"إيلون ماسك" والتلاعب إعلاميًا.. فنون خداع المستثمرين
كان كل ما ينقص "إيلون ماسك" (Elon Musk)، الرئيس التنفيذي لشركة "تيسلا" (Tesla)، هو أن يرقص رقصته "الساذجة" في مؤتمر الشركة الذي أُجريّ مؤخّرًا في الصين، ليُكمل بذلك سلسلة من الأفعال المُثيرة للجدل التي تضمّنت إطلاق شاحنة كهربائية بتصميم غريب فشلت نوافذها في تحمّل اختبار التحطّم الذي جرى على الهواء مُباشرةً(1)، يُضاف إليهم تغريدته الشهيرة التي ذكر فيها أن عدد الطلبات المُسبقة تجاوز حاجز الـ 200 ألف طلب(2)، وهو أمر وقف البعض عنده مُعتبرين أن ما يقوم به "ماسك" يعدّ خداعا لعقول الجميع دون استثناء(3)(4).
يُمكن لأي شخص طلب شاحنة "تيسلا" الجديدة، "سايبر تراك" (Cybertruck)، لقاء 100 دولار أمريكي فقط. هذا المبلغ قابل للاستعادة بشكل كامل لأن الشركة لن تبدأ بعمليات الإنتاج حتى نهاية عام 2021 تقريبًا، وهذا يعني أن الزبائن بحاجة لانتظار أكثر من 24 شهر قبل الحصول على الشاحنة الجديدة(5).
ما سبق يعني أن عدد الطلبات المُسبقة لو وصل إلى مليون طلب، ستحصل بموجبه الشركة على 100 مليون دولار أمريكي، إلا أن هذا المبلغ ليس نهائيًا وقد يتغيّر في أي لحظة عند رغبة الزبون في الانسحاب من جهة، ولا يُعطي، من جهة أُخرى، فكرة واضحة عن الأرباح التي ستجنيها الشركة من بيع الشاحنات الجديدة المتوفّرة بثلاثة خيارات وبأسعار تبدأ من 40 ألف دولار أمريكي تقريبًا تصل إلى 77 ألف دولار أمريكي إذا ما رغب المُستخدم في الحصول على خاصيّة القيادة الذاتيّة.
ولو أخذنا سيّارات أُخرى من إنتاج "تيسلا" مثل "موديل 3" (Model 3)، فإن الزبون بحاجة لدفع 1000 دولار أمريكي لطلبها مُسبقًا، إلا أن هذا لم يؤثّر على عدد الطلبات المُسبقة الذي وصل بعد أسبوع من الكشف عنها في 2016 إلى 325 ألف طلب، وسرعان ما ارتفع إلى 518 ألف طلب مع حلول النصف الثاني من 2017، ثم نزل إلى 455 ألف بعد انسحاب 63 ألف شخص تقريبًا من الطلب المُسبق(6). أما من ناحية إجمالي الإنتاج، فالشركة باعت تقريبًا ما يصل إلى 500 ألف سيّارة "موديل 3" منذ بداية 2018 حتى نهاية 2019، وهذا يعني أن الطلبات المُسبقة تُعطي فكرة لا بأس بها عن حجم الإنتاج المتوقّع فيما بعد(7)(8).
|
وتجدر الإشارة هنا إلى أن "موديل 3" هي تاسع أكثر سيّارة مبيعًا في الولايات المُتحدة الأمريكية خلال 2019 متفوّقة بذلك على علامات تجارية مثل "هوندا"، و"هيونداي"، بالإضافة إلى "فورد" و"نيسان" أيضًا(9). وهو الأمر الذي يُركّز عليه "ماسك" كثيرًا، فشغله الشاغل دون أدنى شك هو التسويق أولًا وأخيرًا، على الرغم من أنه يبدو "مهووس تقني" (Geek) من الخارج.
لا تنظر الشركات الكبيرة والمُستثمرين فيها إلى الأرباح بشكل دائم، خصوصًا إذا ما كانت الرؤية طويلة المدى نوعًا ما، ولعل "سناب شات" (Snapchat) و"إنستغرام" (Instagram) خير مثال على ذلك في المجال التقني، دون نسيان "أوبر" (Uber) التي ما زالت تخسر الملايين سنويًا على الرغم من انتشارها الكبير حول العالم(10)(11)، فهذا لا يعني بالنسبة لأعضاء مجلس الإدارة أن هناك مشاكل لأن هناك خبايا وأهداف داخلية لا يتم نشرها للعلن.
التركيز في مثل تلك الشركات على العلامة التجارية وانتشارها، والصورة التي تنطبع في ذاكرة المُستخدم عند سماع اسم الشركة، وهذا يُفسّر اتجاه الكثير من الشركات إلى تقديم إعلانات فيها جانب إنساني دون التركيز على المُنتج طوال الوقت، لأن التقرّب من الزبائن يجب أن يكون عاطفيا. ولا يُعتبر الوصول للزبائن هو الهدف الرئيسي، فشركة "كوكا كولا" على سبيل المثال لا الحصر صرفت خلال 2018 ما يُقارب الـ 5.8 مليار دولار أمريكي على الإعلانات، على الرغم من أنها معروفة عالميًا ولا تحتاج لصرف تلك المبالغ(12).
تلك الجهود المُستمرّة التي دفعت "كوكا كولا"، وغيرها الكثير، إلى تخصيص أرقام كبيرة للإعلانات تندرج تحت إطار "انتشار العلامة التجارية" (Brand Awareness). وفي حديثه مع "ميدان"، عرّف آندرو عزمي(14)، وهو استشاري مُختصّ في التسويق الرقمي واستسراع النمو (Growth)، بأنه مصطلح تسويقي يصف درجة معرفة المستهلك باسم المُنتج، وإنشاؤه هو خطوة أساسية وهامّة في الترويج لمنتج جديد أو إحياء علامة تجارية قديمة مثلما حدث مع العلامة التجارية "إم جي" MG البريطانية التي فشلت من الناحية المالية، إلا أن انتشار العلامة التجارية دفع شركة صناعة السيارات الصينية "سايك" SAIC للاستحواذ عليها لمحاولة إعادة إحيائها من جديد(13).
بُعد "كوكا كولا" عن العالم الرقمي قد يُفسّر سعي القائمين عليها إلى دفع المليارات سنويًا، إلا أن عزمي طرح مثال "غوغل" التي نشرت لوحات إعلانية لها في أنحاء القاهرة، وأُخرى لمُساعدها الرقمي على محور 26 "يوليو" و"كوبري 6 أكتوبر" بالرغم أنها شركة غنيّة عن التعريف. دون نسيان "أوبر" التي تصرف سنويًا ما يُقارب الـ 500 مليون دولار أمريكي على الإعلانات(15)، بالرغم أن مُعظم الأشخاص يعرفون تطبيق الشركة التي استطاعت طبع علامتها التجارية في ذاكرة الجمهور خلال سنوات قليلة.
كان لا بُد من استعراض واقع "تيسلا" وتاريخها مع الطلبات المُسبقة، بالإضافة إلى بعض المفاهيم التسويقيّة لفهم ما الذي يحدث مع "ماسك" تحديدًا، الرئيس التنفيذي الذي شارك تغريدة على حسابه في تويتر قال فيها إن عدد الطلبات المُسبقة بعد أقل من 24 ساعة وصل إلى 146 ألف، ليتبعها بأُخرى قال فيها "دون إعلانات أو دفع أية مبالغ للحديث عنها"، وهي تغريدة تُلخّص تفكير "ماسك" بكل وضوح.
|
هل كان "ماسك" بحاجة لبيع 20 ألف قاذفة لهب لتمويل شركة حفر الأنفاق (The Boring Company) التي قام بتأسيسها في 2017؟ وهل كان قبلها بحاجة لبيع 50 ألف قُبّعة لجمع مليون دولار أمريكي لنفس الشركة؟(16) وهل كان ساذجًا وعديم خبرة عندما طلب من أحد مُهندسيه رمي الحجر على النافذة الثانية للشاحنة بعد انكسار الأولى؟
"ماسك تيسلا" هو "جوبز آبل" دون أدنى شك، فالرجل الذي عندما شارفت شركته الثالثة، "سبيس إكس" (SpaceX)، على الإفلاس استثمر كل ما يملك فيها لتنجح بعد ذلك في تجربتها الرابعة وتهبط بالصاروخ الذي نجح في إطلاق مركبة إلى الفضاء لتحصل على عقد من وكالة "ناسا" بقيمة 1.6 مليار دولار أمريكي وتُحقّق إنجازات تاريخيّة غير مسبوقة بعد ذلك(17).
|
بلغ سعر سهم "تيسلا" يوم الكشف عن "سايبر تراك"، الموافق لـ 21 (نوفمبر/تشرين الثاني)، 335 دولار أمريكي تقريبًا، وهو مع انقضاء العشر الأول من 2020 يقف عند حاجز الـ 480 دولار، وهذا يعني أن الملايين التي خسرها "ماسك" نظريًّا بعد تهشّم زجاج الشاحنة أصبحت مُجرّد مبلغ زهيد لا يُمكن الحديث فيه أبدًا(18)، ناهيك عن علامة الشركة التجارية التي أثارت جدلًا واسعًا تارةً من حجم الابتكار الذي قدّمته، وتارةً أُخرى من الإحراج الذي تعرّضت له أمام الملايين، وهو شيء في كلتا الحالتين يصبّ في مصلحة "تيسلا" ويُسعد "ماسك" دون أدنى شكّ(19).
لم تحظ مهارات "جوبز" التسويقيّة التي أعادت آبل إلى الخارطة بتقدير كافٍ خلال حياته، وهو أمر يتكرّر اليوم مع "ماسك" الذي تؤخذ تغريداته فورًا ويجري تداولها ومحاولة تفسير معانيها الخفيّة للهجوم عليه، إلا أن الجميع في وقت من الأوقات سيدركون أنه حقّق قفزة نوعيّة في الكثير من المشاريع التي أشرف عليها مع فريق عمله، وهي مشاريع بدأت بـ"باي بال" (PayPal) ووصلت اليوم إلى "أوبن إي آي" (OpenAI) للذكاء الاصطناعي، و"سولار سيتي" (SolarCity) لإنتاج خلايا الطاقة الشمسيّة، دون نسيان "نيورولينك" (Neuralink) المُتخصّصة في مجال تطوير تقنيات قراءة العقل البشري للتحكّم بالحواسب(20).