شعار قسم ميدان

فينيسيوس جونيور.. هل يمكنك أن تشير بالهبوط لجماهير ملعب كامل؟

بالنسبة لخافيير سوليس، المتحدث الرسمي باسم نادي فالنسيا، فالإجابة كانت لا طبعا. لا يمكنك أن تشير بالهبوط لجماهير ملعب كامل. في بيانه الرسمي عقب المباراة، قالها بوصفها قاعدة مُطلقة مستقلة بذاتها منقطعة الصلة بالسياق والمقدمات:

"بالنسبة لما حدث مع فينيسيوس، فلا يمكنك أن تشير بالهبوط لجماهير ملعب كامل!". (1)

كانت تلك العبارة هي نهاية إجابته عن أحد الأسئلة، ولم يشعر سوليس بحاجة إلى التفسير أو التبرير أو التعقيب، وكأنه فرغ من ترديد قانون حركة نيوتن مثلا؛ حقيقة كونية فيزيائية محصنة مُثبتة، كافية وحدها لإنهاء النقاش والجدل.

خدعة البديهيات

من فرط بداهة العبارة، لم يطرأ ببال أحد الصحفيين الموجودين أن يسأله عن السبب. طبعا كلنا نعلم لماذا لا يمكن للاعب أن يشير بالهبوط لجماهير ملعب كامل، ولا يوجد طفل شاهد مباراة كرة قدم واحدة لا يعلم ذلك. لماذا لا يمكن لفينيسيوس جونيور أن يشير بالهبوط لجماهير ملعب كامل؟ هذه بديهيات لا تحتاج إلى شرح أو توضيح.

المشكلة أن تلك هي مشكلة البديهيات بالضبط؛ أنها، كونها بديهيات، نادرا ما تُفسَّر. هل رأيت باب منزل يُفتح إلى الخارج من قبل؟ غالبا لا. هل تعلم السبب؟ ليس بالضرورة، ولكنك متأكد أن هناك سببا منطقيا يجعل كل أبواب المنازل تفتح إلى الداخل. هل رأيت لاعبا يشير لجمهور ملعب كامل بإشارة عدوانية من قبل؟ بالتأكيد، عشرات المرات، وبعضها حمل تلميحات جنسية كذلك. هل تعلم السبب لقول سوليس إن حدوث ذلك غير ممكن؟

هذا سؤال استفهامي وليس استنكاريا؛ لماذا لا يمكن لفينيسيوس أن يشير بالهبوط لجماهير ملعب كامل؟ هل لأنه ملعب فالنسيا والمتحدث هو ممثل للنادي ذاته؟ هل لأنهم كثيرون وفينيسيوس رجل واحد فقط؟

الإجابة بسيطة؛ لأن كل مَن فعلوها، أو أغلبهم على الأقل، عُوقبوا فورا من السلطات المختصة. عندما قال سوليس إن فينيسيوس لا يمكنه الإشارة بالهبوط لجماهير ملعب كامل، كان يرتكز على تاريخ طويل من السوابق لهؤلاء الذين فعلوها وحصلوا على عقاب مناسب. عند لحظة ما، قررت الأغلبية أن هذا التصرف غير مقبول، وبغض النظر عن الظروف والاعتبارات، وبالتالي أصبح موجبا للعقاب.

عند هذه اللحظة تكتشف ألا شيء يفند تلك القاعدة بقدر تلك القاعدة ذاتها؛ إذا كانت الإشارات المستفزة أو العدائية أو الجنسية للجمهور مرفوضة بغض النظر عن الظروف والاعتبارات، وبالتالي تُوجِب العقاب الحاسم والفوري، فهل تنطبق القاعدة ذاتها على الإشارات والهتافات العنصرية كذلك؟ المنطق يهز رأسه إيجابا، إذن لماذا لم يقل سوليس إنه لا يمكن لجمهور ملعب كامل أن يُشبِّه إنسانا بقرد أو يتمنى موته؟ (2)

مرة أخرى، الإجابة شديدة البساطة؛ لأنه جمهور ملعب كامل. لا يوجد تفسيرات أخرى هنا، كل الحجج القديمة عن صعوبة تمييز الوجوه وسط الجموع، أو صعوبة تمييز الهتافات وسط الصخب، أو ما إذا كانت حوادث فردية منعزلة أو نمطا جماعيا متكررا، لم تعد تنطبق. بعد بيان سوليس بساعات كانت الشرطة الإسبانية قد تمكنت من التعرف على بعض الوجوه وبدأت تحقيقاتها بالفعل. (3) (4)

لو كان كل العنصريين يُعاقَبون على الفور بالحسم والسرعة نفسها، لما احتاج أنشيلوتّي إلى عبارات بديهية يقنع بها العالم أن سباب عشرات الآلاف وهتافاتهم العنصرية كافية لإيقاف المباراة، وربما لما احتاج إلى الحديث عن الأمر في المؤتمر الصحفي أصلا، وكانت الأمور ستجري في مسارها الطبيعي والجميع متيقن من حصول الجُناة على العقاب القانوني.

كرة القدم ونفاق الجماهير

لماذا لا يحصل الجُناة على عقابهم القانوني؟ هذا سؤال بديهي آخر لا نعلم إجابته؛ إذا خرجنا من واقعة فينيسيوس للسياق العام، فسنكتشف أن كرة القدم، عبر رجالها ومسؤوليها، لا تزال مصممة على الاحتفاظ بتقاليدها الراسخة في نفاق الجماهير. الكثيرون منهم لا يمانعون تحصيل أثمان خرافية مقابل التذاكر واشتراكات البث، أو تعيين أصدقائهم وثقاتهم في مناصب حساسة، أو حرمان المدير الفني من صلاحياته، أو البحث عن المجد الشخصي على حساب مصلحة النادي، وفي مقابل كل ذلك، يرددون شعارات براقة لا معنى لها في مثل هذه المواقف، شعارات عادة ما تقي الجمهور شر أفعاله. (5)

لهذا هو نفاق. سوليس لم يقل ما قاله لأنه يعتقد صدقا أن جمهور فريقه لا يمكنه أن يهتف هتافات عنصرية ضد لاعبي الخصم، ولكن لأنه يخشى ردة فعلهم ببساطة، أو ربما لأنه يعتقد أنه لا يملك تغيير الواقع، ومع الوقت، وبلا وعي، يتحول العجز عن تغيير الواقع إلى رغبة ضمنية في تكريسه.

بعض الباحثين في علم النفس يطلقون على تلك الظاهرة اسم "الدرجة المفقودة" (The Missing Stair)، والمقصود هو الخلل الجماعي الذي يعانيه مجتمع ما، ولكن لا يملك تغييره لسبب أو لآخر، مثل اعتياد إلقاء القمامة في الشوارع مثلا، أو البناء العشوائي بدون ترخيص، أو غيرها من الظواهر التي غالبا ما تحمل أسبابا أعمق يصعب تفكيكها. (6)

أصل التسمية يعود إلى قصة متداولة عن بيت به درجة مكسورة، يجتمع السكان للاتفاق على إصلاحها فيختلفون على مَن يجب أن يتحمل التكلفة؛ البعض يعتقد أن سكان الدور نفسه يجب أن يصلحوها، فيقول سكان الدور إن سكان الأدوار الأعلى يستخدمونها كذلك، ولذا يجب عليهم المشاركة، وفي النهاية، لا يتفقون ويظل الوضع على ما هو عليه.

بعد فترة، يأتي ساكن جديد للبناية، فيتساءل السؤال البديهي المتوقَع عن الدرجة المكسورة، فيخبرونه بما حدث، ثم يأتي آخر، وهكذا، وبعد فترة، تتحول تلك الدرجة إلى واقع متفق عليه، ولأنه متفق عليه، يغضب السكان عندما يحاول أي ساكن جديد تغييره، بل ويهاجمونه بضراوة لأنه عاجز عن تقبل الخلل الذي اعتادوه.

هذا هو العائق الأول الذي يقف أمام وضع نهاية حقيقية لكل تلك الوقائع، سواء كانت مع فينيسيوس أو غيره؛ الاعتياد، الخلل المستقر الذي حفر مكانه في وعي المجتمع تدريجيا أكثر خطورة بما لا يُقاس من التهديد المفاجئ القريب، لأنك حينها لن تحارب هذا الخلل وحده، بل ستحارب أيضا عشرات الحجج والتخريجات التي أنتجها المجتمع ذاته عبر السنوات لتبريره.

مَنْطَقَة الفوضى

فلنعد بالزمن إلى واقعة سترلينغ في ستامفورد بريدج منذ بضع سنوات؛ في خلال ساعات، كانت الشرطة قد تعرفت على الجناة ومنعتهم من دخول الملعب للأبد. هل انتهى الموضوع؟ بالطبع لا، ولكن الاستجابة السريعة قضت على الكثير من الهراء في مهده، ووأدت التفسيرات والتبريرات التي كانت ستُساق لاحقا لكي يستمر الجميع في حياته دون أن يضطروا لمواجهة الدرجة المكسورة. (7) (8) (9)

هذا نقل الموقف كله إلى درجة أعلى، وعندما كتب ستيرلنغ حينها على حسابه على إنستغرام، لم يكن يناقش عدد الجناة، أو إمكانية تمييزهم، أو كم مرة تكررت الوقائع المشابهة، أو غيرها من التساؤلات البديهية التي قضى فينيسيوس أياما في البحث عن إجاباتها، بل انتقل الحديث كله إلى درجة أرقى، عن الأسباب الكامنة لتفشي العنصرية بهذه الدرجة، والمعالجات الصحفية العنصرية للأخبار، التي تروج لأنماط مجتمعية عنصرية بدورها دون التفوه بلفظ عنصري واحد. (10) (11) (12)

إسبانيا، فيما يبدو، لا تزال عالقة في المراحل الأولى البدائية؛ هناك آلاف هتفوا بموت لاعب من الخصم، ووصفوه بالقرد، وأتوا بحركات القرود أمامه، ورغم ذلك، أُنفقت المؤتمرات الصحفية في التبرير، ووقف أمامنا رجل ينكر الواقع، حاملا عصا الجمهور خلف ظهره، وكأنه يبتز الضحايا أو يستفزهم حتى يقعوا في المحظور.

في كرة القدم، المحظور هو أن تختصم الجمهور. الجمهور دائما على حق واللعبة وُجدت من أجله. حسنا، ماذا لو كان الجمهور عنصريا فعلا؟ هل ستكون الواقعة الأولى في التاريخ؟ ألم يكن هناك عشرات الملايين من البشر الذين آمنوا بأن السود يستحقون معاملة أدنى حتى خمسين وستين عاما مضت؟ ما الذي يمنع أن يجتمع عشرات الآلاف من العنصريين في مستايا أو كامب نو أو واندا متروبوليتانو أو سيراميكا؟ (13) (14) (15)

منطقيا؛ لا شيء، ومنطقيا؛ لا شيء يمنع عقابهم أو وصفهم بالعنصريين لو كانوا كذلك. في الواقع، كانت حجة سوليس الرئيسية في المؤتمر الصحفي شديدة التهافت والهشاشة، إذ يصعب التخيل أن رجلا مثل أنشيلوتّي، قضى أربع سنوات كاملة في مدريد، وتعامل، عبر مسيرته المهنية الممتدة من السبعينيات، مع عشرات الإسبان، ووقف على الخط خلال مئات المباريات في ملاعب إسبانيا، وسمع خلالها آلاف الهتافات العنصرية وغيرها، ومشى في الشوارع، وأكل في المطاعم، واحتد في النقاش، وباع واشترى، وقاد سيارته، وصنع العشرات من الأصدقاء، لا يستطيع التفرقة بين لفظتي "قرد" و"غبي" بالإسبانية. هل كان الأمر مجرد "خطأ في الترجمة" حقا؟ أصلا متى رأيت عشرات الآلاف من المناصرين في أي ملعب في العالم يهتفون "غبي"؟

كل هذا الجدل والنقاش لم يكن ليحدث لو كانت العنصرية تُعامل بوصفها جريمة حقيقية في إسبانيا، لأنها -كما قال الجناح الشاب- ليست المرة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، وفي كل مرة، كان الجناة يُفلتون من العقاب لأسباب مختلفة شديدة التهافت والهشاشة بدورها. الحل بسيط؛ على الجميع، في إسبانيا وخارجها، أن يعاملوا العنصرية على أنها جريمة تستحق العقاب العادل الحاسم السريع، وحتى يحدث ذلك، ربما لا يملك فينيسيوس أو غيره إلا أن يشيروا للعنصريين بهبوط فريقهم. على الأقل كان هذا احتمالا واردا قابلا للتحقق في تلك اللحظة، على عكس أي تشبيهات لفينيسيوس بالقرود.

________________________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة