التلاعب بالزمن.. هل يمكن للواقع الافتراضي أن يخلصنا من الحنين للماضي؟
من الناحية النظريّة، فإن الأجيال التي تعيش في الوقت الراهن ينبغي أن تكون سعيدة إلى حدٍّ بعيد، فالتطوّر العلمي الذي تنعم به هائل، وحجم الأمراض المُميتة في تناقص مُستمر، والبشرية قادرة على الوصول إلى المعرفة في أي وقت، ناهيك عن وسائل الترفيه التي لا حصر لها. لكن مع كل ذلك، فإن مؤشرات السعادة في انخفاض مُستمر، ومُعدّلات الاكتئاب في تزايد حول العالم(1)(2)، كما أن التقنية التي أتاحت فرصا كثيرة ساهمت في تزايد وسائل المراقبة والضبط الاجتماعي، عدا عن توظيف التقنيات الحديثة في صناعة أسلحة فتّاكة، أهلكت الكثير من البشر، ودمرت العديد من المدن.
إلا أن التقنية ذاتها بدأت في طرح عدد معتبر من الوسائل التي تساعد البشر على تحقيق قدر أعلى من "السعادة" والترفيه، بعضها ما يتجاوز بك حواجز الحاضر، ومنها ما قد يُعينك على العودة للماضي بما يحمله من عوالم خالية من وطأة الزمن الحاضر الذي نكتوي به، وتنقلك بعيدا عن كل هذا الصخب المحيط بك، فهل تُصلح التقنية ما أفسدته التقنية؟ أم أن للعلم رأيا آخر؟
|
على الرغم من وفرة المحتوى الترفيهي في "نتفليكس" أو يوتيوب مثلا، تعيش الأجيال الحالية حالة من الحنين المُستمر للماضي، للمحتوى الذي رأى النور في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وهذه ظاهرة غريبة عادة ما تُفسّر على أن بساطة الحياة آنذاك تقف خلفها، إلا أن العلم لديه رأي مُغاير نوعا ما.
حسنا، يمكن تعريف الحريّة في أبسط صورها بإمكانية الاختيار؛ فالمُستخدم قادر على مُشاهدة أكثر من مُسلسل في "نتفليكس"، أو شراء الحقيبة باللون والحجم المُناسب مع اختيار نوع القُماش المُستخدم أيضا. هذا يعني، وبما أن الحرية -بحسب التعريفات- مُرتبطة بالرفاهية الماديّة، أن الشخص بحاجة إلى الحصول على دخل عالٍ للحصول على الحريّة التي تجلب السعادة. لكن هذا الأمر لا يحدث أيضا، فمُعدّلات الانتحار بين الأثرياء والمشاهير ليست قليلة(3). وأي شخص عادي يقوم باستبدال سيّارته سيشعر بسعادة عابرة تنتهي بعد فترة من الزمن، ليبدأ من جديد بالبحث عن سيّارة أُخرى ويضعها كهدف يعمل ويرفع من مستوى دخله من أجلها، ليتكرّر شعور السعادة العابر من جديد.
الكاتب "مارك مانسون" (Mark Manson) في كتابه الأخير "خراب" (Everything is F*cked) لديه رأي مُغاير تماما حول الحريّة، فالأمثلة السابقة لا تعني الحريّة فعلا، بل هي مزيد من الخيارات فقط، وهنا يختلط الأمر على الجميع، لأن الحريّة في أحد أوجهها هي الامتناع عن القيام ببعض الأمور، وليست القيام بها جميعها(4).
|
دعنا من مثال الحقائب والسيّارات، ولنأخذ الديمقراطية كمثال عن الحريّة الحقيقيّة، أي عن العملية الديمقراطية التي تُمارس في الدول "المُتقدّمة". عند التصويت لحزب ما في الانتخابات وخسارته، فإنه يجب على الشخص المؤمن بالديمقراطية أن يقبل بالنتيجة حتى وإن لم تعجبه، وذلك أن المصلحة العامة تقتضي ذلك. صحيح أنه يمتلك خيار النزول والاحتجاج على تلك النتيجة، لكن هذا الخيار لا يُعبّر في حقيقته عن الحريّة التامة بقدر ما ينم عن حالة من الفوضى، طالما أن الانتخابات جرت ضمن إطار شفّاف دون تلاعب.
أما عن السبب وراء اعتقاد أن مزيدا من الخيارات تعني مزيدا من الحريّة فهو تسويق الشركات، لأن التطوّر نوعان، ثوري وثانوي (انشقاقي). الأول كتطوير دواء جديد يقضي على ارتفاع مستوى السُكّر في الدم أو تطوير سيّارة كهربائية، وهو مُكلف جدا. أما الثاني، فهو كتقديم سيّارة كهربائية بشاشة تعمل باللمس، أو تقديم هاتف ذكي بكاميرا أعلى دقّة، وهذا تطوّر ذو عائدات عالية للشركات. ومن هنا، تُقدّم الشركات مُنتجاتها الثانوية على أنها أدوات ستمنح أصحابها قدرات خارقة، مما يدفع الكثيرين للإسراع باقتنائها بحثا عن تلك السعادة التي ستكون آنية، والتي في حقيقتها تختفي فور الحصول على المنتج.
إذن، بهذه البساطة يُمكن فهم السبب الذي يقف وراء عدم الاكتفاء أو الشعور بالسعادة من المحتوى الحالي على شبكة الإنترنت. لكن ماذا عن ظاهرة الوحدة والانعزال المُنتشرة على الرغم من "شبكات التواصل الاجتماعي" وتطبيقات "التواصل الفوري" التي قرّبت كل بعيد؟ أليس من المُفترض أنها جاءت لتعزيز التواصل بين البشر عبر توفير اتصال دائم ببعضهم البعض؟
يُفضّل الإنسان العيش ضمن جماعات بشكل دائم، فالبشر كائنات اجتماعية بطبيعتها(5). وبحسب كتاب "إيكيجاي" (ikigai)، الذي يتحدّث عن أسباب طول العمر والسعادة في بعض الجُزر اليابانية(6)، فإن العلاقات الاجتماعية القويّة سبب من أسباب استمرار الأفراد بدون مُستوى عالٍ من التوتّر والاكتئاب. هذه النتيجة تُفسّر ما أفسدته التقنية وأسباب الحنين للماضي.
يُمكن لأي شخص اليوم التوجّه لموقع يوتيوب ومُشاهدة ما يحلو له من مقاطع مع إمكانية مُشاركتها مع الأصدقاء. وكلما زاد عدد الإعجابات والتعليقات، شعر الفرد بالانتماء أكثر. لكن بعد فترة، تختفي تلك المشاعر أيضا. ويلجأ الفرد هنا لاستهلاك مزيد من المُحتوى، لكنه لا يشعر بالترفيه أبدا على الرغم من آلاف الخيارات، وهذا بسبب الترابط الاجتماعي الذي تحدّث عنه كتاب "إيكيجاي".
عند التفكير في تسعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال لا الحصر، فإن الغالبية تشعر بالحنين تجاهه. لماذا؟ لأن المحتوى كان محدودا، أو أن الخيارات التي يُمكن مُشاهدتها على التلفاز كانت محدودة جدا. وهذا يعني أن الأفراد عادة ما يُتابعون مُسلسلا واحدا، ويقومون في اليوم التالي بالحديث عنه وعن ما جاء فيه بكل شغف، وهذا يمنحهم شعورا بالتواصل مع أفراد بيئتهم، ومن هنا يمكن تفسير، ولو بصورة جزئية، سببا من أسباب انخفاض مُعدّلات الاكتئاب أو الانعزال. أما الآن، فكلٌّ يُغنّي على ليلاه كما يُقال، وما أُشاهده أنا قد لا تُشاهده أنت، والعكس صحيح، وهذا يعني أن إمكانية إنشاء حلقة تواصل عبر مُشاهدة شيء مُشترك للحديث عنه أصبحت ضئيلة، وبالتالي يرغب البشر في العودة من جديد لتلك الحقب الزمنية، ليشعروا بمزيدٍ من السعادة. ناهيك عن أن التفسيرات الاجتماعية والنفسية للحنين للماضي أو ما يُعرف بالنوستالجيا، تستند في أحايين كثيرة إلى أن الماضي تبقى منه الذكرى، والذكرى ليست الحدث، وإنما ما عَلِق في مساحة الشعور، وبالتالي فإننا ننظر للماضي باعتباره أقل تعقيدا، وأكثر حميمية، لأننا نستنثني منه كثيرا من تفاصيله المركبة والمعقّدة التي تشكل في حقيقتها واقعنا المعاش على اختلاف الأزمنة والأمكنة.
باختصار، فإن شبكة الإنترنت التي وفّرت ملايين الوسائل للوصول للمعرفة والترفيه والتواصل هي نفسها المسؤولة عن الشعور بالوحدة وعدم الانتماء. لكنها من جديد قد تمتلك فرصة ذهبيّة لإصلاح ما أفسدته، فهل تكون قادرة على ذلك؟
بعد الانتقال من استهلاك المحتوى على التلفاز، إلى الحاسب، ومنه إلى الحواسب اللوحية والهواتف الذكية، ظهرت النظّارات الذكيّة كنوع جديد يُغني عن مجموعة من تلك الأجهزة. لكن هذا النوع من الأجهزة، وخصوصا نظّارات الواقع الافتراضي، ستفرض مستوى أعنف من الانعزال، فأي شخص سيُصبح قادرا على الهروب إلى واقع افتراضي يُفضّله دون حتى أن يتمكّن الغير من رؤيته، لكن قد يكون لدى فيسبوك، التي تسبّبت في مجموعة كبيرة من الآفات النفسية، حل بسيط يتمثّل في التقنية الاجتماعية عبر فضاءات الواقع الافتراضي (VR Spaces).
وبما أن كل شخص يُشاهد ما يُريده على شبكة الإنترنت، فإن انعكاسات ذلك تقود للتجزئة بين أفراد المُجتمع الواحد، فنظّارات الواقع الافتراضي مثلا، وبعد الاستفادة من الفضاءات الافتراضية، قد تكون حلًّا قابلا للتطبيق لأن يشاهد الفرد مع مجموعة من أصدقائه في الوقت نفسه المحتوى نفسه، الأمر الذي سيُمكّنهم من الحديث عنه في مشهد اجتماعي غاب لفترة من الزمن.
من الناحية التقنية، فإن المُستخدم لا يحتاج سوى إلى نظّارة الواقع الافتراضي، وإلى اتصال بشبكة الإنترنت، بالإضافة إلى فضاء افتراضي لدعوة أصدقائه إليه، وهي عناصر متوفّرة في الوقت الراهن ويُمكن لأي شخص الوصول لها. ومن الناحية العلمية النفسيّة، وبعد معرفة أسباب الحنين لمحتوى العقود المُنصرمة، فإن تلك الفضاءات تبدو حلًّا سيُغلق تلك الثغرة، وكل فضاء سيُشكّل مُجتمعا يمتلك مُعظم أفراده الذوق العام نفسه.
لكن في المُقابل، وبما أن هذه الظواهر والتقنيات جديدة كُليًّا على الإنسان، فإنه ينبغي الحذر من قبول أنصاف الحلول فقط، فلا يجب الاكتفاء باستخدام فضاءات الواقع الافتراضي، أو أية صيحات تقنية جديدة، دون الاهتمام بالدراسات المُستمرّة التي تجري عليها لتجنّب تأثيراتها النفسية الضارّة، وإلا فإن لوم المُحتوى والتقنية ومُساهمتهما في تفكّك الشبكة الاجتماعية لن يفيا بالغرض لأننا لا نمتلك فقط رفاهية المحتوى والاختيار في الوقت الراهن، بل رفاهية مُتابعة العلوم وآخر نتائجها أولا بأول. وبما أننا كائنات اجتماعية، فقد تكون المُشكلة بالأساس في طريقة التواصل وكيفيته، لا في كثرته.