قانون رقم 1: يحب العالم تشجيع المُهمَّشين أمام الكبار، قانون رقم 2: يكره العالم نجاح المُهمَّشين الزائد عن حدِّه لأنه يحرمهم من متعة تنافس الكبار. معادلة متناقضة للغاية، تكون نتيجتها الإشادة بأداء البعض وقصصهم وملاحمهم، ثم نسيان أسمائهم صباح اليوم التالي، هم ليسوا جديرين بالبحث خلف كواليس إنجازهم، يكفي فقط أن نُصفِّق لهم على منصة التتويج ونُذكِّر الحيتان أن للفقراء نصيبا من الدنيا، ثم ننسى ما حدث برُمَّته بعدها بساعات، وإن لم ننسه فإنه يظل إنجازا سطحيا في عقول الغالبية، ولا يهتم أحد بالبحث خلف تفاصيله.

 

ولكن في الحقيقة، لا يوجد شيء جدير بمعرفة كواليسه وما يحدث في غُرفه المغلقة أكثر من قصص نجاح المُهمَّشين، والسبب بسيط للغاية؛ أنهم يحتاجون إلى الكثير من العمل والجهد حتى يقارعوا أصحاب الإمكانيات. هل تذكر قصة الأرنب والسلحفاة الشهيرة التي سمعناها كثيرا في طفولتنا؟ إلى ماذا كان يحتاج الأرنب فيها إلا أن ينتظم في الركض، حتى ولو بأقل سرعاته، لكي يفوز؟

 

على الجانب الآخر، لم يكن هناك أمتع من السير مع تفاصيل ما قامت به السلحفاة، حتى وإن خسرت أمام أرنب أكثر جدية، لن ينفي ذلك أنها احتاجت إلى الكثير من الجهد والتخطيط حتى تقارعه فقط، بينما لا يحتاج هو غالبا إلى فعل الكثير حتى يستحوذ على أفكارنا بوصفه فائزا، فقط لاعتقادنا أن الأفضل دائما يمتلك ما هو أجدر بالسرد والحكايات. عزيزي القارئ، إن كنت تذكر أنك قد قرأت هذه الكلمات من قبل، فأنت بالفعل قرأتها حين تحدَّثنا قبل نحو عام عن أحصنة اليورو السوداء، حين أقصوا الكبار واستحقوا احترام الجميع، والآن، لم نجد أفضل من هذه الأسطر لنبدأ بها، لأننا هنا للسبب ذاته، حيث وجدنا أحصنة سوداء في دوري أبطال أوروبا واليوروباليغ. (1)

 

بنفيكا.. الكنز في الأكاديمية

"لدي حلم وهو أن أرى بنفيكا يفوز بدوري أبطال أوروبا مع 5 أو 6 عناصر من لاعبي الأكاديمية في صفوفه"..

(رودريغو ماغالايش، المنسق الفني لأكاديمية بنفيكا)

منذ سنوات عديدة، لعب بنفيكا دور مَنجم الذهب لأندية أوروبا الكبرى، يكفي أنه النادي الأكثر جنيا للأرباح في القارة العجوز من بيع اللاعبين خلال الفترة بين عامَيْ 2000-2021، بأرباح بلغت 628 مليون يورو، وبأسماء كان أبرزها جواو فيلكيس وروبن دياز وريناتو سانشيز وقبلهم فابيو كوينتراو وأنخيل دي ماريا. وحسب دراسة أجراها مركز الأبحاث السويسري "CIES"، فإنه منذ يوليو/تموز 2015، أصبحت أكاديمية بنفيكا الأكاديمية الأكثر ربحا في أوروبا، حيث ضخَّت للنادي 379 مليون يورو خلال هذه الفترة. (2)(3)(4)

 

ذلك لا يحدث عبثا، بل يسير وفق مشروع مُخطَّط له منذ البداية، حيث يُركِّز فريق الأكاديمية الفني على ضم الأطفال في سن مبكرة، وتحديدا بين 6-13 عاما، وذلك لتطويرهم وإكسابهم أساسيات اللعبة في الفترة الأولى من علاقتهم بها. وبعد ذلك، من خلال التواصل مع مدربي الفئات السنية، يتم الترقي للناشئين وفقا لما يُقدِّمونه من مستويات، لذلك يكون من السهل أن يصل اللاعب إلى الفريق الأول في سن صغيرة، ويحتك مبكرا بالمنافسات، وبالتالي يستطيع النادي بيعه في أوائل العشرينيات أو حتى قبلها، وجني عائد مادي كبير، أو الاستفادة منه في صفوفه لأطول فترة ممكنة. (5)

 

الأكاديمية في 2020 كانت تمتلك نحو 470 لاعبا بين صفوفها. قد يبدو رقما ضخما، أليس كذلك؟ هناك في بنفيكا لديهم رأي آخر؛ رودريغو ماغالايش، المنسق الفني لأكاديمية النادي، يرى أن هذا العدد من اللاعبين ليس كبيرا أو فوق الحاجة، وذلك لأنهم استثمار، وبمقارنة بسيطة بين ما ينفقونه للتعاقد معهم وتدريبهم وبين ما يمكن دفعه لجلب لاعب في سن 22 عاما فما فوق، فسيكون الفارق واضحا، أو كما قال ماغالايش؛ صناعة اللاعب ستكون أقل تكلفة من التعاقد معه جاهزا بنحو 20 ضِعْفا. (6)

 

بنفيكا وصل إلى ربع نهائي دوري أبطال أوروبا، أقصى برشلونة من المجموعات، وأياكس من ثمن النهائي، وقدَّم مباراتين جيدتين أمام ليفربول في دور الثمانية. هذا النادي الذي سردنا حكايته الأوروبية، الذي يعاني محليا في المركز الرابع، مرَّ بعاصفة بإمكانها هد جدران أعتى أندية أوروبا الصيف الماضي، حيث استقال رئيس النادي لويس فيليبي فييرا بعد 18 عاما من رئاسته لبنفيكا بسبب اتهامات عديدة بالفساد، ليُنتَخب أسطورة البرتغال روي كوستا رئيسا جديدا بوصفه أول لاعب كرة قدم يتولى رئاسة النادي تاريخيا، ويظل الفريق يسير بين خطوة ناجحة وأخرى متعثرة، ولكنه مرتكز على أكاديمية حديدية، يستطيع أن يُقدِّم لك موسما كهذا حتى وهو يعاني. (7)

 

فياريال وإيمري.. عفوا نيوكاسل، لدي تحدٍّ هنا!

مع استحواذ صندوق الاستثمار السعودي على نادي نيوكاسل، كان أوناي إيمري المرشح الأبرز لقيادته، قبل الاستقرار على إيدي هاو. المدرب الإسباني كان أقرب للموافقة على عرض الفريق الإنجليزي، نظرا إلى كونه متحمسا لقيادة مشروع منذ بدايته، والبناء خطوة بعد خطوة، على عكس ما كان عليه الوضع في أرسنال من وجهة نظره، حيث تطلَّب الأمر هدم الكثير قبل الشروع في البناء أصلا. (8)

 

هذا المدرب المطلوب بشدة لقيادة مشروع نيوكاسل، الذي تمسَّك به فياريال ليختار البقاء معهم في النهاية، هو نفسه الرجل المتهم بالفشل في باريس قبل سنوات، الذي أتى من تجربة اكتست بالفشل ذاته مع أرسنال. جاء ليبحث عن استعادة نفسه في الليغا، حيث نجاحاته السابقة التي كانت آخرها ثلاثية متتالية للدوري الأوروبي مع إشبيلية. (9)

 

وصل إيمري إلى فياريال في 2020، بعد استراحة من تجربتَيْ أرسنال وباريس، تحت ضغط أقل بكثير، وفي بيئة اعتاد الوجود فيها، كانت الرحلة أكثر هدوءا. مرونته في إدارة الموارد الموجودة تحت تصرُّفه في فياريال جعلته يُجرِّب تشكيلات مختلفة، من 4-4-2 إلى 4-3-3، 4-4-1-1، ولا مانع في بعض الأحيان من استخدام 4-1-4-1. لا تهم تلك الأرقام ما دامت هناك فكرة تُطبَّق بنجاح في كل مرة.

 

في مركز قلب الدفاع، أسَّس إيمري شراكة هائلة بين لاعب ريال مدريد ونابولي السابق المخضرم راؤول ألبيول، والشاب باو توريس الذي بدأ في جذب انتباه كبار الأندية في أوروبا، أيضا أظهر إيمري ثقته في ألفونسو بيدرازا البالغ من العمر 24 عاما، الذي سبق أن خرج للإعارة 4 مرات، ليصبح عنصرا أساسيا لدى الغواصات الصفراء، ويُثبت أنه استحق ثقة مدربه، بينما يبقى الإكوادوري الشاب بيرفيس إستوبينان خيار تناوب قويا لإيمري لاستخدامه في مركز الظهير الأيسر، بعد فترة إعارته إلى أوساسونا التي كانت كافية لإثبات جودته.

أعاد إيمري تقديم نسخة مميزة من داني باريخو أحد أهم رجال فياريال هذا الموسم بعد انتقاله من فالنسيا، مع تريغيروس وباكو ألكاسير وجيراردو مورينو، يكتمل مزيج الشباب والخبرة الذي أعاد المدرب الإسباني اكتشافهم، وفق منظومة لعب متماسكة تبحث عن الأنماط بغض النظر عن الرسم التكتيكي. تحقَّق الدوري الأوروبي على حساب مانشستر يونايتد في 2021، وتحطَّم السقف ليصل فياريال إلى نصف نهائي دوري أبطال أوروبا في الموسم الذي يليه، بعد إقصاء يوفنتوس وبايرن ميونخ. وبذلك تتضح معالم المشروع الذي جعل إيمري يفكر مرتين قبل الذهاب إلى نيوكاسل، ليرفضه في النهاية، ويختار استكمال حلم بدأه في إسبانيا، حيث اعتاد تحقيق أحلامه.

 

وست هام وديفيد مويس.. فشل قاد إلى النجاح

في ديسمبر/كانون الأول 2019، وصل ديفيد مويس إلى وست هام في ولاية ثانية، بعد عام من نهاية ولايته الأولى التي لم تدم طويلا. الوقت الذي وصل فيه المدرب الاسكتلندي كان مليئا بالفشل له وللنادي، فمنذ أن قاد مانشستر يونايتد خلفا للسير أليكس فيرغسون وهو في دوامة من الفشل في إنجلترا وخارجها، أما المطارق فكانوا على حافة الهبوط، وتحديدا في المركز السابع عشر، بعد أن وصل كل شيء إلى حائط مسدود مع المدرب مانويل بيليغريني. (11)

وصل مويس قبل أن تتوقف كرة القدم حول العالم بسبب جائحة كورونا بقليل، الأمر الذي جعل بمقدوره أن يتنفس الصعداء، ويبحث عن كيفية إخراج النادي من كبوته، بهدوء وبعيدا عن تلاحق المباريات وقطارها الذي يدهس دون توقف. الموسم انتهى بتجنُّب الهبوط، ولكن في المركز السادس عشر، وبشكل لا يُبشِّر بالكثير في المستقبل، كان ذلك حتى جاء صيف 2020، حيث بدأ كل شيء. (12)

 

صيف 2020 شهد التعاقد مع توماس سوتشيك من سلافيا براغ وسعيد بن رحمة من برينتفورد بوصفهما أبرز صفقتين، وانتهى الموسم بتقدُّم أسطوري عن الموسم السابق، حيث قفز وست هام 10 مراكز من المركز السادس عشر إلى السادس، قبل أن يشهد الصيف التالي التعاقد مع نيكولا فلاسيتش من سسكا موسكو، وكورت زوما من تشيلسي، والحارس أريولا مُعارا من باريس سان جيرمان، ليصل الهامرز إلى الأمتار الأخيرة من الموسم وهم ينافسون على مقعد مؤهل لدوري أبطال أوروبا العام المقبل، وقد تأهلوا بالفعل إلى نصف نهائي النسخة الحالية له. السؤال هنا، هل تبدو هذه الصفقات كافية لنقل مؤشر النادي ومدربه من أقصى الفشل إلى النجاح بهذه الطريقة؟ (13)(14)

 

قطعا لا، الفكرة كانت في الشكل الذي تحوَّل إليه مويس، وخلق منظومة تلعب بأنماط لعب واضحة تندرج تحت فكرة رئيسية واحدة؛ البقاء خلف الكرة والاعتماد على المرتدات. أسلوب كلاسيكي للغاية ولكنه يُقدَّم بشكل منظم، تكون فيه الأدوار المخصصة لكل لاعب مقدسة، والعمل البدني كذلك كعادة الرجل، بالإضافة إلى استغلال سلاح الكرات الثابتة بوصفه أحد أكثر الأسلحة فاعلية في تسجيل الأهداف، وفي صناعة الفرص عموما، وذلك باستخدام الثلاثي آرون كريسويل، وجارود بوين، وبابلو فورناليس. (15)

بدون الكرة، يلعب وست هام بطريقة 4-5-1، تتحوَّل إلى 4-2-3-1 بعد قطعها، وغالبا ما يتراجع أنطونيو نحو خط الوسط لملء المساحة بين ثنائي الوسط سوتشيك وديكلان رايس، الأخير الذي قدَّم نسخة استثنائية منه بعد تراجع حدث قبل وصول مويس. نمط للعب يكون فيه خط الوسط هو محور قطع الكرات، وذلك بهدف توفير الحماية للرباعي الخلفي، ونقطة انطلاق الكرات المرتدة. كما قلنا لك، أفكار كلاسيكية ولكنها منظمة.

 

بالنظر إلى التجربة، فلا توجد لقطة بعينها مَثَّلت نقطة انطلاق، فترة الجائحة مَثَّلت خطوة صغيرة، وصفقات فترتَيْ انتقالات كذلك، وإعادة توظيف بعض اللاعبين كديكلان رايس ومانويل لانزيني. فقط مجموع هذه الخطوات الصغيرة هو ما أنتج النقلة التي حدثت للنادي مع ديفيد مويس على مراحل، وليس بين عشية وضُحاها، بعد أن آمن الجميع بأنفسهم، وأنتجوا من فشلهم نجاحا لم تكن تتوقعه أكثر جماهير الهامرز تفاؤلا، وهم مَن أوصلهم الغضب إلى اقتحام الملعب ذات مرة قبل وصول إلى المدرب الاسكتلندي بقليل.

 

نحن لسنا بصدد الحديث عن الأحصنة السوداء في أوروبا لأول مرة، لأنه حيث يخرج علينا نادٍ أو أكثر في كل موسم ويُحقِّق ما يسمى بـ"معجزة أوروبية"، في كل مرة يُصنَّف الإنجاز مع سابقيه بين أسطر سرديات معجزات الكرة، ويُتنَاول وكأنه حدث عشوائيا، ويقتصر ذكره على الإشادة اللحظية. بمعنى أدق، يكون التركيز على أسباب فشل الأرنب أكثر من أسباب نجاح السلحفاة، نظرا إلى أن الحديث عنها لن يكون بالجاذبية ذاتها.

———————————————————–

المصادر

1. جامعة ونظارة ومحاسب إيطالي.. ما وراء أحصنة اليورو السوداء – ميدان
2. بنفيكا – عملاق أوروبي، يكافح من أجل مواكبة عالم السوبرليغ – ذا أثلتيك 
3. كيف حوَّل بنفيكا نفسه إلى مصنع لنجوم كرة القدم في أوروبا؟ – BBC
4. روي كوستا رئيسا جديدا لبنفيكا 
5. بنفيكا – عملاق أوروبي، يكافح من أجل مواكبة عالم السوبرليغ – ذا أثلتيك 
6. المصدر السابق
7. المصدر السابق
8. أوناي إيمري يعترف باقترابه من قيادة مشروع نيوكاسل والسبب في التراجع عن ذلك – دايلي ميل 
9. تحليل تكتيكي – كيف يبدو فياريال الخاص بأوناي إيمري؟ 
10. المصدر السابق
11. وست هام يتعاقد مع ديفيد مويس خلفا لمانويل بيلغريني 
12. صفقات وست هام يونايتد صيف 2020 
13. صفقات وست هام يونايتد صيف 2021 
14. ثورة ديفيد مويس في وست هام – تحليل تكتيكي 
15. المصدر السابق
16. جماهير وست هام يونايتد تقتحم ملعب الفريق اعتراضا على سوء الأداء والنتائج في 2018