ساعده على الركض لـ100 دقيقة.. "ميدان" يحاور مدرب اللياقة البدنية الخاص بـ"لوكا مودريتش"
كان قد مر ما يزيد عن 75 دقيقة كاملة، وريال مدريد في حاجة لإحراز هدف آخر، حين قرر "لوكا مودريتش" أن يقدم لمحة سحرية، ستصيب أغلب من يشاهدون بشيء من الذهول.
بدأ الأمر عندما نجح الكرواتي في اعتراض تمريرة "نيمار" من على حدود منطقة جزاء الميرينغي، ثم انطلق كالسهم دون أن ينجح أحد من لاعبي باريس سان جيرمان في عرقلته، قبل أن يقوم بتمريرة من وسط الملعب، لتخترق خط الدفاع المتقدم بأكمله. لم يتوقف "مودريتش"، بل واصل الركض ليتسلم الكرة من جديد، هذه المرة على حدود منطقة جزاء الخصم، كي يرسل الكرة على طبق من ذهب لـ"كريم بنزيما"، ويتكفل الأخير بما تبقى.
إذا كنت مشجعا لريال مدريد، فربما تكون قد قفزت من الفرحة، أو أمسكت برأسك، أو حتى صرخت في وجه صديقك الذي يجلس بجانبك، ولعلك فعلت كل ذلك حين شاهدت الكرة في مرمى "دوناروما"، لكن الأكيد أنك تساءلت فور أن تمالكت أعصابك: ما هذا الذي فعله "مودريتش" خلال 20 ثانية؟ كيف امتلك هذا الحضور وتلك اللياقة البدنية وهو في السادسة والثلاثين؟ لم نعثر على إجابات شافية لتلك الأسئلة حتى وافق السيد "فلاتكو فوشيتش" على التحدث إلينا، وفسر كل شيء.
وبما أن هذا الاسم ينتهي بمقطع مكوّن من حرفي التاء والشين، فربما تكون خمنت جنسية صاحبه الكرواتية، لكن ما لا تعرفه هو أنه أفضل من يجيب على أي سؤال يخص الكفاءة البدنية لـ"لوكا مودريتش"، لماذا؟ لأن السيد "فلاتكو" هو المدرب الخاص للاعب ريال مدريد، وقد عمل على تطوير لياقته الجسدية حتى وصلت لهذا النحو المثير للإعجاب، تم ذلك وفق خطة عمل منهجية بدأت منذ 7 أعوام ومستمرة إلى اليوم، لذلك فإننا بصدد شخص يعرف "مودريتش" جيدا.
ظهر اسم "فوشيتش" ضمن تقرير شبكة BBC عن تألق اللاعب الكرواتي(1)، وقالت صحيفة AS الإسبانية بأنه السر وراء احتفاظ "لوكا" بقوته رغم تقدمه في السن(2)، أما نحن في "ميدان" فقد نجحنا في إجراء أول حوار صحفي يُنشر باللغة العربية مع السيد "فلاتكو"، وجهنا خلاله أسئلة حول مسيرته بوصفه مدربا، وتعاونه مع "مودريتش"، ومدى أهمية وجود معد بدني خاص للاعب محترف، ولم يبخل الرجل علينا في ردوده.
ربما هو مقلب من "لوكا مودريتش"!
كنا نعرف أن "فلاتكو" أستاذ بجامعة زغرب، وكأي أستاذ فلا بد أنه يقدس المواعيد، ولا يثير حفيظته شيء بقدر التأخير، لذلك آثرنا السلامة، وكنا ننتظره عبر تطبيق Zoom قبل الموعد المحدد بخمسة دقائق كاملة. ظهر اسم "فلاتكو فوشيتش" على الشاشة، لكن صورته لم تظهر بعد، وحتى صوته لم يبدو واضحًا في أول الأمر.
سألناه: "دكتور فلاتكو، هل هناك مشكلة؟ نحن لا نسمعك بوضوح، ويبدو أن الكاميرا لا تعمل."
رد الرجل بصوت بدأ يتضح: "نعم هناك مشكلة، هذا الحاسوب الخاص بي في الجامعة جيد جدًا، لكن هناك دومًا من يعبث به، ويغير مكان الميكروفون والكاميرا، هل لديك فكرة من يكون ذلك الجاني؟"
ثوانِ بسيطة من الصمت، حتى قفز للذهن هذا الرد : "ربما هو مقلب من لوكا مودريتش؟". لم نكن نظن أن هذه المزحة البسيطة ستعجب "فلاتكو" لهذا الحد، لكنه انفجر ضاحكًا، ثم أخبرنا : "لوكا ليس هنا، إنه في مدريد يستعد لتشيلسي، هل تظن إنه عيّن جاسوسًا في مكتبي ليقوم بهذا المقلب؟"
هكذا كانت البداية، حطم "فوشيتش" الصورة النمطية الصرامة عن الأستاذ الجامعي في دقائق معدودة، حتى أنه طلب منا بوّد غير مصطنع أن نكف عن تلقبيه بالأستاذ أو الدكتور، ونكتفي بذكر اسمه مباشرة. صحيح أعترف أن نطق الاسم لن يكون مهمة سهلة لغير الناطقين بلغته الأصلية، فشرع يعلمنا كيف نقسّمه لمقاطع صغيرة. حاول معنا مرة، وأخرى، وثالثة، وبعد الرابعة ابتسم ثم قال :"أحسنت! أنت الآن تتحدث الكرواتية!".
هل تستطيع الركض لـ5 آلاف متر؟
كنا نعرف أن "فلاتكو" أستاذ بجامعة زغرب، لكن ما علاقة هذا المسمى الأكاديمي بمهنة عملية كالتدريب؟ إنهما وظيفتين مختلفتين، فكيف قام ضيفنا بالتوفيق بينهما؟ كان هذا سؤالنا الأول.
- -فلاتكو: "أنا أحمل شهادة الدكتوراة في علم الحركة، لذلك أعمل أستاذًا في الجامعة، حيث أقوم بتدريس ما يزيد عن عشرة مواد. أنا كذلك أدرّس في الأكاديمية الوطنية لإعداد مدربي كرة القدم، إذ يستعينوا بما لدي من معرفة خلال دورات UEFA A و UEFA B، وحتى دورات احتراف التدريب.
في الوقت ذاته، أنا رئيس قسم التشخيص الرياضي هنا، وهو منصب يتسم بالجانب العملي أكثر من النظري، إحدى مهامنا مثلًا هو إجراء قياسات دقيقة للرياضيين كي يتحسن أداؤهم. وهذا ما يمنحني الفرصة أن أعمل كمدرب شخصي لعدد من المحترفين، خصوصًا في رياضات كرة القدم والتنس، وهكذا أوفق بين الأمرين."
يبدو أن جدول عمل "فلاتكو" مزدحم للغاية، لكن ما كان يهمنا من بين تلك الوظائف هو التدريب، لذلك سألناه: منذ متى بدأت في العمل كمدرب لياقة بدنية؟
- -فلاتكو: "منذ عشرين عامًا، مدة ليست قصيرة، أليس كذلك؟"
هي كذلك طبعًا، لكن ما الذي دفعه كي يتجه إلى التدريب؟ لماذا لم يكتفي بالمسار الأكاديمي؟
بدأ "فلاتكو" إجابته بسؤال مثير: "هل تستطيع الركض لـ5 آلاف متر؟ ماذا عن 10 آلاف متر؟ أنا كنت بطل ألعاب قوى سابق في كرواتيا، كما مارست السباحة لبعض الوقت، وكنت أتابع التنس وكرة القدم. حين أتذكر ذلك، فإني أشعر بالأسف ﻷني لم استطع احتراف أي من تلك الرياضات، خصوصًا الكرة والتنس، لكن شغفي بالرياضة استمر، لذلك اتجهت للتدريب."
حسنًا لماذا إذن لم يحاول العمل مدربًا للتنس؟ أو السباحة؟ أو حتى الحصول على رخصة لتدريب كرة القدم؟ لماذا اختار اللياقة البدنية تحديدًا؟
سمع الرجل سؤالنا، وبدا أنه يريد الاسترسال في إجابته: "هذا سؤال جيد! أنا درست الرياضة بشكل نظري، تعرفت على أدق تفاصيلها، وتأكدت أن تحسين اللياقة البدنية ستنعكس إيجابيًا على أداء الرياضي المحترف، وبالتالي سيتمكن من تحقيق نجاحات أكبر في رياضته.
في كرة القدم مثلًا، لاحظت أن أهمية السرعة، وديناميكية الحركة تزداد مع الوقت. بدأت تطرق في ذهني أسئلة من نوعية: ماذا كنت سأفعل كمدرب إذا أردت امتلاك فريق قوي؟ ربما يجب أن أطوّر اللاعبين بدنيًا لأقصى كفاءة ممكنة، لكن كيف؟
بدأت العثور على إجابات في عامي الجامعي الرابع، حيث تراكمت داخل رأسي معرفة نظرية جيدة، وشرعت في البحث عن طرق عملية لتطبيق تلك المعرفة النظرية، أي ببساطة التحوّل لمدرب."
كان انطباعنا الأول عن "فلاتكو" هو أنه رجل خفيف الظل، وقد كوّنت إجابته على تلك الأسئلة الانطباع الثاني، وهو أننا أمام شخص كانت الرياضة محور حياته. إذ مارس أكثر من لعبة، بل وحاول احترافها، وحين أخفق اتجه عن طيب خاطر لدراسة الرياضة بشكل تفصيلي، قبل أن يتولى أكثر من منصب خاص بالتدريس أو بالتشخيص الرياضي. لذلك يمتلك ضيفنا خبرة نظرية وعملية طويلة في مجال تخصصه.
أقل من 6 شهور؟ أسف، ابحث عن مدرب آخر
شرح لنا "فوشيتش" لماذا اختار العمل مدربًا في مجال اللياقة البدنية، وتلك الإجابة أوحت لنا بسؤال آخر، وهو لماذا إذن لم ينضم للعمل كمدرب بدني ضمن جهاز فني لنادي معين؟ لماذا فضّل أن يكون معدّا بدنيًا للرياضيين بشكل فردي؟
- -فلاتكو: "هل تريد إجابة مختصرة أم مفصلة؟"
باغتنا الرجل بتلك الإجابة، لكننا كنا له بالمرصاد: "لنبدأ بالإجابة المختصرة، ثم نستمع للمفصلة".
- – فلاتكو: "الإجابة المختصرة هي ﻷني أحببت التدريب بشكل فردي.
القصة وراء ذلك تعود لعامي الأخير من الدراسة في الجامعة، إذ كنت أحد أكثر الطلاب المتفوقين في صفي، لذلك بدأت العمل مبكرًا في قسم التشخيص الرياضي، ثم بعد شهور بسيطة أسندوا لي مسؤولية رئاسة هذا القسم!
ماذا نفعل في القسم؟ نحن نقوم بفحص عدد كبير من الرياضيين المحترفين في مختلف الرياضات، وذلك وفقًا لمعايير علمية ودقيقة، ثم يحصل كل رياضي على تقرير متكامل، يتضمن هذا التقرير توصيات وفقًا لحالته، كي يصل لحالة بدنية أفضل.
أنا أحببت تحليل فحوصات لاعبي كرة القدم والتنس للغاية، ما زاد الأمر إثارة هو أن بعض اللاعبين أتوا إلي بعد ذلك، ثم طلبوا مني الإشراف على تدريبهم بصورة فردية، وقد شكّل هذا دافعًا كبيرًا للتعرف على طرق تدريب حديثة لمساعدة هؤلاء اللاعبين. هكذا بدأ الأمر، ومن هنا خضت هذه الرحلة الممتعة".
ربما تكون الصدفة قد لعبت دورًا في تفضيل ضيفنا التدريب الفردي، لكن الأكيد هو أنه أحب رؤية نتيجة تدريباته بشكل مباشر مع اللاعبين، كما منحه ذلك حرية أكبر لاختيار نمط التدريبات المناسب لكل لاعب حسب حالته، لكن هل يقبل "فلاتكو" كل اللاعبين الذين يريدون التدريب تحت إشرافه؟
- -رد بشكل حاسم: "لا، طبعًا لا. هناك أكثر من معيار لقبول اللاعب. المعيار الأهم هو الجدية، إذا لم يكن اللاعب مستعدّا للعمل معي بجدية، ولمدة لا تقل عن 6 أشهر، فعليه البحث عن معد بدني آخر غير فلاتكو. المعيار الثاني هو أنه عليه خوض اختبار أولي هنا في معمل القسم التشخيصي، فأنا لا أعتمد على أي بيانات ما لم أشرف بنفسي على التجربة".
الآن بات في حوزتنا ما يكفي من معلومات عن شخص "فوشيتش"، لقد عرفنا من هو؟ ماذا يعمل؟ لماذا اختار التدريب الفردي؟ وعلى أي أساس يقبل أو يرفض العمل مع لاعب ما؟ حان وقت أن نتعرف على أسلوب عمله كمعد بدني مع اللاعبين، ومن بينهم بكل تأكيد "لوكا مودريتش".
بروزوفيتش ضعيف، لوكا لا يركض بما يكفي، والكروات كسالى
داخل أي جهاز فني، في أي فريق كرة قدم محترف، هناك على الأقل مدرب واحد مسئول عن اللياقة البدنية للاعبين. تلك معلومة بديهية يعرفها كل من تابع كرة القدم. لماذا إذن قد يحتاج اللاعب المحترف لمعدّ بدني يعمل معه بشكل خاص؟ ألا يكفي الاعتماد على المدرب الذي يعمل ضمن الجهاز الفني؟ لم نوّد استفزاز ضيفنا بهذا السؤال، لكنه بدا مندفعًا تلك المرة في إجابته.
- -فلاتكو:"كل رياضي يريد الوصول لحالة بدنية مثالية، فهو بحاجة لعناية فردية. لا أقول كل لاعب كرة قدم، ولكن أقول كل رياضي! لا أقول حالة جيدة، ولكن أقول حالة مثالية!
وعلى حد علمي، لا يوجد نادي كرة قدم في العالم قادر على توفير تلك العناية الفردية بأفضل شكل ممكن، لأن الأندية لا تعيّن مدربين يعملون على الجانب البدني بشكل كافي. ربما يذهب لاعب ما ليأخذ بعض التوصيات العامة من مدربه في النادي، لكن هذه التوصيات لن تضمن الوصول لأعلى كفاءة بدنية ممكنة.
أنا هنا لا أوجه أي اتهام للمدرب، ولا أقول إنه سبب المشكلة، فقد تكون تلك التوصيات ممتازة، لكن هذا التعامل لا يتسم بالمنهجية العلمية. ما أقصده هنا هو مجموعة محددة من العوامل، ينبغي قياسها قبل خضوع اللاعب لأي برنامج تدريبي، ثم بناء البرنامج على أساسها، وملاحظة التطور الذي يحرزه أثناء وبعد نهاية البرنامج".
لم ننتظر طويلًا، حتى سألناه عن تلك العوامل التي تحدث عنها بحرص شديد : هل لك أن تحدثنا عن العوامل التي تهتم بها في برنامجك التدريبي؟
- -فلاتكو:"إنها ثمانية عوامل. 1/ يفكر لو أراد الحركة في إتجاه معين. 4/القدرات الحركية لدى اللاعب، وذلك بقياس السرعة، القدرة على الركض..إلخ. 5/الحمولة البدنية الذي يستطيع جسده استيعابها. 6/القوة الإدراكية. 7/السمات الشخصية لدى اللاعب. 8/وأخيرًا الحالة الاقتصادية والأسرية. أخشى أن تبدو هذه المصطلحات صعبة، هل هي كذلك؟"
هذه المرة كان الضيف هو من يوجه السؤال، أما إجابتنا فكانت:"لا أبدًا، إنها واضحة للغاية، فقط علينا دراسة علم الحركة لمدة 4 سنوات، كي نعرف ما المقصود القوة الإدراكية". ابتسم دكتور "فوشيتش"، ثم قال "المقصود بالقوة الإدراكية للاعب هو قدرته على إتخاذ قرارات والبحث عن حلول في الملعب. أحيانًا يتم وصف لاعب معين بالذكاء، ﻷنه اتخذ قرارًا جيدًا بالكرة أو بدونها. أنا أحاول قياس إلى أي مدى يمتلك اللاعب هذه المهارة، هل تريد أن تعرف كيف أقيسها؟ هذا هو ما قد يحتاج لدراسة علم الحركة".
بينما يتحدث ضيفنا عن ضرورة وجود منهجية علمية في البرنامج التدريبي، خطر في بالنا سؤاله عن السر وراء تميّز اللاعبين الكروات بدنيًا، لكننا تفاجئنا بردة فعله، فبمجرد أن قولنا :"فلاتكو، هناك انطباع عن موهبة اللاعبين الكروات على المستوى البدني، ماذا في رأ…" لم يسمح لنا الرجل باستكمال السؤال، وقاطعنا للمرة الأولى والأخيرة في هذا الحوار قائلًا.
- -فلاتكو: "لا، لا، هذا وهم. ليس كل اللاعبين الكروات موهوبين بدنيًا".
- -ماذا تقصد؟!
- -فلاتكو: "أؤكد لك أن كثيرًا من اللاعبين الكروات لم يولدوا بخصائص بدنية رائعة، بل منهم من كان يعاني على هذا الصعيد حين بدأ لعب كرة القدم. أقصد أن منهم من كان لا يركض بشكل جيد، أو حتى لديه قصور على مستوى القوة والطاقة، لكنهم كانوا مميزين مهاريًا وتقنيًا.
انظر إلى لاعب مثل لوكا مودريتش، لم يكن يركض بتلك الحدّة حين بدأ، وحتى بعدما لمع نجمه، كان ينهك أحيانًا على المستوى البدني بعد 70 دقيقة من الإيقاع المرتفع. لاعب آخر هو مارسيلو بروزوفيتش، عانى من قصور في القوة والطاقة في السابق. أما اليوم ستجد الوضع مختلف، لأن هذا الثنائي عالج مشكلاته، بعد أن قاما بالعمل والتدريب، الكثير من التدريب، لرفع الكفاءة البدنية.
وهنا تأتي أهمية وجود المعد البدني في مسيرة اللاعب والناشيء، وتتضاعف أهمية وجود منهجية يعمل خلالها المعد مع اللاعب، هذا ما كنت أحدثك عنه قبل قليل".
كنا قد أخبرناك أن الضيف لم يبخل علينا في إجاباته، وها أنت ترى كيف شرح لنا الأثر الإيجابي لعمل المعد البدني الخاص، والمنهجية التي يتخذها في عمله، كما المعايير التي ينظر إليها، قبل أن يفاجئنا برأيه عن القصور البدني في اللاعبين الكروات. بقى أن تعرف أن دكتور "فوشيتش" يوجه انتقادات أكثر حدّة ﻷبناء جلدته في الإعلام المحلي، وصلت ذات مرة بأن وصف اللاعب الكرواتي بالكسول، وحين سُئِل عن السبب قال إن نظرته لكرة القدم تقتضي ألا يدخر اللاعب أدنى جهد، ويضع كامل تركيزه في تطوير ما لديه باستمرار، وهو ما لا يحدث إلا نادرًا.(3) ترى كم ساعة تدريب قاسية خضع لها "مودريتش" أو "بروزوفيتش" حتى يستثنيهما ضيفنا من تهمة الكسل؟
هل تمتلك حبل مقاومة مثل مودريتش؟
كنا قد وصلنا للمحطة الأكثر إثارة في هذا الحوار، وهي التي تخص "لوكا مودريتش" بكل تأكيد. بدا الحماس واضحًا في صوتنا، حتى لاحظ "فلاتكو" وقال: "لعلك تسألني الآن عن العمل مع لوكا، صحيح؟". أجبنا: "نعم صحيح". التقط ضيفنا ورقة من على مكتبه، ثم رفعها أمام الكاميرا وقال :"هذا هو البرنامج التدريبي الذي أعددته خلال الإسبوع لكل اللاعبين الذين أعمل على تدريبهم بشكل فردي".
كانت كلمة (كل اللاعبين) مغرية لنا بما يكفي، حتى نطلب ذكر أسماء أخرى غير "مودريتش"، لكن "فوشيتش" أجاب ضاحكًا :"لا لن أخبرك بأي أسماء. ربما من الممكن أن أقول أن عددهم حاليًا يصل لـ 26 لاعبًا لكرة قدم، ومنهم من يحمل جنسية كرواتيا أو ألمانيا أو كوسوفو، لكني لن أخبرك بهويتهم. أنت تعرف واحد من بينهم، وهذا يكفي".
- -كيف ومتى بدأت معرفتك بـ"مودريتش"؟
- -فلاتكو: "آه! كان ذلك منذ وقت طويل للغاية!
لقد جاء إلى هنا، في معمل القسم التشخيصي، منذ سنوات بعيدة. كان ذلك مع عدد من اللاعبين الكروات تحت إشراف الإتحاد، بهدف إجراء فحوصات. المثير أن أرقامه لم تكن مميزة، بل على العكس أذكر إنه احتاج للتطوّر في جوانب مثل الطاقة الاستيعابية. سلمته التقرير الخاص به، ولم أكن أعمل معه بشكل مباشر، ولا حتى عرضت عليه الفكرة.
لكن قبل 7 أعوام ماضية، جاء لوكا هنا مرة أخرى رفقة المنتخب الكرواتي. قام بالفحص، وقمت أنا بتحليل البيانات الخاصة به. تحدثت معه حول بعض الخصائص البدنية التي عليه الانتباه إليها، استمع لي بحرص، وبعد عدة شهور، تواصل معي، كي نبدأ العمل في برنامج تدريبي خاص".
- -هل لك أن تحدثنا عن الطريقة التي تتبعها في تدريب لوكا؟ هو أغلب الوقت في مدريد وأنت في كرواتيا، فكيف تقوم بتدريبه؟
- -فلاتكو: "أنا ومودريتش على تواصل يوميًا. حين يكون في مدريد، فأنا أتواصل معه عبر تطبيق Whatsapp. وحين يكون هنا في كرواتيا، فإنني أتواصل معه ومع المعد البدني للمنتخب الكرواتي بشكل مباشر.
أرسل له التدريبات الذي أريده القيام بها يوميًا. أحدد له الحركات المطلوبة، وكذلك نطاق المجموعات والأعداد، كما المدة الزمنية للتدريب. فربما أطلب منه التمرين لمدة 25 دقيقة قبل بداية الحصّة التدريبية لكارلو أنشيلوتي، ثم أضيف دقيقتين مثلًا بعد نهاية تلك الحصّة.
طبعًا ما أرسله من تدريبات يختلف من يوم لآخر، فما أطلب القيام به في يوم مباراة هامة لا يتطابق بالضرورة مع ما أريده أن يتدرب عليه قبل المباراة بيوم، وهذا وذاك مختلف عما يجب أن يفعله خلال التعافي من الإصابة. وهكذا فإن البرنامج التدريبي يخضع لحالة واحتياج مودريتش، وكذلك ظروف الفريق وجدول المباريات".
- -هل هناك أدوات معينة تعتمد عليها في تدريبك لمودريتش؟
- -فلاتكو: "نعم. أنا أعتمد على حبل المقاومة. أعرف أن العديد من المدربين والرياضيين أنتبهوا ﻷهمية التدريب بحبل المقاومة في السنوات الأخيرة، لكني كنت أرى تلك الأهمية منذ عشرين عامًا. يمكن لك كمدرب أن تعتمد عليه في تدريب طفل صغير، أو كهل عجوز، أو شخص يمارس الرياضة كهواية، وحتى لاعب محترف مثل مودريتش، وستخرج بنتائج جيدة في كل الأحوال.
أعتمد كذلك على جهاز الركض (Treadmill)، فأنا أريد اللاعب أن يتقن حركة الجري في الاتجاهات الاربعة: إلى الأمام، إلى الخلف، إلى الجانب الأيمن، إلى الأيسر. وهناك نمط من الركض مهم للرياضيين المحترفين، يقوم على الركض بسرعة عالية مثل 20 أو 22 كم/ساعة لعدد من الثواني، ثم الراحة أو الركض بسرعة قليلة لعدد من الثواني، وهكذا لعدد من المجموعات".
كان حديث "فوشيتش" عن اعتماده على حبل المقاومة مثيرًا، لذلك سألناه: ما مدى أهمية الاستعانة بحبل المقاومة في تدريب لاعب كرة قدم محترف؟ أجاب الرجل سريعًا، وكأنه كان ينتظر سؤالنا.
- -فلاتكو: "سأخبرك! التدريب بحبل المقاومة يساعد على تكوين جسد مرن، وهو ما يجعل الحركة أسهل وأكثر فاعلية. إذا اطمأن اللاعب لفاعلية حركته، فإن بإمكانه الإنطلاق وتغيير اتجاهاته بسهولة، وهذه مهارة شديدة الأهمية بالنسبة للاعب كرة القدم، خصوصًا لو كان مركزه في وسط الملعب"
ما أن انتهى من تلك الإجابة، إلا ونصحنا "فلاتكو" بأن نتصفح حسابه عبر تطبيق Instagram، لأننا سنجد مقاطع لتلك التدريبات. المفاجأة السعيدة أننا عثرنا على مقطع يظهر فيها "مودريتش" شخصيًا، بينما ينفذ إحدى التمارين على جهاز الركض. يجري "لوكا" في تركيز، ثم يغير اتجاهاته فور أن يسمع تعليمات صديقنا "فوشيتش"، وبعدها يواصل الجري مرة أخرى.
63 كيلو متر في روسيا
- – كيف لك أن تعرف أن لوكا يؤدي بدنيًا بصورة جيدة؟ هل يتضمن برنامجك التدريبي متابعة بيانات وإحصائيات مودريتش خلال التدريب والمباريات؟
- –استمع فلاتكو للسؤال، ابتسم بما يوحي بثقة بالغة، ثم قال: "سؤال جيد، لكن عليك أن تعرف أن وظيفة المدرب الخاص تقتضي وجود خبرة كبيرة لدى المدرب، وأنا أمتلك عشرين عامًا من الخبرة، لذلك لا احتاج سوى أن اسمع صوت لوكا في مكالمة هاتفية بعد مباراة صعبة حتى أعرف كيف يؤدي.
بالتأكيد أنا أستعين ببيانات من التدريبات أو المباريات التي يشارك فيها، وأقوم بمقارنة النتائج بما أتوقعه. وأحيانًا يكون هناك رسوم بيانية تساعدني كثيرًا لتقييم جودة التمرينات، على هاتفي الآن يوجد رسم بياني يخص لاعب بعد خضوعه لتدريب صممته له".
تفاوضنا مع "فوشيتش" على إرسال نسخة من ذلك الرسم البياني، وبعد أن إحتلنا عليه، وافق الرجل بطيب خاطر، ثم طمعنا أكثر في كرمه لنسأله عن اسم صاحب هذا الرسم البياني، فأجاب: "لا أنت تحلم، لن أخبرك ابدًا، وهو ليس لوكا".
- -إلى أي مدى تظن أن عملك التدريبي مع مودريتش أثر إيجابيًا على مسيرته؟
- –فلاتكو: "هذا ليس سؤالًا جيدًا، إنه سؤال صعب، لأنه يتعلق بتقييم عملي.
سأحكي لك شيء مهم، حين أتى إلى مودريتش للمرة الأولى، سألني: دكتور فلاتكو هل يمكن أن تساعدني على لعب المزيد من السنوات عبر برنامجك التدريبي؟ كانت إجابتي له: بكل تأكيد!
لوكا لاعب كرة قدم مخضرم، لديه المهارات ويعرف التكتيك ويمتلك الخبرة، ما كان ينقصه هو أن يحظى بالطاقة والقدرة، حتى يتمكن من مواصلة اللعب لأعوام. لقد أخبرته أنه إذا التزم بالبرنامج الذي سوف أقوم بتصميمه، فإنني متأكد أنه لن يتعرض لكثير من الإصابات، وسوف يخفف البرنامج كذلك من حدّة الإرهاق، وبالتالي سيمنحه الفرصة للحصول على المزيد من المشاركات.
ربما ينبغي هنا مقارنة حالته البدنية في السابق، حين كان يتعرض للإنهاك بعد 65-70 دقيقة من المباراة، بحالته الآن وهو يلعب لـ90 أو 100 دقيقة، وفي ظني أنه يؤدي بنسبة 99% مما يمتلكه حاليًا من قدرة بدنية".
جرتنا هذه الإجابة، للبحث عن بعض الإحصائيات التي تخص "مودريتش". تحدث "فلاتكو" عن الإصابات، وقد وجدنا أن "لوكا" تعرض هذا الموسم للإصابة خمسة مرات؛ واحدة منها بسبب فيروس كورونا، وأخرى بسبب إصابته بالبرد، ليتبقى ثلاثة إصابات بدنية. منها ما اضطره ليغيب عن التدريبات ليومين أو أربعة أيام فقط، وجميع تلك الإصابات لم تمنعه من المشاركة إلا في أربعة مباريات وحسب بجميع البطولات، سجل رائع أليس كذلك؟!(4)
قارن ذلك السجل بإصابات اللاعب الكرواتي في السابق، وستكتشف أن هناك تحوّلًا حقيقيًا قد حدث. قبل تعاون "لوكا" مع ضيفنا بشكل مباشر، أي موسم 2014/2015، تعرض المايسترو الكرواتي لإصابة قوية في العضلة الخلفية، وأخرى في الركبة. منعته الأولى من اللعب لـ112 يوم، والثانية لـ72 يوم، لتثنيه الإصابتان عن الظهور في 32 مباراة.(5) ربما كان ذلك هو الدافع وراء الاستعانة بمعد بدني خاص.
دعك من الإصابات، وتأمل إحصائيات "مودريتش" في الموسم الحالي. يقول موقع ويفا أنه تمكن من الركض لأكثر من 114 كيلو متر، وذلك خلال 12 مباراة في البطولة الأوروبية، أي بمعدل يزيد عن 9.5 كم في المباراة الواحدة.(6) ترى كم لاعبًا تجاوز السادسة والثلاثين بإمكانه الركض لتلك المسافة؟ على الأرجح ليس الكثير. لأن من هم في مثل سنه، لا يعيشون أفضل أوقاتهم في الملعب، بل يقضون أغلبها على دكة البدلاء أساسًا.
أكثر من ذلك، هو ما اكتشفناه حين قمنا بمقارنة معدل الجري الخاص بـ"لوكا"، بمعدلات زملائه في وسط ملعب ريال مدريد. استعد لتلك المفاجأة، لأن الكرواتي هو صاحب ثاني أفضل معدل بعد "كاسميرو". وحتى اللاعب البرازيلي لم يتفوق على "مودريتش" بفارقًا شاسعًا، لأن معدله يتجاوز بالكاد 9.6 كم في المباراة.(7) ألا يعد ذلك كله مؤشرًا على جودة عمل "فلاتكو"؟
سألناه عن اللحظة التي شعر فيها بأن "مودريتش" قد وصل لأقصى استفادة ممكنة من برنامجه التدريبي؟ لم يستنزف الضيف الكثير من الوقت وقال: "كأس العالم في روسيا 2018". سكت الرجل لبرهة، وكأنه يتذكر أمر ما، لم نود قطع حبل أفكاره، قبل أن يستطرد: "أنت لا تعرف كيف كان لوكا في قمة تركيزه خلال هذه البطولة، كان ينفذ كل تدريب أرسله إليه يوميًا بشكل دقيق للغاية، وهو ما أظن أنه أنعكس على أدائه".
كان رد الضيف دافعًا كي نبحث عن إحصائيات تخص "لوكا" بمونديال روسيا. لا نريد أن نصدع رأسك بمزيد من الأرقام، لكن يكفي أن تعلم أنه كان أكثر من قام بالركض خلال البطولة، بعدما قدم أداءًا فرديًا يحسد عليه، وترك بصمة في كل خطوة من خطوات كرواتيا نحو نهائي البطولة. إذ قام بقطع 64 كيلو مترًا على الملاعب الروسية،(8) متفوقًا بذلك على "راكيتيتش"، "كيليان مبابي"، و"نغولو كانتي" شخصيًا.
لا تعتزل في الثلاثينات
كنا نعرف قبل مقابلة "فلاتكو" أن "مودريتش" يستعد لتمديد عقده مع ريال مدريد، لكن مدّة العقد الجديد لم تُكشف بعد. على الأرجح سيكون "لوكا" على شفا الأربعين حين تنتهي المدّة، وربما يكون قد جاوز الأربعين، من يدري؟ لكن هل ستتراجع قدراته البدنية بصورة ملحوظة خلال الأعوام القادمة؟
سألنا ضيفنا: هل هناك سن معين تنخفض فيه الكفاءة البدنية للاعب كرة القدم؟
- -فلاتكو: "نعم، لكن دعني أشرح لك. إذا كنت لاعب كرة قدم، فإن قدرتك البدنية تنخفض بعد الثلاثين أو الثالثة والثلاثين، وهذا وفقًا للعلم النظري. أما عمليًا فإن اللاعبين ليسوا نسخة موحدة، ربما تجد لاعبًا يشعر بالعجز وهو في الثامنة والعشرين، وآخر قوي وسريع وهو في الخامسة والثلاثين. الأمر يعتمد على التدريب"
- -كيف يعتمد على التدريب؟
- -فلاتكو: "يعتمد على كيفية التأهيل البدني للاعب خلال فترة العشرينات، وكذلك على البرنامج الذي سيخضع له بعد الثلاثين، ففي ذلك السن، على اللاعب أن يتمرن أكثر وأكثر. وبشكل عام، كلما ازداد عمر اللاعب، فإن عليه العناية بتدريباته أكثر"
- -كيف يمكن أن يلعب المعد البدني الخاص دورًا في إطالة مسيرة اللاعب لبعد عامه الثلاثين؟
- -فلاتكو: "دعني أبدأ إجابتي من اللاعب. هناك لاعب يريد أن يطيل مسيرته بشكل حقيقي، وهناك لاعب آخر لا يريد، ربما ﻷنه قد جمع ما يكفي من المال، ولا يحب أن يكون تحت أي ضغوط أخرى. النوع الأول الذي يريد إطالة مسيرته لأقصى مدّة ممكنة، عليه التركيز على الرياضة والتغذية والتمرين في كل يوم.. كل يوم!
هذا ليس أمرًا سهلًا، لأن اللاعب لن ينعم بالحرية في أمور عديدة، كتناول الحلوى مع أسرته يوم العيد، أو شرب الكحول مع أصدقائه كلما قابلهم. وكما سيهتم بالتغذية، فإن عليه أيضًا الاهتمام بالجانب النفسي وكذلك البدني. وهنا أقول أن من الضروري أن يستعين بمدرب بدني خاص، ولا يعتمد فقط على التمرينات التي يوفرها النادي، لماذا؟
لأن اللاعب ليس ذكيًا بما يكفي كي يصمم برنامجًا تدريبيًا يلائمه، فهو لا يمتلك المعرفة العلمية ولا يعرف الأدوات التي ينبغي الاستعانة بها، ولا يفهم آليات عمل الجسم وقت التعافي من الإصابة. أنا هنا لا أقلل من شأن اللاعب، أو أتهم أحدًا بالغباء، بل أقول أنني شخصيًا لست ذكيًا بما يكفي رغم أنني أحمل شهادة الدكتوراة وأقوم بالتدريس، إلا أنني مثلًا أستعين بخبير تغذية، ولا أحب أن ارتجل أو اعتمد على معلومة لست واثقًا من صحتها. أنا أذهب للرجل المختص، وأنفذ ما يقوله. وهكذا ينبغي أن يفعل اللاعب".
كان هذا سؤالنا الأخير لضيفنا، شكرناه أولًا على إجراء المقابلة، وثانيًا على إجاباته التي كانت أكثر تفصيلًا من توقعاتنا. أجاب الرجل بخجل وتواضع: شكرًا لكم أنتم، بات لي اليوم أصدقاء في العالم العربي، وأنا سعيد بذلك.
____________________________________________
المصادر: