شعار قسم ميدان

من مصر إلى "العالمي".. محمد صلاح الذي يشبهنا!

BOURNEMOUTH, ENGLAND - MARCH 11: Mohamed Salah of Liverpool runs with the ball during the Premier League match between AFC Bournemouth and Liverpool FC at Vitality Stadium on March 11, 2023 in Bournemouth, England. (Photo by Luke Walker/Getty Images)
(Getty)

إذا ألقيت نظرة على مواقع التواصل الاجتماعي خلال أي فترة يتحول فيها محمد صلاح إلى "تريند"، فيمكنك بكل سهولة ملاحظة اهتزاز شعبيته في مصر، هناك العديد من الأحداث التي جَدَّت على قصة الفرعون المصري مع أبناء وطنه خلال السنوات الأخيرة، وكل لحظة فيها كانت بمنزلة ضربة تجعل الخيط الذي يربطهم به أضعف، أو بالأحرى يجعله عالميا أكثر من كونه مصريا في روايات عديدة.

 

ولكن رغم ذلك، تأتي لحظات يخضع فيها الجميع لجمالية القصة التي تبدو أجمل من تفاصيل ثانوية تشوِّهها، تجد حفاوة غريبة ببعض اللقطات وكأننا في 2018، وكأن الحكاية بدأت للتو، وكأن كل الأشياء التي عكَّرت صفو حكايتنا لم تحدث، تجد المصري الذي يصرّح بأنه لم يعد يحب "مو" يصرخ ويصفق ويضع يديه على رأسه في لحظة انبهار، تلك اللحظة التي تؤكد له ولنا أنه رغم كل شيء، ما زال في الحكاية ما يشبهنا.

 

السرد رقم 100

BOURNEMOUTH, ENGLAND - MARCH 11: Mohamed Salah of Liverpool runs with the ball during the Premier League match between AFC Bournemouth and Liverpool FC at Vitality Stadium on March 11, 2023 in Bournemouth, England. (Photo by Luke Walker/Getty Images)
"محمد صلاح" لاعب نادي ليفربول. (غيتي)

رغم أن "مو" وضع قدمه في أوروبا منذ 10 سنوات، ورغم أن إنجازاته تخطّت حدود الفتى المصري الذي يحاول أخذ أي شيء من كعكة أوروبا ويعود، وتحوّل في غضون رحلته إلى أحد أفضل لاعبي كرة القدم في القرن الحادي والعشرين، وفي طريقه ليصبح إحدى أساطيرها عبر التاريخ، فإن حكاية الفتى القادم من نجريج إلى ليفربول، وابن بسيون الذي وصل إلى القمة ما زالت تُحكى، وما زال الجميع يدور في فلك هذا السرد رغم تكراره، وكلما توجهنا إلى مساحة أخرى للحديث عن نجم حقق الكثير من الأشياء التي تستحق الحديث عنها، عُدنا إلى تلك الرواية من جديد. (1)

 

البعض أصابه الملل، وآخرون يفعلون ذلك لفقرهم الإبداعي، وعدم قدرتهم على خلق محتوى جديد يخص النجم المصري، فيلجأون إلى الطريقة الأسهل، ولكن صدقا، أحيانا تجد نفسك أمام معضلة كبرى تفشل خلالها في تجاهل تلك القصة، وهو ما يحدث حين يقوم صلاح نفسه بتقديم لقطة مصرية خالصة، ولمحة هاربة من نجريج لتلمع في أنفيلد، ولقطة من بسيون تُعرض حصريا في أحد ملاعب دوري أبطال أوروبا.

 

في موسم 2022، كانت مراوغة صلاح الساحرة لبيرناردو سيلفا حديث العالم، لم يفهم بيرناردو ومَن حوله والكثيرون تلك "السبعاية الفلاحي" كما تُعرف بالعامية المصرية، ولكننا بمجرّد رؤيتنا لتلك اللقطة تركنا كراسينا ووضعنا أيدينا فوق رؤوسنا، وصحنا في صوت واحد "أوووووووه"، وكل ذلك حدث قبل أن يضع "مو" الكرة في الشباك، فتنفجر المقاهي في مختلف محافظات مصر، رغم أن ذلك لم يعد يحدث أسبوعيا بالضجة نفسها التي كان عليها وقت بداية رحلة الملك المصري في ليفربول. (2)

 

في الموسم الحالي، تكررت "لفة وسط" صلاح أمام مانشستر سيتي، ثم "بعتة" تغيير اتجاه الجسد أمام مانشستر يونايتد في ليلة الفوز التاريخي بسباعية، وقبل أن يرفع يورغن كلوب القبعة للاعبه بنهاية المباراة، عادت نغمة الحديث عن ابن نجريج الذي أصبح هدافا تاريخيا لليفربول في البريميرليغ، في تلك اللحظة وشبيهاتها ترق مشاعر المصريين لصلاح، لأنه أولا يلامس إعجازا جديدا ويأخذ سقف أحلامنا إلى الأعلى، ولكن الأهم من ذلك أنه يفعل ذلك بالطريقة التي تذكّرنا بأنه مصري، بتلك الألاعيب الشقية بين البعتة واللفة والسبعة الفلاحي، والأشياء التي لا توصف إلا بتلك الألفاظ المصرية الخالصة، التي لا مرادف آخر لها في قاموس كرة القدم. (3)(4)(5)

 

حريف الشارع

تحدَّث صلاح كثيرا عن أثر اللعب على "الأرض البلاط" في تكوينه بوصفه لاعب كرة قدم، ورغم رحلته الشاقة مع التدريبات بوصفه ناشئ نادي مقاولون طنطا، قبل الانتقال إلى المقاولون العرب ورحلة السفر اليومية من وإلى التدريبات، والحياة الشاقة بين دراسته وكونه لاعبا ناشئا في أحد الأندية، لم يتخلَّ صلاح عن كرة قدم الشارع، وكان عضوا لفريق خماسي في قريته نجريج بمحافظة الغربية، يخوض رفقة أقرانه منافسات شعبية يعرفها الجميع في مصر، وهي منافسات تفوق في احتدامها ربما البطولات الرسمية أحيانا.(6)

 

تختلف كرة الشارع من بلد إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، ولكنها تتفق في كل أشكالها على أنها تمنح اللاعب العديد من لحظات الارتجال والفوضى غير المفهومة ليتفوق على أفضل المدافعين، هي غير مفهومة لأن الجماهير التي تتابع ريال مدريد وبرشلونة وليفربول لم تلعب كرة قدم في بيونس آيرس، ولا في كوبا كابانا، ولا في حواري السيدة زينب، أو دوريّات مكة بالتبعية.

 

ولكن بالطبع كلّما رقص رونالدينيو السامبا، اهتزت قلوب روّاد كرة قدم الحواري في البرازيل، حتى وإن استمتعنا بها نحن، فستظل بالنسبة لنا لوحة كروية مبهجة فقط، ولكنها بالنسبة لهم شيء يمس قلوبهم لأنه مرتبط بهم وبثقافتهم وهويتهم، ستكون لحظة عاطفية للغاية يرون فيها ابن بلدتهم وهو يتفوق على جميع لاعبي العالم ويُتوج بالكرة الذهبية ودوري الأبطال وكأس العالم انطلاقا من هذه الزاوية، ومن هذه الزاوية، سيحلو أيضا الحديث عن الأرض البلاط في نجريج كلّما أبهر صلاح العالم بلقطة تشبه تجليّات أهل تلك البلدة كرويا. (7)

 

معاناة تشبهنا

تحب جماهير كرة القدم القصص الملهمة، وحكايات هؤلاء القادمين من قاع الفقر والمرض ومدن العصابات إلى قمة المجد، وعادة يتسبب ماضي اللاعب الصعب في مضاعفة شعبيته حين يعانق أحلامه، ويتناسب حجم المعاناة طرديا مع حجم الحفاوة التي يتلقاها مع كل إنجاز يحققه وكل كأس يرفعه، لكن في حكاية صلاح، لم يكن الأمر بذلك السوء، ولكنه كان أقرب لقلوبنا لسبب آخر.

 

حكاية صلاح تشبهنا تماما، شاب يحلم أن يصبح لاعب كرة قدم، من أسرة مستقرة ماديا وفوق المتوسطة، ولكنه يضطر لأن يعاني من أجل الحلم، وليس من أجل الحياة والبقاء فقط كقصص المهاجرين غير الشرعيين ومَن عانوا في أحياء العصابات. في جانب آخر من العالم بمحافظة الغربية، كان هناك مراهق يستيقظ صباحا كل يوم من أجل حلم يراهن عليه ويراه قبل أن يخبر به العالم. (8)

 

اعتاد صلاح السفر 4 ساعات يوميا ذهابا وإيابا، أي 8 ساعات من يومه تضيع فقط للسفر من وإلى القاهرة من أجل تدريبات نادي المقاولون العرب، لمدة سنوات كان "مو" يكرر ذلك بلا كلل، يأكل يوميا فقط "علبة كشري" يملأها بالشطة حتى تساعده على الشبع، لا يجد مكانا ينام في بعض الأيام فيضطر للنوم بجوار بوابة النادي، أو على ملعب التدريبات في ليالٍ باردة، على الرغم من أنه يمكنه بسهولة التخلي عن حلمه وعيش حياة أنسب لسنه، لكنه اختار الطريق الأصعب ككثير من الشباب المراهنين على أحلامهم. (9)

 

قبل أولمبياد لندن 2012 ظهر محمد صلاح ضيفا في برنامج "كورة كل يوم" مع كريم حسن شحاتة، وكان يتحدث عن عرض بازل السويسري ورغبته في الاحتراف، قبل أن يدخل مسؤول نادي المقاولون على الخط ويتحدث عن رغبته في الصبر حتى بعد الأولمبياد لكي تأتي عروض أنسب، ولكن الشاب الطموح أخبره أن في الأولمبياد السابق حقق منتخب نيجيريا الميدالية الفضية، ورغم ذلك لم يحترف أيٌّ من أفراده، وكاد يتوسّل إليه لكي يوافق على عرض بازل ويتركه ليطير رفقة أحلامه إلى أولى محطاته الأوروبية. (10)

 

في الحلقة نفسها، تحدث صلاح عن كريستيانو رونالدو وليونيل ميسي كما يتحدث عنهم أي لاعب صاعد في الدوري المصري حاليا، بنظرة انبهار وعبارات مجرد متابع لهما ومستمتع بما يقدمانه، لم يكن يعلم في هذه اللحظة أن المستقبل يخبئ له منافستهما على منصة الأفضل في العالم، ولكن بداخله، كان يصدّق أن شيئا ما ينتظره، وأن هذا الشيء يتجاوز توقعات مَن حوله، ولا يؤمن به أحد غيره.

 

في تلك التفاصيل تحديدا نجد ما يشبهنا، لا يمكنك أن تسيطر على دموعك وأنت تشاهد صلاح في هذا اللقاء، بعد أن يتبادر إلى ذهنك أبعد أحلامك الذي يسخر منه أصدقاؤك على المقهى حين تتحدث عنه، وإيمانك بأنك تستطيع أن تحقق إنجازا أكبر من تصورات الجميع، وكل حلم خبأته في قلبك خوفا من السخرية أو الفشل. في هذه المشاهد ستجد ما يمس قلبك، ما يُشعرك أنك ربما تحيا فصل المقاولون في قصة صلاح، وأن المستقبل يخبئ لك المجد في الفصول اللاحقة. لذلك، كلما مرّت أمامك لقطة مصرية خالصة لصلاح اهتز شيء في قلبك، وكأنك تشاهد نفسك في رحلته، مهما حاولت إنكار ذلك قبلها وبعدها، وفي تلك اللحظة، ستغلبك الدموع حتما إن كنت تمتلك حلما ورديا.

 

صلاح ملهما

في حال سألت أحدا من جيل الأطفال والمراهقين، وربما بعض الشباب الذين لم يصلوا إلى الثلاثين في مصر عن أبعد أحلامهم، فستجدها متأثرة بما فعله صلاح، وحين تفتش عن السبب فإنك ستعود للنقطة نفسها؛ أنه يشبهنا تماما، وأن تلك الظروف التي نشأ فيها هي نفسها التي نشأنا فيها، عانى كل ما نعانيه من عادات خاطئة تتنافى مع ما وصل إليه حاليا، قبل أن يتعلم بالتجربة كيف يعيش حياة الرياضي المثالية.

 

قدرة صلاح على الذهاب إلى تلك النقطة هي إعادة تعريف الإلهام، ورؤيته يكرر عبارة "طالما أنا عرفت أعمل كده يبقى أي حد يعرف يعمل كده" هي الشرح الأبسط لذلك، لقد كرَّس الملك المصري حياته من أجل حلمه، طوَّع كل شيء لخدمة ذلك، آمن بالعلم والتطور وجمع حصيلة خبراته من الشارع ومن حواري مصر إلى أنديتها إلى أوروبا، وضع كل ما اكتسبه في صندوق ذكرياته ونظر إلى الأمام ليراكم خبرات أكثر، لتساعده على الوصول إلى أبعد مما تمهّده له موهبته وحدها. (11)

 

اليوم، بات صلاح يمتلك نظاما غذائيا صارما، وعادات صحية لا يحيد عنها، وأنظمة تدريب علمية دقيقة، ومدربين مختصين لكل شيء، وحياة احترافية أكثر من مخترعي الاحترافية أنفسهم، أصبح يملك شخصية ناضجة تستطيع التعامل مع خيبات الأمل، وعقلية لديها القدرة على النظر للأمام دائما والتطلع نحو المزيد. ما يجعل هذا مثيرا جدا لنا أن هذا الرجل كان بعشوائيتنا نفسها يوما ما، وبالطبع اتخذ "الفهلوة" منهجا في فصول سابقة من حياته، حتى إن تلك الفهلوة ما زالت تترك أثرا في مراوغات الشوارع التي يتحفنا بها من حين إلى آخر. (12)

 

لذلك، بداخلنا شيء ما يتحرك مع كل خطوة يخطوها فوق قمة المجد، نشاهد أنفسنا مكانه في قصة ننسجها في خيالنا، نستلهم منه سبل النجاح كلٌّ منا في مجاله، ندرك أنه لا مستحيل من قصة حقيقية، وليس من عبارات التنمية البشرية التي لا تفيد. هنا تحديدا، نشعر أن الحبل الذي يربطنا سيظل يربطنا للأبد، وأنه رغم كل ما حدث، ما زال في الحكاية ما يشبهنا.

—————————————————————————

المصادر

1 – أبناء "قرية محمد صلاح": الغرور لم يصب لاعب ليفربول – العربية 

2 – هدف صلاح في مرمى مانشستر سيتي – موسم 2022 

3 – هدف صلاح في مرمى مانشستر سيتي موسم 2023 

4 – كلوب يرفع القبعة لصلاح بعد كسره للرقم القياسي كهداف ليفربول التاريخي في البريميرليغ 

5 – صلاح الهداف التاريخي لليفربول في البريميرليغ 

6 – الحريف.. كيف وضع محمد صلاح حلا لمعادلة العلم والشارع؟ – ميدان 

7 – مشجعو فريق جيرسي النادر في البرازيل يحيون رونالدينيو 

8 – لقاء محمد صلاح مع الإعلامية المصرية لميس الحديدي 

9 – لقاء محمد صلاح مع الإعلامية المصرية إسعاد يونس 

10 – لقاء محمد صلاح مع الإعلامي المصري كريم حسن شحاتة قبل الاحتراف 

11 – كلمة صلاح بعد تتويجه بجائزة غلوب سوكر 2022

12 – النظام الغذائي لمحمد صلاح 

المصدر : الجزيرة