انتقل كوهين إلى غوغل قبل عقد تقريبا، وهو عقد واجهه بمفاجآت كثيرة صعَّبت مهامه، وأجبرته على أن يسلك طرقا مُتعرِّجة؛ لتحديث ما يؤمن به مواكبا التغيُّرات من حوله مع حاجة غوغل إلى الربح، ولتحديث نشاطات شركته الناشئة "غوغل أيدياز"، التي غيَّرت اسمها عام 2016م إلى "جيغسو"، أي الأحجية، في مفارقة رمزية تكشف المعضلات التكنولوجية التي ألقتها على عاتقه تحديات صعود الصين والحضور الروسي في الفضاء السيبراني، وكذلك موجة اليمين المتطرف في عقر داره.

 

عنوان ميدان

يحتفظ كوهين على مكتبه في نيويورك بملصقات دعائية للنظامين الكوري الشمالي والإيراني، فلطالما أحب الرجل اقتناء أشياء تُذكِّره بكاريكاتورية الدول الشمولية التي يراها بعيون أميركية رسمية، إذ يحمل في نفسه احتقارا لها مصحوبا بافتتان بأساليبها في ممارسة السلطة -المثيرة للدهشة والريبة معا لمسؤول أميركي سابق-، فخلال سنواته في الخارجية امتلك كوهين ساعة عليها من الداخل صورة لصدام حسين ودمية خضراء لنوع من السحالي كُتب عليها بالخط العريض "جوانتانامو باي"[13]. ويَعرف الرجل أيضا كيف يَسخر من بلده حين يستحق السخرية، لكن أميركا لا تثير حماسته للترحال بين ولاياتها كما تفعل البلدان الشمولية، معتقدا أولوية العمل على إنهاء القمع الشديد الذي يطول مواطنيها، أو هكذا اعتقد؛ حتى نما اليمين المتطرِّف في قلب بلاده مع صعود ترامب، وباتت محاربة وجوده على الإنترنت شاغلا لكوهين ولجيغسو؛ شتتهم ولو قليلا عن الهوس بإنقاذ العالم القابع في ظلام الديكتاتورية في الشرق الأوسط كما يرونه.

A logo for the Jigsaw incubator within Alphabet is photographed on the wall of their offices in New York, U.S., November 14, 2017. REUTERS/Lucas Jackson

للمفارقة الساخرة، فقد صبغ كوهين شركة "جيغسو" بخياراته الشخصية بأريحية لا يملكها سوى حُكام الديكتاتوريات التي يمقتها، فنجد أن جدران مقر الشركة في نيويورك مزينة بملصقات كاريكاتورية شبيهة بتلك الموضوعة على مكتبه، وإلى جانب نشاطات جيغسو في البرمجة فإن موظفيها يمضون ساعات طويلة في الترحال بين شتى البلدان مُقتفين خطوات كوهين الذي يعتقد بضرورة انغماس زملائه في البلدان التي يريدون التأثير فيها. وعلى النقيض من أساليب المؤسسة الدبلوماسية العريقة الرتيبة في نظر كوهين؛ يبدأ موظف جيغسو الجديد يومه باجتماع مع كوهين تتحدد فيه مهمته الأولى بشكل عشوائي، إذ يجلسان أمام قبعة تحوي أوراقا صغيرة يحمل كلٌّ منها اسم بلد من بلدان العالم السلطوية، ثم يمُد الموظف الجديد يده ليسحب ورقة، ثم يبدأ عمله بالبحث عن شخص في البلد المكتوب على الورقة يُعاني خطرا ما بسبب النظام الحاكم فيها، ثم يتبادل معه أطراف الحديث عبر الإنترنت، قبل أن يشارك مشكلته مع بقية موظفي الشركة، فيبدأ العمل على معالجة تحدّيه الجديد دون وجود شرط لمعرفته بتاريخ أو مجتمع ذلك البلد من عدمها، عكس ما يحدث في الخارجية الأميركية من اشتراط معرفة الموظف بما يحاول حلّه.[14]

 

بعد الربيع العربي، ظهر اسم جاريد مرارا على مواقع عديدة حاولت رسم صورة تآمرية لاحتمال لعبه دورا عبر غوغل فيما جرى من أحداث، وكما رأينا -ووفق ما يتوفَّر لنا من دلائل- لا يبدو ذلك صحيحا، ولا يستقيم وفق التواريخ التي نعرفها، فالشركة ولدت فحسب في سبتمبر/أيلول عام 2010م، وانصب اهتمامها على "مكافحة الإرهاب" وتعزيز الحركات المُعارضة في "الدول الشمولية" (المُعادية صراحة للولايات المتحدة بالطبع)، ويظل سجلها في الواقع ضعيفا من حيث التأثير الفعلي خارج نطاق تطبيقات الإنترنت كما يقول أحد موظفيها منتقدا استمرار كوهين في منصبه، ومعتبرا الشركة مجرد واجهة لحضور كوهين الشخصي وعلاقاته، وهو تقييم ربما لا ينطبق عليها كليا في السنوات الأخيرة، إذ دشَّنت الشركة بالفعل تطبيقات مهمة لمكافحة "تنظيم الدولة الإسلامية" في الشرق الأوسط واليمين الأبيض في الولايات المتحدة، وإن كانت نشاطات كتلك محفوفة بالأسئلة الأخلاقية والفلسفية أيضا.

ليس ذلك فحسب، بل إن غوغل نفسها سرعان ما تجاوزت افتتانها بالربيع العربي، وبدأت تواكب "الموجة السلطوية" التي صاحبت انحساره، وصاحبت أيضا صعود الصين تكنولوجيًّا في السنوات الأخيرة. وفي حوار مع غوغل عام 2013 تحدث جاريد عن الصين، والتحدي الذي ستواجهه بوجود 600 مليون من مواطنيها داخل عالم الإنترنت، ودخول 700 مليون آخرين متوقعين خلال عشر سنوات، وتعهّد كوهين في حواره بحماية الملايين ممن يتوقع دخولهم على الشبكة حول العالم في السنوات المُقبلة، ويقبع معظمهم في دول استبدادية، قائلا: "يجب أن نقاتل بقوة من أجل حماية خصوصياتهم وأمنهم".[15] لكن بينما نجحت الصين في مقارعة ذلك التحدِّي، لتسيطر على وسائل التقنية نفسها التي تصوَّر كوهين أنها مفترق طرق سيُحدث توترا داخل المنظومة الصينية؛ بدا أن تحديا آخر في طريقه إلى غوغل فواكبته الأخيرة سريعا ضاربة بعرض الحائط تعهداتها السابقة.

 

بعد خمسة أعوام من تصريحات كوهين، كشف موقع "ذا إنترسبت" عن شروع غوغل في تصميم محرِّك بحث مخصص للصين يحجب المواقع والمصطلحات المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ويحجب النتائج القادمة من هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" وموقع ويكيبيديا، وقد أتت الخطوة بعد لقاء جمع المدير التنفيذي لغوغل "سوندار بيتشاي" مع مسؤول صيني رفيع المستوى، بحثا فيه على الأرجح مسألة حظر استخدام غوغل داخل الصين والسبيل إلى عودتها للسوق الصيني هائلة الحجم، وكانت نتيجة اللقاء هي التزام غوغل بقيود ما يُعرف بسور الصين العظيم الإلكتروني، وهي كل ما تفرضه الصين من قيود على المحتوى المتاح على الإنترنت الصيني.[16]

 

ليست الصين وحدها الاستثناء، بل والسعودية أيضا، ولأسباب سياسية واقتصادية على السواء، فالدولة الأغنى في الشرق الأوسط لا تناصب واشنطن العداء مطلقا، بل تتمتع بعلاقات تاريخية معها، وفي وقت قديم أعرب فيه كوهين عن إعجابه باستخدام الشباب الإيراني للبلوتوث في تجاوز قبضة نظام دولتهم؛ لم يُول الرجل الانتباه للظاهرة نفسها في السعودية والمنتشرة في الوقت نفسه من العقد المنصرم.

في الواقع، لقد حلَّ كوهين ضيفا بالمملكة مرات عدة، لكن شبابها لم يشغله، ولم يسرد حكايات عن كم هي بلد طبيعي يشبه شبابه شباب الولايات المتحدة، ولم يلتقِ فتاة غاضبة مصادفة تخبره عن حزنها من سرقة حكامها ثروة البلاد النفطية كما حدث خلال زيارته لإيران مثلا، بل انشغل كوهين في الرياض بالعقود الرسمية الموقَّعة بينها وبين شركته، فقد كان في العاصمة السعودية عام 2011 في منتدى التنافس الدولي، والتقى الملك وولي العهد شخصيا عام 2015 في زيارة أخرى للمنتدى نفسه[17] مع وفد من غوغل مثيرا جدلا نتيجة انتهاكات لحقوق الإنسان قامت بها السعودية في العام نفسه.[18]

تختلف السلطويات إذن من حيث عدائها من عدمه مع الولايات المتحدة، وتختلف كذلك من حيث غناها وفقرها، فالسلطوية الفقيرة المعادية لواشنطن هي التي تستطيع غوغل وجيغسو تكبُّد ثمن العداء معها، بل وتصبح مادة جيدة لبعض ملصقات الحائط الكاريكاتورية على مكتب كوهين، أما دول غنية ونافذة مثل الصين والسعودية، ولاعتبارات اقتصادية واضحة بالنسبة لشركته التي تطمح للربح في الأخير؛ فإن غوغل تُبقيها خارج منطقة أهداف جيغسو، بل وتُطوِّر من أجلها برمجيات مخصصة ومصممة على قوانينها، ويزورها كوهين دون امتطاء جواد المخلِّص الرقمي الذي يعشقه في ازدواجية جلية مُعتادة من دبلوماسي أميركي سابق.

 

يدافع جاريد عن المعارضة الإيرانية باستماتة، وعن حرية الوصول للمعلومات في عصر الإنترنت، لكنه يعتقد أن ويكيليكس أزمة غير مقبولة رغم ما أتاحته من معلومات، قائلا إن "تسريب المعلومات أمر سيئ"[19]، ويتعاطف بشدة مع الشباب الإيراني، لكنه لم يذكر أبدا سجناء الرأي في الرياض، وتبدو كوريا الشمالية وبيلاروسيا وديكتاتوريات القارة الأفريقية مادة جيدة للسخرية في اجتماعاته المغلقة مع فريق "جيغسو"؛ لكن الصين ليست كذلك على الرغم من أن السلطوية الرقمية فيها أشبه بكوابيس كوهين التي كتب عنها مع المدير التنفيذي السابق لغوغل إريك شميت في كتابهما "العصر الرقمي الجديد" عام 2010. وقد بشَّر كوهين في الكتاب بتحولات ستُحدثها ثورة الإنترنت نحو مجتمع مفتوح وتواصل عالمي غير مسبوق، مُحذرا في الوقت نفسه من قدرة الحكومات السلطوية الكبرى على تطويع التكنولوجيا لترسيخ قبضتها فيما يشبه كابوسا من روايات جورج أورويل.

على ما يبدو فإن كوهين بات يعرف كيف يتواءم مع تحقُّق كوابيس كتلك، وكيف يتجاهل ما تبخَّر من أحلامه، مُحقِّقا أقصى استفادة ممكنة من تعرُّجات الواقع على أي حال، ومُحتفظا في الوقت نفسه بثبات موقعه وعلاقاته بما يسمح له بالاستمرار في هوايته المفضلة مُتجوِّلا حول العالم ومُكوِّنا انطباعات كثيرة ومعرفة سياسية أقل كثيرا. وفي حوار له مع موقع "فاست كومپاني" عام 2017، تحدّث كوهين عن عدم قدرته على زيارة مصر نتيجة اعتقاد البعض بضلوعه فيما جرى عام 2011 وفقا لنظريات المؤامرة السائدة حينئذ، وبعد عامين تقريبا دخل كوهين بسلاسة عبر مطار القاهرة والتقى وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي، وتبادل أطراف الحديث مع روَّاد شركة تمويل رسمية تدعم المشاريع الصغيرة، دون أن نعرف هل كان عدم قدرته على السفر إليها قبلا قرارا اتُّخِذ رسميا من السلطات المصرية ثم أُلغي، أم أن الرجل وقع مجددا أسيرا لانطباعاته عن الأحداث في الشرق الأوسط، وأسيرا لاعتقاده الواهي أنه يلعب أدوارا حقيقية في تغيير العالم وأنه كان ممنوعا من دخول مصر بالفعل.

"يأتي جاريد كوهين ’كفارس أبيض في درع برَّاق‘ معتقدا بقدرته على حل مشكلات معقدة جدا تكافحها الدول النامية منذ قرون.. الرجل يعاني من متلازمة المُخلِّص الأبيض".[20] لم تكن تلك الكلمات من أحد النقاد الأكاديميين المستغرقين في تحليلات ما بعد الاستشراق والاستعمار، أو من أعداء كوهين في إيران أو روسيا أو أيٍّ من الدول التي يحاول "إنقاذها" مثلا، بل أتت من زميل سابق له في "جيغسو" صرَّح بها عام 2019، بعد أن ترك الشركة بسبب تفاقم مشكلاتها في السنوات الأخيرة.

 

لعلها مشكلة لا تضر أحدا أن يكون تنفيذي رفيع في غوغل مُصابا بمتلازمة الرجل الأبيض، لكن المشكلة الأبرز فيما يبدو هي متلازمة المسؤول السابق، الموجودة بكثرة في قطاعات اقتصادية كبرى في الولايات المتحدة، فالرجل يتحرَّك حاملا ازدواجية وتحيُّزات رسمية أكثر من اللازم على نحو يتعارض بوضوح مع المهمة التي نصَّب نفسه فارسا لها، وهي متلازمة لا يبدو أن لها أي حل أبدا.

———————————————————————————-

المصادر

  1. Booting Up Baghdad: Tech Execs Take a Tour in Iraq
  2. How Many People Actually Use Twitter?
  3. Can we fight terrorism with a Twitter feed? It may not be that simple, ) ) ) ) but everyone who knows the State Department’s Jared Cohen expects that his ) ) ) social-media savvy will transform U.S. foreign policy.
  4. US confirms it asked Twitter to stay open to help Iran protesters
  5. Can Alphabet’s Jigsaw Solve Google’s Most Vexing Problems?
  6. Digital Diplomacy
  7. Campus celebrates two Rhodes, five Marshall winners Better outreach leads to the biggest total of Stanford students, recent graduates selected in one year
  8. Digital Diplomat
  9. Jared Cohen. (2007). Children of Jihad. New york: Gotham Books.
  10. Digital Diplomat
  11. Don’t Be Evil
  12. Condi’s Party Starter Jared Cohen and the State Department’s Policy Planning staff
  13. Diplomacy 2.0
  14. Inside Google’s Internet Justice League and Its AI-Powered War on Trolls
  15. Google’s Jared Cohen discusses the digital future – live Q&A
  16. GOOGLE PLANS TO LAUNCH CENSORED SEARCH ENGINE IN CHINA, LEAKED DOCUMENTS REVEAL
  17. In Saudi Arabia, where I had the opportunity to attend the majles last night and meet the new King and Crown Prince.
  18. Google’s Saudi Ties
  19. Technology in Political Affairs: Interview with Jared Cohen, Director of Google Ideas
  20. Google’s Jigsaw Was Supposed to Save the Internet. Behind the Scenes, It Became a Toxic Mess
المصدر : الجزيرة