شعار قسم ميدان

دوسان فلاهوفيتش.. هل عثرنا على هالاند آخر بلا رايولا؟

بوجه طويل، وملامح جادة، وتصفيفة شعر تنتمي إلى خمسينيات القرن الماضي، انفجر دوسان فلاهوفيتش في إيطاليا، الصربي الذي لا يعطي وجهه أي إيحاء سوى الجدية؛ يتفاعل ويلعب ويُسجِّل بجدية، حتى عندما يركض مُحتفلا فإنه يحتفل بالجدية نفسها كما لو كان في مهمة عاجلة. في الواقع، هو يُظهِر مزيجا من الأناقة والجدية تجعلك تشعر بأنه جيمس بوند نفسه، ربما لأن ما يحدث داخل المستطيل الأخضر بالنسبة له ليس مزحة على الإطلاق!

بنيانه الضخم، وملامحه الجادة، والكيفية التي يلعب بها، خاصة ما يُظهِره من نضج داخل منطقة الجزاء، تجعلك لا تُصدِّق أنه ما زال يافعا، وهو ما لن تدركه بمفردك إذا ما شاهدته يلعب للمرة الأولى في مساء يوم الأحد على ملعب أرتيميو فرانكي، في الواقع آخر ما قد يخطر ببالك أن هداف الدوري الإيطالي يبلغ من العمر 21 عاما فقط، والفيل الموجود في الغرفة هو أن فلاهوفيتش ليس موكلا لدى مينو رايولا، وهو ما جعل رحيله عن فيورنتينا مهمة أسهل على ما يبدو.

ماذا لو؟

على الرغم من ضخامة بنيانه، فإن فلاهوفيتش يملك من الحركية والمرونة ما يجعله خيارا لفريقه في مراحل اللعب المختلفة داخل وخارج المنطقة، وعلى الرغم من طوله الفارع، فإن سرعته تجعله قاتلا في المساحات. للوهلة الأولى قد تتصوَّر أنه مهاجم من الطراز القديم، لكنه مناقض لذلك التصوُّر، وذلك التناقض في الخصائص هو ما يمنحه التفرُّد الذي سبق به إيرلينغ هالاند، لكن إليك عدة اعتبارات للمقاربة بينهما.

الاعتبار الأول يكمن في تعدُّد المصادر التي يُسجِّل منها الصربي، مقارنة بالنرويجي الذي اشتهر بكونه فتاكا في المرتدات، كما وصفه الكاتب الرياضي "جون مولر" الذي أكَّد أنه لم يكن بارعا فقط إلا في التحوُّلات بعدما رصد الأنماط المتكررة التي سجَّل منها هالاند خلال الموسم الماضي، وتبيَّن أن الحصة الأكبر منها كانت من التحولات الهجومية التي قد تشرَّبها مع سالزبورغ في النمسا. (1)

فلاهوفيتش يُمثِّل حالة مختلفة رفقة فيورنتينا، إذ سجَّل 42% من أهدافه في آخر موسم ونصف من الكرات الثابتة مقابل 16% لهالاند، كما أن وضعيات تسجيله من اللعب المفتوح كانت متنوعة بين الهجوم المنظم والتحولات الهجومية، من داخل وخارج المنطقة، حيث إن 15% من أهداف دوسان كانت من خارج المنطقة، ما يعكس خطورة الصربي من مختلف الأماكن، فقد وصلت نسبة تسديداته من خارج المنطقة إلى 22% وفقا لـ "ستاتس بومب" (StatsBomb)، مقابل 6% فقط من محاولات مهاجم دورتموند.

يبدو الاعتبار الثاني جليا، إذ يلعب فلاهوفيتش في دوري أصعب من نظيره الألماني، وما يزيد مهمته صعوبة هو تمثيله لفيورنتينا (قبل انتقاله إلى يوفنتوس مؤخرا) الذي كان أفضل مركز له خلال المواسم الأربعة الأخيرة هو المركز العاشر بالموسم قبل الماضي، ما يعطينا فكرة عن جودة أفراد الفريق الذي يلعب له فلاهوفيتش مقارنة بهالاند.

خلال آخر موسم ونصف، كان مهاجم دورتموند أكثر مهاجمي الدوري الألماني حصولا على الفرص بعد ليفاندوسكي، إذ يملك 0.72 هدف متوقَّع لكل مباراة، بينما كان ترتيب فلاهوفيتش بين مهاجمي الدوري الإيطالي في الفترة نفسها الحادي والعشرين بنصف معدل الأهداف المتوقَّعة لهالاند، الأمر الذي يعكس جودة المحيط الذي يلعب به كلا اللاعبين، ومع ذلك استطاع فلاهوفيتش أن يُنهي الموسم الماضي بوصفه ثاني أكثر مهاجم شاب تسجيلا للأهداف في كل البطولات بـ (31) هدفا بعد هالاند (36 هدفا). صحيح أن الصربي قد لعب عددا أكبر من المباريات، لكن ذلك لا يُقلِّل مما حقَّقه في تلك الفترة مع تلك الاعتبارات. (2)

يظل إيرلينغ هالاند أفضل مهاجم شاب في الوقت الحالي. كانت تلك محاولة للمقاربة لا للمقارنة، إذ يتشارك اللاعبان في كثير من الخصائص، وذلك تحديدا ما يدفعنا للقفز إلى التساؤلات الحتمية في تلك الحالة؛ ماذا إذا انتقل فلاهوفيتش إلى فريق أكبر يجعله مُحاطا بلاعبين أفضل؟ ماذا بعد أن يحصل على فرص أكثر وأفضل للتسجيل ويتوفر له ما هو متوفر لمهاجمي النخبة؟

وُلد كبيرا

هناك نوع من اللاعبين من الصعب نسيانهم، لأسباب شخصية أو فنية، ومنهم دوسان الذي يخطف نظرك بجديته اللافتة، لكنها ليست الشيء اللافت الوحيد به، لأنك إذا امتلكت بعض الوقت للتحري عنه فستكتشف أن محطاته في الحياة كانت خالية من المُقدِّمات، حيث كان يُدفع إلى الملاحم دفعا منذ أن كان صبيا، ولعل ذلك ما شكَّل عقليته الفذة وسلوكه الجدي الذي جعله دائما سابقا لعمره، وهذا هو ما يُشعرك بأنه قد وُلد كبيرا.

بسبب نشأته في بلغراد، كانت معاناة عائلته من الحروب في صربيا أمرا حتميا. كطفل وُلد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عانى دوسان من اضطرابات ما بعد الحرب في البلقان، وغيَّر والداه مكان إقامتهما عدة مرات فرارا من الأحداث، إذ كان فقدان شقيقه الأكبر بمنزلة ضربة مروعة له، ولكن كان ذلك كل ما احتاج إليه دوسان ليحاول جعل عائلته فخورة به. (3)

منذ ذلك الوقت، كرَّس فلاهوفيتش نفسه للوصول إلى أعلى مستويات هذه اللعبة. "أنا زلاتان بلغراد، وسألعب لأكبر الأندية". كرَّر دوسان فلاهوفيتش تلك الجملة في التدريبات أسبوعيا لزميله في بارتيزان "فاليري بوجينوف"، بينما كان الأخير يصفه بالمجنون. كان فلاهوفيتش مجنونا حقا، لكن ما فات فاليري هو: كيف يمكن لمَن نشأ في هذه الظروف وعاصَر تلك الأحداث المروعة أن تُخيفه تحديات تلك اللعبة؟

بدون مُقدِّمات، وقَّع فلاهوفيتش عقدا احترافيا بعد عام واحد فقط من انضمامه إلى أكاديمية بارتيزان في 2016، بعدها بعام، قرَّر "إيفان توميتش" مدرب الفريق الأول لبارتيزان تصعيد دوسان للفريق الأول ومنحه الرقم 9، ليظهر لأول مرة مع الفريق في الدوري ضد "بيوغراد"، وليصبح أصغر لاعب في تاريخ النادي، وبعدها مباشرة، ودون أن يحصل على الوقت الكافي لاستيعاب ما حدث، وجد نفسه يشارك في المباراة التالية ضد "ريد ستار"، ليُسطِّر اسمه بوصفه أصغر لاعب في تاريخ الديربي بعمر 16 عاما. (4)

أدرك فلاهوفيتش وقتها أن أداءه سيحظى باهتمام العديد من الأندية الأوروبية، وتحديدا فيورنتينا نظرا للروابط القوية بين "بانتاليو كورفينو"، المدير الرياضي السابق لفيورنتينا، والأندية الصربية، وبالفعل، هبط الصربي إلى فلورنسا عام 2018 ليبدأ فصلا جديدا بلا مُقدِّمات من مسيرته، وفور وصوله، أخبره مدرب الفريق السابق "ستيفانو بيولي" بأنه لن يستطيع منحه الكثير من الدقائق. وقتها فضَّل دوسان اللعب مع الفريق الثاني على أن يكون محسوبا على الفريق الأول بدون مشاركات، أحرز فلاهوفيتش مع رديف فيورنتينا 20 هدفا ليفرض نفسه لاعبا للفريق الأول في موسمه الثاني. (5)

كان من قدر دوسان أن يتزامن وجوده في الفريق الأول مع تغيير 4 مدربين لسوء النتائج، علاوة على رحيل نجوم الفريق كفيدريكو كييزا، الذي انتقل إلى يوفنتوس بعد موسم واحد رفقة فلاهوفيتش، ومع ذلك استطاع الصربي أن يحمل الفريق على عاتقه من بعده، حتى انفجاره المدوي بالعام الماضي، إذ إنه في هذا الوقت من العام الماضي كان في سجله من الأهداف في الدوري 11 هدفا فقط منذ بداية موسم 2019-2020، والآن، بعد 12 شهرا، وصل إلى 43 هدفا.

تصدَّر دوسان ترتيب هدافي الدوري الإيطالي لهذا الموسم بـ 17 هدفا مع فيورنتينا (ارتفعت اليوم إلى 20 هدفا بعد انتقاله إلى اليوفي)، بعدما نجح في إنهاء العام المنصرم برصيد 33 هدفا في دوري الدرجة الأولى الإيطالي، مُعادِلا كريستيانو رونالدو الأكثر تسجيلا في عام واحد في إيطاليا، ووصيفا لروبرت ليفاندوفسكي، أكثر مَن سجَّل في 2021 في الدوريات الكبرى، ومُتفوِّقا على الجميع، بمَن فيهم إيرلينغ هالاند وكيليان مبابي والبقية، ولكن لأن الأقدار لم تُتح لدوسان أبدا الوقت للاحتفال بنجاحه، فإن فيورنتينا قد خيَّره بين التجديد أو الرحيل لتبقِّي عام ونصف في عقده، والآن انضم الشاب إلى يوفنتوس مترنحا، في أسوأ أحواله منذ سنوات، لكن هل تعتقد أنه لن ينجو مرة أخرى؟

يسارية من بلغراد

بقدر النضج الذي تتسم به شخصية دوسان، مثل أدائه، فهو يؤدي كما لو كان لاعبا مخضرما، وذلك النضج في مركز المهاجم تحديدا أصبح غير مألوف في كرة القدم الحالية، فإذا ما تفقَّدنا متوسط أعمار هدافي الدوريات الكبرى مجتمعين للموسم الماضي فسنجد أنها 32.5 عاما و30.8 للموسم قبل الماضي، لا يوجد شباب، فقط المخضرمون.

ينتابك شعور بالدهشة حينما ترى لاعبا بهذا الحجم يملك تلك السرعة والأريحية على الكرة، لكنك لن تنبهر حتى يدخل منطقة جزاء الخصم، وقتها فقط ستدرك مدى براعته، إذ إنها مسقط رأسه ومحل ميلاده، فهي البقعة التي يُعبِّر بها عن ذاته أكثر من أي مكان آخر؛ يطلب الكرة هناك بإلحاح، يتذمر إذا لم يحصل عليها، ويلوم زملاءه، ويعود سريعا لاصطياد الكرة التالية بيُسراه التي لا تُخطئ طريق المرمى.

سجَّل فلاهوفيتش كل ما سجَّله في العام الماضي وهو يُسدِّد أقل من جميع منافسيه، ليس ذلك فحسب، بل كان يُسدِّد من وضعيات أصعب، فكان ترتيبه الحادي عشر في قائمة أكثر المهاجمين تسديدا لكل مباراة، بمعدل 3 تسديدات/مباراة، بينما كان هناك 28 مهاجما في إيطاليا تتاح لهم وضعيات أفضل للتسديد، حيث كان متوسط معدل الأهداف المتوقَّعة للصربي لكل تسديدة 0.12 هدف، وأخيرا فهو في المركز الثالث عشر بين مهاجمي الدوري في حسابات الأهداف المتوقَّعة 0.37 هدف/للمباراة وفقا لـ "ستاتس بومب" (StatsBomb).

هل يُعقل ذلك؟ نعم، إذا كنت، مثل دوسان، تملك يسارية استثنائية ودقة غير عادية على الإنهاء داخل منطقة الجزاء عموما، إذ توضِّح خريطة أهداف اللاعب في آخر عام ونصف أنه كان من المتوقَّع أن يُسجِّل فقط ثلث ما سجَّله، أي إنه تفوَّق على نفسه بضعفَيْ المتوقَّع!

وفقا لموقع "FBREF" الإحصائي، فإن دوسان يساهم بهدف كل مباراتين تقريبا خلال آخر موسمين دون حساب ركلات الجزاء، ولذلك يضعه محللو الموقع في تصنيف ما يُسمونه بـ "Ceiling Raisers" أو "رافعي السقف" بالترجمة الحرفية، والمقصود هو الفئة النادرة من المهاجمين التي تفوق التوقُّعات وتتهافت عليها كل الأندية الكبرى. في النهاية، اختار فلاهوفيتش اللعب ليوفنتوس، الذي يبدو الخيار الأسلم في اللحظة الحالية، فمن الأفضل له أن يلعب في دوري وثقافة كروية قد برز بها في تلك السن الصغيرة، تماما كما فعل مبابي قبل 5 سنوات حينما فضَّل البقاء في فرنسا ومقاومة المُغريات الخارجية للحفاظ على مسار نموه بعيدا عن المفاجآت. (6)

وفي حالة فلاهوفيتش، يمكننا وضع اعتبار إضافي، إذ لم ينجح أي مهاجم خرج من إيطاليا في وجهته الجديدة بآخر 5 سنوات، فقد فشلت أسماء بحجم رونالدو، ولوكاكو، وإيكاردي، وإيموبيلي، فقط محمد صلاح كان الاستثناء، فما بالك بشاب بدأ للتو يشق طريقه إلى القمة. اختار دوسان أن يكمل رحلته في دوري يعرفه، في نادٍ تاريخي يملك انتظاما بالمشاركات الأوروبية ويملك فرصا كبيرة كل عام للفوز بالألقاب، قرار يعكس الكثير من النضج والحكمة لشاب قد اعتاد على ذلك!

_____________________________________________

المصادر

  1. تقرير جون مولر عن إيرلينغ هالاند
  2. تقرير سكاي سبورتس عن دوسان فلاهوفيتش
  3. الخلفية الاجتماعية لفلاهوفيتش
  4. مسيرته مع بارتيزان الصربي
  5. قرار اللعب للفريق الثاني بفيورنتينا
  6. إحصاءات دوسان فلاهوفيتش وفقا لـ "FBREF"
المصدر : الجزيرة