اعتزال المايسترو.. كيف ألهم روجر فيدرر العالم؟

في ليلة الرابع عشر من يوليو/تموز لعام 2019، لم ينم البعض من قسوة ما عانوه، حين فقد بطلهم الأوحد روجر فيدرر آخر فرصة للجلوس على عرشه المفضل، بعدما خسر نهائي ويمبلدون بسيناريو قاسٍ لا يمكن لقلوبهم تحمُّله. هؤلاء أنفسهم مَن لم يزرهم النوم أيضا قبل 7 سنوات، حين عاد البطل للجلوس على عرشه أمام الجميع في نهائي البطولة ذاتها، تلك التي تستضيفها الأراضي الإنجليزية، في مواجهة لاعب هو أول إنجليزي يصل إلى النهائي منذ أكثر من 80 عاما، ورغم ذلك، امتلأ الملعب بمشجعي كوكب التنس، الذي بدا وكأنه يلعب على أرضه، بل في منزله. (1)
هذه الرسالة موجهة لهم، بمناسبة إعلان أفضل رياضي في التاريخ من وجهة نظرهم، وصديقهم الافتراضي، وحكاية عمرهم الأجمل، ورفيق الذكريات الحلوة والقاسية؛ روجر فيدرر اعتزاله التنس، بعد مسيرة امتدت لـ24 عاما، انتهت بـ3 سنوات من محاولة تحدي كل شيء، بداية من الحدود الطبيعية للجسد وانتهاء بإصابات متتالية قاصمة، واجهها المايسترو في الحادية والأربعين من عمره، بشغف وإرادة شاب في مطلع العشرينيات لا يزال يستقبل الحياة. (2)
إلى هؤلاء

الاعتزال في الحادية والأربعين من عمرك مع إصابة لا تلتئم هو شيء بديهي، لكنه أتى موجعا لأنه يُشعرنا أننا كبرنا، وانتهت طفولتنا فجأة إلى الأبد. هنا تحديدا يكمن الألم الذي شعر به عشاق روجر فيدرر بعد اتخاذه قرار الاعتزال البديهي جدا، والمنتظر جدا للجميع سواهم، فهو يعني شيئا أكبر من التنس والرياضة عموما بالنسبة لهم، لقد كان عمرا بأكمله!
هذه الرسالة لهم، لذلك المُتيَّم بأم كلثوم رغم أنه لا يهوى الغناء لتلك الدرجة، وعاشق ليونيل ميسي الذي يكتفي بمشاهدته في كأس العالم فقط، لأن المونديال كان بوابته لمشاهدة مارادونا الذي يراه الأعظم رغم ظهور عباقرة آخرين، إلى صديقين التقيا في طفولتهما، وامتدت صداقتهما طيلة مسيرته، فوجدا أنهما تجاوزا الثلاثين، نظرا لامتداد رحلتهما معه لـ24 عاما قضاها روجر في الملعب، فظل يجمعهما الحديث عنه حتى وإن تاها في زحام الحياة، فلم يجدا حديثا ليلة وداعه سوى عبارات قصيرة عن انتهاء الحكاية، قبل أن يفترقا، وربما لا تجمعهما أحاديث أخرى بعد اليوم. إلى تلك المشاعر وهب روجر مسيرته، حتى يحتفظ بها رفقة محبيه حتى مع تقدُّمهم في العمر، ولكنه أعلن نهاية الحكاية، فشعروا رغم الشعر الرمادي الذي يداعب رؤوس بعضهم أنهم كانوا أطفالا بالأمس، وأفاقوا من حلم جميل للتو على وقع صورة تعكس شيبتهم في المرآة، بعد أن كُتبت نهاية الحكاية أخيرا، وإلى الأبد.
🎾 أسطورة التنس السويسري روجير فيدرير @rogerfederer يعلن الاعتزال بعـمر الـ41، حيث ستكون مشاركته في كأس ليفر في لندن الأسبوع المقبل الأخيرة في مشواره الاحترافي
تقرير | نور جاده pic.twitter.com/dXJsjIYJrm
— beIN SPORTS الإخبارية (@beINSPORTSNews) September 15, 2022
"مبالغة؟ آه لو تعلمون ما فاتكم!"، هي عبارة أطلقتها جماهير نابولي في الجنوب الإيطالي حين جلب لهم دييجو أرماندو مارادونا في تسعينيات القرن الماضي لقب الدوري الوحيد في حياتهم، فكتبوا تلك العباراة على مقابر أصدقائهم الذين فارقوا الحياة قبل أن يحضروا معا ذلك الإعجاز؛ آه لو تعلمون ما فاتكم! (3) اليوم يستعيد عشاق المايسترو العبارة نفسها، ليخاطبوا بها مَن فاتتهم متعة لا تُضاهى، لأنهم وُلدوا في زمن روجر ولم يمنحوه قلوبهم، ليمنحهم هو في المقابل كل شيء.
لعلك تتهمنا بالمبالغة، لكن الأمر حتما ليس كذلك. صديقي، تخيل لو كان رونالدينيو يمتلك الجدية الكافية للاستمرار في الملاعب حتى الأربعين من عمره، دون أن يتخلى عن سحره، تخيل رونالدينيو يتدرب لـ10 ساعات يوميا لمسيرة تصل إلى 24 عاما، دون أن يتحوَّل إلى آلة، أو يكتظ جسده بالعضلات، ودون اكتراث بالأرقام، السحر ذاته ولكن مع الجدية التي تتطلبها المنافسات، بكل تأكيد هي نسخة من الخيال، مجرد تخيلها فقط يُضفي حالة من البهجة، فما بالك لو تجسَّدت واقعا.
ما بالك لو تجسَّدت واقعا في لعبة غير شعبية، ولم تمتلك الكثير من السحرة عبر تاريخها، تخيل أن تأتي أصلا في الوقت الذي تتحول فيه اللعبة إلى الشكل الآلي إن جاز التعبير، وأنت لا تهتم، تتمسك بسحرك وكأنه فلذة كبدك، تتحدى كل شيء حتى تلعب بطريقتك. وفي النهاية، تفوز بكل شيء وأنت صاعد، ثم تفوز بكل شيء وأنت في أفضل أحوالك، ثم تفوز بكل شيء وأنت على مشارف النهاية، أي مسيرة تلك يا رجل!
هل تعلم أن تلك الفترة التي عنونها البعض بـ"مشارف النهاية" أطول من مسيرة البعض؟ هل تعلم أنها عبارة ظلت تلازمه 10 سنوات كاملة ظل فيها على القمة أو قريبا منها. في 2009 بدأ الحديث عن اقتراب اعتزال فيدرر وهو على مشارف الثلاثين، ولكن هيهات، سيكمل بمزيد من المتعة لأكثر من 10 سنوات، ويستعد لبدء فصل جديد من الرحلة، قبل أن تمنعه الإصابة في الحادية والأربعين من عمره، وتنهي مسيرته مثل كل شيء جميل ينتهي وإن طالت رحلته.
داخل الصورة

هنا، مشهد تفصيلي يوضح لك لماذا كل هذا، يجيب عن فضول الشخص الذي يُصيبه التنس بالملل؛ حيث كرة يضربها لاعب هنا، ويعيدها لاعب من هناك. مشهد رتيب بالنسبة له، لا مكان فيه للسحر، ولكنه مع روجر كان حاضرا، والجميل أن ذلك الحضور كان في عالم تُهيمن عليه حداثة المدن، وسرعة الحياة، واستبدال العقل البشري بالتكنولوجيا.
مع اقتراب نهاية مسيرة بيت سامبراس، ظن عشاق التنس أن اللعب الهجومي في طريقه إلى الانقراض، ولكن دون مقدمات، وفي نهاية تسعينيات القرن الماضي تحديدا، تظهر موهبة استثنائية، لاعب يستمتع بالتنس الهجومي ويبدو غير مكترث بالحداثة، مراهق يراهن على سحره في زمن مادي، ويراهن على عبقريته بمنتهى الجدية التي يمكن أن يعرفها شخص في ذلك السن، رغم أنه ما زال يحمل من المراهقة الكثير، حيث تكرار الاعتراض على الحكام والمشاجرات، يصبغ شعره ويرتدي سلاسل حول رقبته، وكأنه رونالدينيو الذي لا يشغله سوى الاستمتاع بكرته.
صعد نجم فيدرر بطلا لبطولة ويمبلدون للناشئين في 1998، على نهج سامبراس بالتنس الهجومي، حيث الإرسال والصعود إلى الشبكة ومحاولة أن تسبق الزمن لثوانٍ، كونه رهانا يعتمد فقط على قدرة العقل الاستباقية، وتوقع سير اللعبة والخصم، حيث يتحوَّل اللاعب لوهلة إلى مُخرج سينمائي يرسم المشهد في رأسه قبل أن يتجسد على أرض الواقع. (4)
ولأنه يُحرِّك الخصم ونفسه والكرة والجماهير وكل شيء، تجده لا يركض كثيرا، لا يتصبب عرقا كمَن يقطعون الملعب يمينا ويسارا طوال المباراة، هو يعرف متى سيتحرك وإلى أين، وفي أغلب الأحيان متى سيتحرك الخصم أيضا وإلى أين. هل شاهدت مباراة شطرنج فوق أرضية ملعب تنس من قبل؟ هذا بالتحديد ما يمنحه لك روجر.
مرَّت السنوات وتراجع فيدرر، ليبدأ المراهنون ضده رحلتهم، ويُبرِّرون تراجعه بانتهاء موضة التنس الذي يلعبه، فيتحوَّل روجر المراهق صاحب السلاسل والشعر الملون إلى مظهره المعروف طوال مسيرته، الذي هو أبعد ما يكون عن ذلك. الفضل في هذا التحوُّل كان لسيدة تُدعى ميركا ميروسلافا؛ فتاة تكبره بعامين، تخطف قلبه، وتُحوِّله من "فتى" إلى "رجل" حسب وصفه، لتبدأ تلك النسخة منه، التي خطفت قلوب المُتيَّمين منذ اليوم الأول.
الفتى الذي أصبح رجلا

كانت ميركا لاعبة تنس سابقة، أجبرتها الإصابة على الاعتزال مبكرا، لتشاهد حلمها في روجر بعد أن التقيا في عالم الكرة الصفراء، أحبها وأحبته، فمنحته كل شيء. تحدَّث فيدرر عن زوجته كثيرا، ربما يتحدث عنها في كل مناسبة كونها المحرك الأساسي لحياته رفقة أطفالهما، ولكن ملخص حياتهما معا كان في عبارة أطلقها روجر في وصف ميركا حين قال: "قابلتني صبيا، وصنعت مني رجلا". (5)
هنا تحوَّل روجر من المراهق ملون الشعر الذي يتشاجر كثيرا إلى تلك النسخة الهادئة، ولكن بالسحر ذاته، والجدية التي لا يتقبل البعض اقترانها بالمواهب الصارخة الجنونية، حيث يرون نموذجا رتيبا للغاية في تعريفهم للجدية، هنا كتب روجر تعريفه الخاص لها، ممزوجا بالخيال، وأي خيال ذلك الذي يقدمه فيدرر كلما أمسك مضربه!
الفتى الذي أصبح رجلا كان مثالا لما يجب أن يكون عليه الإنسان، بغض النظر عن وظيفته؛ فهو بكل بساطة شخص يستمتع بعمله إلى أبعد حد، يحتفظ بشغفه وقلبه الطفولي حتى بعد تجاوز الأربعين، إنسان حقيقي يتحرك قلبه للتأثير في المجتمع حوله، فينشئ مؤسسته الخيرية وهو في بدايات العشرينيات، ويطمح لأن يكون قادرا على تقديم رعاية كاملة لأطفال أفريقيا، من مأكل وملبس وتعليم وحياة وشغف ورياضة وفنون ومواهب. زوج حنون يعيش قصة رومانسية مع زوجته تتجاوز حكايات السينما نفسها، لدرجة أنه يصطحبها معه في كل البطولات، ولا يستطيع أن ينام إلا وهي بجواره، حتى لو اضطره ذلك لتحمل بكاء أطفاله وتغيير الحفاظات لهم حسب اعترافه. الرياضي يحتاج إلى النوم والهدوء نعم، ولكن روجر يحتاج احتضان زوجته وأطفاله أكثر! (6)(7)

أب يحب اللعب دائما مع أبنائه لعبتهم المفضلة إضافة إلى اصطحابهم معه، لا تمنعه خسارة مباراة أو ضياع لقب من لذة اللعب معهم، رغم أنه يعشق فعل ذلك وهو فائز، ولكن لا شيء سيمنعه منه على أية حال. يرفض الاعتزال قبل أن يكبر أولاده ويشاهدوه بطلا، ويحقق ذلك بالفعل، فينظر لهم ويبكي كما لم يبكِ من قبل، بقلب طفل، ومشاعر أب، وملامح رياضي مخضرم تخطى بما يفعله حدود المستحيلات، بعد أن وقف على منصات التتويج في البطولات الكبرى للتنس بعمر يقارب 37 عاما، وهو أمر غير قابل للتكرار كثيرا. (8)
مؤسسته الخيرية التي تحدثنا عنها يضعها مشروعا حقيقيا لحياته، ويستهدف في بداية الحلم رعاية مليون طفل، وبعد 15 عاما يصل إلى مبتغاه. تخيل أن رجلا واحدا يقوم بتقديم رعاية كاملة لمليون طفل في 7 دول في أفريقيا، ويقيم اتفاقيات مع بعض حكومات هذه الدول لتقديم الدعم المشترك، ويزور هؤلاء الأطفال باستمرار، يلعبون ويضحكون معا، دون أن يؤثر ذلك على دوره أبا، أو زوجا، أو لاعبا محترفا. أخبرني الآن، هل يوجد في الحياة ما هو أجمل من ذلك؟

وحده ضد الجميع
حين تنظر داخل التنس نفسه، وتحاول الاقتراب أكثر من فيدرر اللاعب، تجد في التفاصيل شيئا من السحر. عقلية تسبق عصرها، ورجل يضع نصب عينيه الاستمتاع وتقديم المتعة إلى أطول حدٍّ ممكن، ويقف وحده ضد الجميع في سبيل ذلك الهدف، وينتصر، يفوز بكل شيء ويبكي كطفل، فيبكي معه العشاق، وربما بعض المراهنين ضده أيضا!
الحكاية منذ بدايتها يحكيها المُعِد البدني التاريخي لفيدرر بيير باجينيني، الرجل الذي شاركه رحلته كلها، قائلا إن روجر أخبره في 2004 برغبته في المحافظة على لياقته إلى أطول عمر ممكن، حتى يتمكن من تجربة نفسه وأفكاره الهجومية وسحر تنفيذه لها مع أجيال مختلفة، وأفكار مختلفة، وأساليب متعددة وأشكال مختلفة من التنس، فيقرر عكس الجميع ألا يهلك نفسه بالمشاركة في كل البطولات خلال فترة توهجه، ويحصل على فترات راحة بناء على تصريحات المُعِد البدني الإيطالي، فقط ليُطيل عمره في الملاعب قدر الإمكان. (9)
في 2010، يصل روجر إلى عامه التاسع والعشرين، الذي يبدأ فيه بريق لاعب التنس في الاختفاء شيئا فشيئا، ومعه يفقد فيدرر سيطرته المطلقة على الألقاب، ويضع رافائيل نادال ونوفاك دجوكوفيتش ملامح عصر جديد، حيث تفوّق تنس التبادلات الطويلة والدفاع من خلف الخط والاعتماد على البدنيات على التنس الساحر الهجومي الذي يعتمد على التوقع والخيال ومسابقة الزمن.
خلال تلك الفترة يُقرِّر الاتحاد الدولي للعبة المساعدة على ازدهار هذا الشكل من التنس، حيث يتخذ قرارين يغيران مسار اللعبة بالمعنى الحرفي للكلمة؛ وذلك بتغيير مادة صناعة الأرضيات لتقليل سرعة ارتداد الكرة، وإضافة المضارب الجديدة ذات الشباك المعدنية الأكثر مرونة، والمصمَّمة لتعلية معدل دوران الكرة لأضعاف الطبيعي، لتصبح اللعبة أكثر اعتمادا على رد الفعل، ويصبح لعب تنس استباقي أشبه بالمستحيل مع لعبة أبطأ بكثير. (10)
هنا أصبح روجر وحده ضد الجميع، ضد عوامل الزمن التي اتفق معها القائمون على اللعبة، وأرادوا تقديم التنس العصري في صورة بدنية أكثر، ولكن روجر بكتلة عضلية تشبه الرجال العاديين، وركض وجهد أقل، كان قادرا على تحريك الجميع، بينما يبدو واقفا. فصل جديد تطلَّب من روجر تغيير بعض التكنيكات، مع الاحتفاظ بالأسلوب الساحر، والعقل الخارق الذي قرر تحدي كل شيء، وقرر أن ينجح في ذلك.
بطل خارق

كان على روجر أن يغير بعض تقنياته للحفاظ على ملامحه أسلوبه؛ فمن جهة، قام تغيير مضربه الكلاسيكي، ومن أخرى قام بتعديل تكنيك الـ "back hand" أو ضرب الكرة بخارج اليد، ليتحوَّل إلى ضرب الكرة بتلك المهارة الاستثنائية التي يتقنها بيد واحدة من أسفل إلى أعلى، مع مرجحة لليد وتغيير تقنية حركة الرسغ والكوع ليكسب ثانية زائدة أو أقل للحفاظ على الرتم السريع في زمن تبطئة كل شيء. ليمنحه ذلك الفرصة للاستمرار في جنونه، حيث الصعود إلى الشبكة والتنس الهجومي والتوقع وتحويل الملعب إلى رقعة شطرنج، في ظروف كلها تسير عكس ذلك الاتجاه. (11)
هكذا غيّر فيدرر أسلوبه بداية من 2010 فصاعدا، ذلك العمر الذي كان يطالبه فيه كثيرون بالتفكير في الاعتزال، نظرا إلى أن متطلبات التنس البدنية هي الأصعب بين كل الرياضات تقريبا. الاستمرار لما بعد الـ30 ليس بتلك السهولة الموجودة في بعض الألعاب الأخرى؛ بوريس بيكر اعتزل في الحادية والثلاثين من عمره، وأندي روديك في الثلاثين، وبيرون بورغ في السادسة والعشرين، هكذا اعتاد العظماء إنهاء مسيرتهم مع اللعبة، تحديدا في العمر الذي يستعد فيه روجر لبدء فصل جديد من رحلته. (12)
تذكر أن الاستمرار فقط لما بعد الثلاثين يُعَدُّ من النوادر، فما بالك بوصوله إلى واحد من أفضل مستوياته على الإطلاق في الثامنة والثلاثين، والوقوف على منصات البطولات الكبرى، وتحقيق حلمه برؤية أطفاله له بطلا، وتجربة نفسه بالفعل مع أجيال مختلفة كما اتفق مع باجينيني منذ بداية الحكاية.
أجيال مختلفة؟ نعم، فالرجل ثابت بينما تتحرك اللعبة من جيل إلى جيل، ومن مدرسة إلى أخرى، ومن أسلوب إلى آخر أكثر تطورا، يتغير كل شيء، ويقف فيدرر بعبقريته وجنونه وتحديه لكل شيء، يواصل الرحلة والإعجاز، ويتفنن في تحريك الأجيال المتعاقبة داخل الملعب دون أن يتحرك هو إلا في الأوقات التي يعرفها جيدا؛ حيث يتلاعب بالخصوم، والتاريخ كذلك، ولكن بكل ما في الرياضة من نبل واحترام وروح رياضية.

لكن كل رحلة مهما كانت مثيرة وملهمة لا بد لها من نهاية. وقد بدأت ملامح الفصل الأخير من حكاية روجر تظهر في 2016: شهور يتحامل على إصابته، حتى يسقط في نهاية المطاف في لقطة شهيرة أمام الكندي ميلوش راونيتش في ربع نهائي ويمبلدون، ويضطر لإجراء جراحة في الركبة والابتعاد أكثر من 6 أشهر، يحدث ذلك وهو يقترب من عامه السابع والثلاثين، وبالتالي تتلاشى نظريا أحلام التتويج بكبرى البطولات أمام أولاده، ليستطيعوا رؤيته بطلا كما كان يحلم منذ إنجاب ابنتين توأمين "روز وتشارلين" في 2019 ثم ولدين توأمين أيضا وهما "ليو وليني" في 2014. (13)
6 أشهر من الابتعاد تماما عن المنافسات، وبرنامج بدني شاق حتى تتعافى الركبة، ليعود روجر في يناير/كانون الثاني 2017 من بوابة بطولة أستراليا المفتوحة، واحدة من البطولات الأربعة الكبرى، التي تأتي في بداية الموسم وتتطلب خوض بطولات استعدادية لها، لكن فيدرر خاضها في عمر 37 عاما وهو يتعافى للتو من إصابته، ودون موسم تحضيري. (14)
هذه البطولة التي خاضها فيدرر في ظروف لا تبشر بأي شيء كانت موعدا مع إعجاز ربما يكون هو الأعظم في مسيرته. الرجل فاز باللقب في نهاية المطاف في نهائي ملحمي أمام خصمه التاريخي رافائيل نادال، وبمشهد سينمائي يُعَدُّ أحد أكثر مشاهد الحياة بهجة على الإطلاق، خاصة إذا شاهدت صرخة الاحتفال الطفولية التي أطلقها روجر بعد الفوز بالتصوير البطيء.
بعد ذلك بـ6 أشهر يفوز بمعشوقته ويمبلدون، وينظر إلى أبنائه الذين يرونه بطلا كما حلم، ويبكي كثيرا وهو يخبئ وجهه كطفل، ثم تتويج بأستراليا المفتوحة من جديد بعدها بـ6 أشهر، ومزيد من الدموع الطفولية التي يفشل في إيقافها رفقة كل الحاضرين في الملعب وخلف الشاشات، في مشهد قلما تراه في الرياضة، وقلما ستراه في أي شيء على الإطلاق. (15)

بداية النهاية كانت بعد ذلك الفصل بعامين فقط، وتحديدا في ويمبلدون 2019، التي ربما قدَّم فيها روجر أفضل أداء له في مسيرته على الإطلاق، وأنهاه بخسارة أقسى من أن تتحملها القلوب؛ نصف نهائي مثالي أمام واحدة من أفضل نسخ نادال، ثم نهائي استثنائي ضد دجوكوفيتش، تفوَّق فيه فيدرر في كل شيء عدا النتيجة، تلك التي خطفها نوفاك بعدما أضاع المايسترو فرصتين للفوز، في ليلة ضاعت فيها البوصلة، وبدأت فترة تشتت سبقت الإصابة التي حملت معها مقدمات المشهد الأخير. (16)
حكاية عمر
في يناير/كانون الثاني 2020، شارك فيدرر في منافسات أستراليا المفتوحة، وأكمل البطولة مصابا حتى خرج من ربع النهائي بعد مباراتين لعبهما كان أقرب فيهما للوقوف منه للحركة، يلعب وهو "شبه واقف" بمعنى الكلمة، ليعلن بعد ذلك بنحو شهر أنه يحتاج إلى فترة راحة طويلة، وإجراء عملية جراحية في ركبته، ويقوم بذلك بالفعل، ولكن الكارثة أن الشهور تمر، والركبة لا تتحسن، ولا تستجيب للعلاج. (17)(18)
شهور وعاد فيدرر لمباراتين فقط، وتوقف مرة أخرى لاستكمال العلاج، وبينما امتدت محاولاته للتمسك بالأمل الأخير، تؤكد الحياة أن العمر ليس مجرد رقم، ويضطر فيدرر لإنهاء مسيرته مصابا، وبعد نحو عامين من الغياب، ودون أن يؤدي الرقصة الأخيرة على أرضيته المفضلة، مُعلِّلا ذلك بعبارة لخصت كل شيء؛ "أعرف حدود جسدي"، في الحادية والأربعين من عمره. وبذلك القرار، يؤجج روجر مشاعر طفل أحبه وكبر معه، ويريد أن يخبره أنها لم تكن مجرد حكاية، بل كان عمرا، فيترك له تلك الكلمات:
"لقد كان حكاية متفردة، بدأت بها مشوار عمري، وعرفت من خلالها أن المتعة لا تُقاس بالكم، وأن العباقرة المجانين يمكنهم التدرب لأكثر من 10 ساعات يوميا على مدار أكثر من 20 عاما، تعلمت في هذه الحياة أن الشغف وقود، وأن الكنز يكمن في الرحلة. اكتشفت نفسي كيف هي عاطفية أكثر مما يبدو، أكثر مما تصورت أنا حتى، بكيت كثيرا، كلما لامست مستحيلا أو اقتربت منه، لم يحبس أنفاسي ودموعي وصرخاتي شيء بقدر ما حدث في مشواري معك.
لم أتألم في حياتي كما حدث في خيبة ويمبلدون الكبرى في 2019، رغم كثرة ما فيها من آلام، ولم ألمس السماء كما حدث في نسخة 2012، وفي عودة 2017 التاريخية، رغم تعدد مرات ملامستي للسماء أيضا.
على مدار 17 عاما، وهو مشواري معك، كنت بطلي الأوحد، والإنسان الذي أطمح أن أكون مثله يوما ما، إنسانا فقط، شخصا يعرف دوره جيدا في حياة البشر، وأن وجوده يتجاوز حدود نفسه إلى مساحة التأثير في العالم حوله.
طوال الفترة الماضية كنت أُمني النفس بعودة يوافق فيها الجسد على استكمال رحلتنا، كنت أهرب من التفكير في ذلك اليوم في الماضي ظنا مني أنه لن يأتي، ومع الوقت، أدركت أنه قادم لا محالة، ولكنني أحببت أن تنتهي القصة بالسينمائية نفسها التي رسمتها، أن تخرج بطلا لبطولة جراند سلام وتقول وداعا، حينها فقط كنت سأتشبع رياضيا، وصدقا لم أكن لأكترث بأي فوز أو هزيمة بعد هذه اللحظة في أي رياضة كانت".
ولكن مع الأسف، الحياة ليست سينما، والعمر ليس مجرد رقم، والجسد لا يرحم، والسنوات تمر مسرعة بصورة مرعبة. لذلك جاءت النهاية بعد عامين تقريبا من محاولة العودة، من تحدي الزمن والعمر والجسد وكل شيء، لكن الاستسلام لهم كان خيارا حتميا.
إلى مَن بكيت معه كما لم أبكِ من قبل، رفيق لحظات سعادتي الأبرز في الحياة، صديقي الافتراضي وقدوتي وبطلي الأوحد، إلى شخص يمتلك الملايين مني حول العالم، صدقا كانت الحكاية أكبر مما تخيلت، وأكبر بكثير من أن تُحكى في سطور، ولا حتى في عمر بأكمله. فهي لم تكن مجرد حكاية، بل كان عمري.
لأول مرة أود الحديث عن روجر فيدرر فأجدني أتحدث عن نفسي فقط، في ليلة الوداع وجدتني أنظر إلى ما فات من عمري فأرى طفلا يتحول إلى مراهق ثم شاب، ولكنه يعود إلى ذلك الطفل مرة أخرى كلما تعلق الأمر بك، الطفل ذو السنوات الثمانية الذي بدأ معك كل شيء، وانتهى فصل من حياته للتو".
الآن يبدأ ذلك الطفل فصلا جديدا، يستعير عنوانه من الراحل أحمد خالد توفيق، مع تعديل بسيط؛ قد شاب صغيرك يا روجر، ما عاد صغيرا يا فيدرر!
———————————————————————-
المصادر
1 – ملخص نهائي ويمبلدون 2019 بين روجر فيدرر ونوفاك دجوكوفيتش
2 – روجر فيدرر يعلن اعتزاله التنس رسميا
3 – "لو تعلمون ما فاتكم".. مارادونا يغزو مقابر نابولي بعد معانقة المجد
4 – ملخص تتويج روجر فيدرر بلقب ويمبلدون للناشئين 1998
5 – من هي ميركا ميروسلافا زوجة روجر فيدرر؟
6 – الموقع الرسمي لمؤسسة روجر فيدرر الخيرية
7 – زيارة فيدرر لمالاوي في 2022
8 – ماذا سيتغير في حياة أبناء فيدرر بعد اعتزاله؟
9 – دور المعد البدني بيير باجينيني في إطالة مسيرة روجر فيدرر مع التنس
10 – كيف تطور التنس على مدى العقدين الماضيين؟ – بليتشر ريبورت
11 – بعد تبطئة الأرضيات.. ماذا تغير في أسلوب لعب روجر فيدرر؟
12 – قائمة أفضل 10 لاعبين تنس في التاريخ
13 – إصابة فيدرر في ربع نهائي ويمبلدون 2016 وابتعاده لمدة 6 أشهر
14 – روجر فيدرر يتوج بلقب أستراليا المفتوحة 2017
15 – روجر فيدرر يتوج بلقب ويمبلدون 2017
16 – روجر فيدرر يتوج بلقب أستراليا المفتوحة 2018