آيبود.. حكاية أجهزة غيّرت تاريخ شركة آبل

الأجهزة السابقة لم تكن الأولى من ناحية الوصول إلى الأسواق، لكن رؤية الشركة ساهمت في وضعها بين الكبار بسهولة تامة، تلك الرؤية التي وضع ستيف جوبز (Steve Jobs) حجر أساسها عام 2001 بدأت في أجهزة صغيرة توضع داخل الجيب لتشغيل الموسيقى، وهي لم تكن الأولى أيضا، لكنها كانت الأفضل دون أدنى شك.
أجهزة "آيبود" (iPod) التي وصلت إلى الأسواق قبل 16 عاما قرّرت آبل وضع حد لمسيرتها الناجحة، والتوقّف عن إنتاج جميع الإصدارات باستثناء "آيبود توتش" (iPod Touch) الذي لن يصمد كثيرا مع وجود "آيفون إس إي". (4)

مع بداية الألفيّة الجديدة كان سوق مُشغّلات الموسيقى المحمولة مُكتظا بالكثير من المُنتجات التي كانت تسمح وقتها للمستخدم بوضع قرص ليزري وتشغيله، أو تلك التي يُمكن تخزين الموسيقى عليها، لكنها بالكاد تتسع لأكثر من ألبوم موسيقي واحد.
وبعيدا عن مشكلات السعة كانت تلك المُشغّلات كبيرة الحجم، تُزعج المستخدم أثناء حملها وتتشابه جميعها من ناحية التصميم، فالمصانع كانت واحدة تقريبا، والاختلاف يكمن فقط في العلامة التجارية.
بدأ جوبز في ذلك الوقت رفقة مُهندسي آبل في تحويل حواسب "ماك" (Mac) إلى محطّة رقمية (Digital Hub)، حيث ركّزت الشركة على تطوير برنامج لتحرير مقاطع الفيديو، وآخر لتحرير الصور وتنظيمها ضمن مكتبة، وأخيرا برنامج لتنظيم مكتبة المستخدم الموسيقيّة، وهنا الحديث عن برنامج "آيتونز" (iTunes) الذي بدأ شرارة التغيير في شركة آبل(5).
جوبز بطبعه عاشق للعثور على الثغرات في السوق، وبعد سنوات طويلة من البحث في مجال الحواسب وتطويرها، قرّر خوض غمار تحدٍّ جديد وأوكل هذه المهمّة إلى جون روبينشتاين (Jon Rubinstein) أحد المُهندسين المسؤولين عن العتاد في شركة آبل.
طلب جوبز من روبينشتاين دراسة إمكانية إنتاج مُشغّل موسيقي يختلف عن الموجود في السوق، مُشغّل بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس مُجرّد جهاز رقمي آخر يُضاف إلى رفوف المتاجر. وكما هو الحال في جميع حكايات النجاح، لا بد للفشل من إيجاد طريقه، وبعد أسابيع قليلة عاد روبينشتاين خائب الأمل ذاكرا أن أحجام الأقراص الصلبة كبيرة جدا ولا تخدم فكرة آبل، رفقة البطّاريات التي كانت هي الأُخرى عائقا في وجه الشركة(6).
وشاء القدر أن يقوم روبينشتاين بزيارة مصانع شركة توشيبا اليابانية الذين عرضوا عليه قرصا صلبا بحجم 1.8 بوصة فقط، ذاكرين أنه مُجرّد نموذج لا يعلمون أين يُمكن استخدامه، وكأنه القدر يُخبر مُهندسي آبل أن أجهزة "آيبود" يجب أن ترى النور، لأنها ستُغيّر مجرى الشركة على مدار التاريخ(7).
في حقيقة الأمر لم تكن مهمّة تصميم المُشغّلات الموسيقية في يد روبينشتاين فقط، بل كان فريق التسويق يعمل عليها ويدرس النماذج الموجودة في الأسواق والمشكلات الموجودة فيها |
استعان روبينشتاين بعد ذلك بأحد أهم الأسماء في مجال العتاد، وهو طوني فاضل (Tony Fadell) الذي كان يعمل لصالح شركته الخاصّة آنذاك، والذي وافق وبدأ أبحاثه من (يناير/كانون الثاني) تقريبا حتى شهر (أبريل/نيسان) 2001 حول إمكانية تطوير مُشغّل موسيقي، ليقوم بعد ذلك بعرض ثلاثة نماذج على جوبز.
يتشارك فاضل وجوبز في حب الابتكار والتمرّد على كل شيء، ولهذا السبب، ورغم ضيق الوقت، رتّب فاضل النماذج الثلاثة على حسب الأفضلية، تاركا النموذج الأفضل للأخير، وكأنه على دراية بطبع جوبز ورؤيته لهذا الجهاز. وبالفعل، نال النموذج الأخير إعجاب جوبز، كما حصلت فكرة القرص الرقمي على إعجابه كذلك، وهي الفكرة التي قدّمها آنذاك فيل شيلر (Phil Schiller) مسؤول التسويق في شركة آبل حاليا.
في حقيقة الأمر لم تكن مهمّة تصميم المُشغّلات الموسيقية في يد روبينشتاين فقط، بل كان فريق التسويق يعمل عليها ويدرس النماذج الموجودة في الأسواق والمشكلات الموجودة فيها، وبحسب شيلر فإن الانتقال بين الأغاني الواحدة تلو الأُخرى كان من الأمور المزعجة في هذا النوع من الأجهزة، ومن هنا جاءت فكرة وجود قرص رقمي يسمح بالانتقال بين الأغاني بسرعة كبيرة.

حافظت آبل على سرّية المشروع بشكل كبير جدا، فجميع النماذج التي كانت تُطوّر في المُختبرات كانت مُشوّهة نوعا ما، بحيث يتم وضع الدارات الكهربائية ضمن صناديق كرتونية، ويتم تثبيت الشاشة على جهة، والقرص الرقمي على جهة أُخرى، لتبدو أجهزة غبية لا فائدة منها(14).
تسمية الجهاز لم تكن عشوائية، بل كانت عن طريق فيني تشيكو (Vinnie Chieco)، وهو مُحرّر وكاتب مُستقلّ أرسل له جوبز نموذجا وطلب منه تسميته. تشيكو ذكر أن الجهاز كان غريبا نوعا ما، ولا يُشبه أي شيء موجود في الأسواق، وبدا على أنه قادم من مركبة فضائية، وتحديدا الوحدات الموجودة فيها. ومن هنا، أطلق الكاتب اسم "بود" (Pod) الذي أُلحق به حرف "آي" (i) الشهير في منتجات آبل لتخرج تسمية "آيبود" بشكل رسمي(8).
نجح فاضل وفريق عمله خلال ثمانية أشهر تقريبا في الخروج بجهاز من العدم، لتقوم آبل بعقد مؤتمر في (أكتوبر/تشرين الأول) 2001 للكشف عن الجهاز الجديد الذي لم يكن يتوقّعه أحد، باستثناء بعض الجهات الإعلامية التي حرص جوبز على مراسلتها بشكل شخصي قبل وبعد المؤتمر(12).
عندما فكّر جوبز في اقتناص الفرصة ودخول عالم المُشغّلات الرقمية استغلّ الثغرة وانطلق منها، وخلال المؤتمر ركّز على تلك الثغرة نفسها، فرغبته لم تكن في دخول السوق فقط، بل في تقديم مُنتج حقيقي. "الموسيقى جزء مهم جدا من حياة البشر، ولأنها كذلك فهي لا تعرف حدودا أبدا على مستوى العالم"، هكذا بدأ جوبز كلامه في الكشف عن الجهاز الجديد الذي غيّر تاريخ شركة آبل للأفضل.
استمرّ جوبز في التمهيد مُتطرّقا للمشغّلات الموجودة وتصاميمها ومشكلاتها ليضرب ضربته القاضية بالكشف عن "آيبود"، ذاكرا أنه جهاز ضخم جدا من الناحية التقنية لأنه قادر على احتواء حتى 1000 أغنية تقريبا، أي المكتبة الموسيقية الخاصّة بالمستخدم، ولا حاجة لحمل الأقراص المرنة أو تحديد مجموعة صغيرة من الأغاني فقط.
ولم يكن حال أجهزة "آيبود" أفضل من حال أجهزة "آيفون" من ناحية النقد المُباشر الذي تعرّضت له، فتسعير "آيبود" بـ 400 دولار أميركي تقريبا كان ضربا من الجنون بالنسبة للبعض، وراهن البعض الآخر على فشله حتى قبل أن يصل إلى الأسواق، لكن شعار الشركة عامل مهم للتسويق ولم تتأثّر بتلك الأمور أبدا.
ربط جوبز آنذاك مبيعات آيبود مع مبيعات حواسب "ماك"، ولهذا السبب رفض فكرة تطوير نسخة من "آيتونز" لنظام ويندوز، وهو أمر أصرّ عليه فاضل أكثر من مرّة، لكن دون جدوى. من ناحية المبيعات، حقّقت آبل بسبب إطلاق الجهاز في (نوفمبر/تشرين الثاني) -وهو الشهر الذي تبدأ فيه فترة الأعياد- مبيعات وصلت إلى 125 ألف جهاز تقريبا، لتقوم في (مارس/آذار) 2002 بإطلاق جيل جديد مُزوّد بمساحة تخزين 10 غيغابايتات، بعدما حمل الأول مساحة تخزين 5 غيغابايتات فقط(7).
استسلم جوبز لمطالب فاضل، وأطلقت الشركة نسخة من "آيتونز" لنظام ويندوز مع إطلاق الجيل الثاني، لتُعلن خلال 2002 عن بيع 600 ألف جهاز. واستمرارا مع رصد مُتطلّبات السوق، جهّزت آبل متجرها الإلكتروني لشراء الموسيقى بالتزامن مع إطلاق الجيل الثالث في (أبريل/نيسان) 2003، وهو متجر زوّد بـ 200 ألف أغنية تقريبا لقاء 0.99 دولارا للأغنية الواحدة، لتُغيّر بذلك إنتاج الموسيقى في ظل الثورة الرقمية التي ظهرت معها ظاهرة تحميل الألبومات الغنائية مجانا ونشر النسخ المُقرصنة.

مثّلت أجهزة "آيبود" عجلة نجاح سريعة جدا بالنسبة لآبل، فهي مع حلول (سبتمبر/أيلول) -أي بعد ستة أشهر على إطلاق المتجر- أعلنت عن تحميل أكثر من 10 ملايين أغنية عن طريقه، وهو رقم وصل إلى 25 مليونا مع حلول الشهر الميلادي الأخير من العام نفسه، لتُعلن آبل عن بيع مليوني جهاز خلال 2003، ليشهد العام الذي يليه تقديم أجهزة "آيبود نانو" (iPod Nano) الصغيرة للمرّة الأولى، العام الذي شهد مُنتصفه إطلاق الجيل الرابع من "آيبود" بالتزامن مع وصول عدد الأغاني المُحمّلة من متجر "آيتونز" إلى 100 مليون أغنية، أما المُحصّلة النهائية لذلك العام فكانت 10 ملايين جهاز(9).
عام 2005 شهد أيضا تقديم جهاز جديد، وهو "آيبود شفل" (iPod Shuffel) الذي قُتل في 2017 رفقة "آيبود نانو". وبدأت بذلك الأجيال تتعاقب الواحد تلو الآخر بعد تغيير الألوان والسعات الداخلية فقط، واستمرّت آبل كذلك في توفير أغانٍ جديدة، والتعاقد مع شركات جديدة في مجال الإنتاج الموسيقي ليُصبح متجر "آيتونز" المكان المُحبّب للجميع حول العالم لتحميل الموسيقى بأفضل جودة.
في (أبريل/نيسان) 2007 أعلنت آبل عن بيع أكثر من 100 مليون جهاز "آيبود"(10)، وهو رقم كبير في تاريخ الشركة على اعتبار أنها شركة حواسب ولم تُركّز سابقا على مجال الإلكترونيات الاستهلاكية. لكن العام نفسه شهد الكشف عن "آيفون" الذي ساهم بدوره في ظهور "آيبود توتش" (iPod Touch) للمرّة الأولى، وهو الإصدار الوحيد الصامد حتى الآن في جعبة الشركة، ليصل إجمالي الأجهزة المُباعة في سنة 2008 إلى 197 مليون جهاز، ومع حلول 2011 باعت الشركة 300 مليون جهاز تقريبا(13).
أجهزة "آيبود نانو" من الأجهزة التي تركت بصمة عند جميع المستخدمين، خصوصا مع ألوانها المُختلفة وحجمها الصغير جدا وشكلت علامة فارقة في تاريخ الشركة |
في 2014 بدأت عادات آبل في التغيّر، فبعدما أفردت مساحة خاصّة في مؤتمراتها للحديث عن مبيعات "آيبود" بالأرقام، قامت بنقله لفئة تضم مُنتجات أُخرى على غرار أجهزة "آبل تي في" (Apple TV) وسمّاعات الشركة المُختلفة. كما قامت كذلك بإيقاف "آيبود كلاسيك" بشكل رسمي، لتُعلن وبشكل غير مُباشر أن مبيعات تلك الأجهزة آخذة بالانخفاض وأن النهاية قادمة لا محالة، فلا شيء يستمر على حاله(11).
كانت أجهزة "آيبود نانو" من الأجهزة التي تركت بصمة عند جميع المستخدمين، خصوصا مع ألوانها المُختلفة وحجمها الصغير جدا، والتي شكّلت علامة فارقة في تاريخ الشركة رفقة السمّاعات البيضاء التي كانت هي الأخرى من العلامات الفارقة آنذاك مع سيطرة السمّاعات السوداء.
"آيبود" كأجهزة بشكل عام غيّرت تاريخ شركة آبل بالكامل من شركة مُتخصّصة في مجال تطوير وإنتاج الحواسب وأنظمة التشغيل إلى شركة لإنتاج الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، وهو أمر أصبح في الحمض النووي الخاص بها، كيف لا والتصاميم الأوّلية لهواتف "آيفون" كانت عبارة عن أجهزة "آيبود" مع إمكانية إجراء المُكالمات.
"آيبود" و"آيفون" من الأجهزة التي ستبقى عالقة في تاريخ آبل ولن تُنسى أبدا، ولا يُمكن مقارنتها مثلا بحواسب "آيباد" اللوحية أو ساعات آبل الذكية (Apple Watch)، فمن ناحية شرارة البداية والانتشار الكبير تتفوّق الأولى التي جاءت بعد رصد ثغرة وفراغ في السوق، ثغرة لا يوجد سوى شخص واحد قادر على استغلالها وإغلاقها بمُنتج بهذا الإتقان.