رياضة غير كرة القدم.. ما الذي يخبرنا به "تكتيك" المنتخبات في مونديال قطر؟

كنا قد قررنا أن نحدثك اليوم عن التكتيك في كأس العالم، ولكننا وجدنا أنفسنا في حيرة مألوفة نوعا، أي تكتيك سنتحدث عنه بالضبط؟ هل هو غياب صانعي الألعاب الموهوبين عن المونديال؟ هل هو ضعف الأظهرة بشكل عام؟ ثلاثة في الخلف مع مهاجمين اثنين؟ رباعي دفاعي مع ثلاثي في المقدمة؟ هل هذا هو التكتيك الذي سنحدثك عنه، أم أننا سنتطرق لمسارات الركض المقوّسة لغلق زوايا التمرير وطرق الترحيل الدفاعي والتغطية الوقائية والتحميل الزائد لأحد أطراف الملعب؟
كل هذا تكتيك كما ترى، والأمر يتوقف على درجة التفاصيل التي تهمك، لذا، وبعد التفكير في الأمر مجددا، قررنا أن نحدثك عن كل ذلك، وترك الحيرة لك، بحيث تختار ما يعجبك، وتتوقف عن القراءة حين تشعر أن التفاصيل لم تعد تثير اهتمامك.
كرة القدم التي لا نعرفها
"كرة قدم المنتخبات مختلفة تماما عن الأندية، الأمر أشبه برياضة أخرى لشكل مختلف من اللعبة"
(جيسي مارش – المدرب الأميركي لليدز يونايتد الإنجليزي، في حوار سابق لموقع "ذا أثلتيك (The Athletic)")
التصريح صادم بالطبع(1)، ولكنه صادم لأسباب وجيهة، منها على سبيل المثال أن هذا هو جيسي مارش، أحد المدربين الذين يمكن وصفهم بـ"التقدميين" أو"المتطورين" حاليا، بالطبع هذه أوصاف نسبية ومؤقتة، لذا نضعها بين علامتي تنصيص. أيضا ليس المقصود هنا أن مارش مدرب دفاعي أو هجومي أو ما إلى ذلك، بل حقيقة أنه يؤمن أن أغلب ما يحدث في الملعب يمكن دراسته وتحليله ومن ثم تفسيره(2).
السبب الثاني هو أن هذا المقال ورد في موقع ذا أثلتيك، أحد أكثر المواقع توغلا في التفاصيل التكتيكية حاليا، لذا ربما شعر مارش بأنه قادر على التعبير عن أفكاره بحرية، ولا ضرر إن كان مشجع كرة القدم "التقليدي" سيرى في حديثه مبالغة، هذا وصف آخر نسبي بالمناسبة.
المفاجأة هنا أن مارش لم يكن يتحدث عن أي من التعقيدات التكتيكية التي تتخيلها، بل عن المشاعر التي انتابته أثناء معايشة مونديال 1994 في بلاده، وكيف أصبح هذا الجيل أبطال طفولته، ثم عن النشوة التي تملكته بعد الفوز على الجزائر في مونديال 2010 وتصدُّر المجموعة، حينما كان يعمل بالطاقم المساعد لبوب برادلي، أحد رواد التدريب في الولايات المتحدة، ومعلمه الشخصي في جامعة برنستون(3)(4).
بالطبع عقب ذلك تعليقات مقتضبة عن كل لاعبي المنتخب الحاليين، والذين يشعرونه بالأمل على حد تعبيره، ولكن إن كان لنا أن نتخيل ما قصده مارش بعبارة "رياضة أخرى مختلفة"، فنحن نعتقد أنه يتحدث عن أمور أكثر بداهة من مسارات الركض المقوّسة وأنصاف الفراغات والتغطية الوقائية، أمور تتميز بها كرة المنتخبات في بطولات مثل كأس العالم.
صراحة، لا نعلم إن كان "تتميز بها كرة المنتخبات" هو التعبير الأنسب هنا، فالبعض قد لا يعتبرها ميزة أصلا. على سبيل المثال، في بطولة ككأس العالم، هناك دائما احتمال ركلات الترجيح الذي يقلب كل شيء، على عكس الدوريات، خاصة أن الوصول لهذه المرحلة -ركلات الترجيح- يضفي صبغة رومانسية على أداء بعض المنتخبات، إذ يعتقد أنصارها -غالبا- أنهم قد بذلوا كل ما في وسعهم، بالإضافة إلى أن المباريات التي تُحسم بركلات الترجيح تُحتسب تعادُلا، وفي هذا بعض العزاء للخاسر(5).

"الميزة" الأخرى البديهية هي ارتفاع الضغوطات النفسية والذهنية إلى حد لا يصدق، ونحن لا نتحدث هنا عن ميسي أو رونالدو وكبار اللاعبين، هؤلاء يتعرضون لضغوطات استثنائية بطبيعة الحال، ولكنهم -على الأقل- قد اختبروها من قبل وأَلِفوا بعضها في منافسات الأندية، ولديهم فكرة مسبقة عما يواجهونه، ولكن مَن يُنسَوا عادة هم المساكين من خصوم هؤلاء، الذين يلعبون في مستويات متوسطة ومتواضعة طوال العام، ثم فجأة يحملون آمال الملايين من أبناء شعوبهم على أكتافهم، ويصبحون مطالبين بإيقاف النجوم الكبار أو التسجيل في مرماهم، واستخراج إنجاز ما من 3 أو 4 مباريات يلعبونها مرة كل 4 سنوات(6).
هذا هو سحر كرة المنتخبات ولعنتها في الوقت ذاته، إنها تصنع أبطالا كل كأس عالم، ولكنها تصنع الكثير من الضحايا كذلك، والأمر ذاته ينطبق على المدربين، الذين يجدون أنفسهم محمّلين بالإرث التاريخي والاجتماعي والسياسي لبلد المنتخب الذي يدربونه، في مواجهة جماهير تبحث عن الفرحة، وتطمع في أكبر نجاح ممكن، وتشعر بأن المفاجأة ستكون من نصيبها.
"الميزة" الثالثة أنهم يحتاجون لإنجاز كل ذلك في فترة قصيرة لا تكفي للاستعداد قبل بداية البطولة، وصلت مثلا في النسخة الحالية إلى أسبوع واحد قبل المباراة الافتتاحية، استهلكه اللاعبون في التعافي من آثار السفر وإرهاق الأسبوع الأخير المزدحم من الدوريات، ثم بدأت البطولة وبدأ استكشاف الحلول التكتيكية معها، لا قبلها.
4-4-2 المملة

كل هذا يجتمع معا ليجعل كرة قدم المنتخبات "اللعبة الأخرى المختلفة" كما وصفها مارش، لأن الضغوطات وأدوار خروج المغلوب وضيق الوقت والأعباء الجماهيرية تؤثر على الجميع، وتزيد من فرص الأحداث العشوائية والأخطاء الفردية، ومن ثَم يصبح رد الفعل البديهي هو المزيد من التحفظ، والكثير من الانتهازية.
في مونديال قطر، تترجم ذلك إلى شيوع الـ4-4-2 المسطحة في مراحل الضغط، مُدمجة مع كتلة متوسطة أو منخفضة. محمد زيدان، المحلل المصري الذي يرأس أحد فرق التحليل التكتيكي لمباريات المونديال، يعتقد أن هذا هو أكثر رسم واجهه في كل المباريات التي عمل عليها، خطان من 4 لاعبين منتشرين بعرض الملعب، مع ثنائي هجومي يتأرجح كالبندول بين لاعب الارتكاز الرئيس وقلبَي الدفاع.
رغم أن المنتخب السعودي لم يكن مملا إطلاقا في أي مباراة لعبها، إلا أن تلك الـ4-4-2 كانت سلاحه المفضل في الدفاع بكتلة متوسطة أمام الأرجنتين، يظهر هنا الثنائي الأمامي في سلمان الفرج والشهري، أمام خطين من 4 لاعبين، يتولى أحدهم الضغط على أحد مدافعي القلب، بينما يتولى الثاني رقابة لاعب الارتكاز، وعندما تتحرك الكرة للجهة المعاكسة يتبادلان الأدوار(7)(8).

نظرة سريعة لباقي لاعبي الأرجنتين وستدرك أن السعودية كانت تحتفظ بزيادة عددية في الخلف بلاعب واحد فقط هو المالكي، ببساطة لأن استخدام الشهري والفرج بهذه الطريقة يجعلهم قادرين على الضغط على 3 لاعبين، روميرو وأوتامندي وباريديس، باستخدام لاعبين اثنين فقط: الفرج والشهري.
السنغال والإكوادور وكرواتيا وبولندا والأوروجواي والمغرب وغيرهم الكثير من المنتخبات، بما فيها الأرجنتين ذاتها في المباريات الأخيرة، استخدموا الفكرة ذاتها أو تنويعاتها، وهذا هو ما دفع أغلب خصومهم للمبالغة في وقت التحضير في الثلث الأول بحثا عن خيارات تمرير آمنة، لا تحول أي من المدافعين لكبش فداء عقب المباراة.
النتيجة أن الضغوطات كانت تشل الجميع في كثير من المواقف، في حدث كهذا لا أحد يريد أن يكون صاحب التمريرة الخاطئة، أو الخروج الخاطئ، أو المراوغة المستهترة التي أدت لمرتدة. النتيجة أن الكرة كانت تقضي أكثر وقتها بين أقدام المدافعين المتحسبين للأخطاء، وبشكل عام، تغلّب الخوف من الفشل على الرغبة في النجاح.
في آخر تقاريره الإحصائية التكتيكية الممتعة، أخبرنا "جون مولر" أن اللاعبين في كأس العالم لم يعودوا يحملون الكرة للمسافات ذاتها، وأن عدد الياردات التي يقطعونها والكرة في أقدامهم يتراجع تدريجيا منذ مونديال 1966 حتى وصوله لنصف قيمته في 2018(9). ونحن نود أن نضيف إلى ذلك أن الكم ليس هو المشكلة الوحيدة، بل الكيف أيضا، أغلب هذه المسافات -على قِلّتها- صار يقطعها مدافعو قلب في ثلثهم الأول بلا ضغط تقريبا، عوضا عن صناع لعب مهرة وأجنحة سريعة في عمق الملعب وعلى الخط. يمكنك أن تربط كل ذلك بالتطور التكنولوجي بسهولة، لأن منصات التواصل أصبحت تتغذى على اللقطات الفاشلة أكثر من أي شيء آخر، وتستخدمها لاغتيال اللاعبين معنويا بسهولة وضمير مستريح. الرغبة في المخاطرة بشكل عام تتراجع إلى حد غير مسبوق.
شكرا على ثقتك الغالية

خروجا من التفاصيل إلى الصورة الكبيرة، وبمراجعة سريعة لأداء المنتخبات التاريخية في المونديال، ستكتشف سريعا أن الأولوية الأولى كانت للدفاع بالطريقة ذاتها، الهدف الأول في المباراة ليس تمهيدا لاكتساح الخصم مهما بلغ ضعفه ومهما كانت الفوارق، بل هو مجرد وسيلة للعودة إلى الخلف، وقضاء أطول وقت ممكن من المباراة في هذه الحالة الآمنة من الركود التكتيكي.
كان هذا نهج البرازيل مثلا في أغلب المباريات باستثناء مباراة كوريا في دور الـ16، ونهج هولندا كلما لاحت الفرصة، وبالأخص أمام منتخب أميركي ديناميكي شاب في الدور ذاته، وكذا الأرجنتين فيما تلا دور المجموعات، ولم يخالف تلك القاعدة سوى الإنجليز والألمان والإسبان، وكلهم خرجوا تواليا(10).
لكن الحالة الأكثر استفزازا على الإطلاق كانت -كالعادة- ما قدمه "ديدييه ديشان" رفقة الديوك، أو ما لم يقدمه بالأحرى، نحن نتحدث عن فريق اكتسحته الإصابات اكتساحا قبل البطولة وفي جولاتها الأولى، ليفقد كلّا من بوغبا وكانتي، ثنائي محوره الأساسي في 2018، ونكونكو، أحد أفضل صانعي الألعاب في أوروبا حاليا، وبنزيما، الحاصل على الكرة الذهبية عن 2022، ثم تبع كل ذلك إصابة كل من بافار ولوكاس هرنانديز في أولى المباريات، ورغم ذلك كان ما يمتلكه من زاد بشري كفيلا باستبدال كل هؤلاء بآخرين على المستوى نفسه دون تأثر فني حقيقي.
لكن هذا المنتخب المرعب على مستوى الأسماء كان شديد الانتهازية على مستوى الأداء، فرنسا دافعت أمام الجميع تقريبا باستثناء أستراليا في دور المجموعات، بما في ذلك المغرب في نصف النهائي، وهو ما حوّل أغلب مبارياتها، باستثناء مواجهة إنجلترا، إلى عملية حسابية محسومة مسبقا، تضيف للركود التكتيكي الذي غلب على البطولة.
كان الأمر مجرد مسألة وقت حتى يدرك الخصوم البائسون أن الوقوف أمام مهارات وسرعات الثلاثي الهجومي شبه مستحيل، وفي اللحظة التي يتعافون فيها من صدمة الهدف الأول، يفاجئهم ديشان بالعودة لمناطقه وانتظارهم حتى يضربهم بالمرتدات، في وقاحة تكتيكية غير مسبوقة، إن جاز التعبير.
بين شوطي نهائي كأس العالم 2018، تحدّث ديدييه ديشامب للاعبيه قائلاً:
🗣️"العبوا بأسلوبٍ بسيطٍ قدر الإمكان، العبوها لكيليان"شكل فرنسا #FRA في الشوط الثاني أمام إنجلترا #ENG وكأنه يُعيدنا لذلك الحديث؛ ديشامب يقف آملاً بأن يُحدث مبابي شيئاً pic.twitter.com/Jb8ByBatJ1
— نَص تكتيكي (@tactext) December 10, 2022
تخيل نفسك أحد مدافعي بولندا أو الدنمارك أو المغرب أثناء مرحلة التحضير في نصف ملعبك، تفكر في التمرير لأحد لاعبي الوسط بين الخطوط، وتحاول حساب الزاوية المناسبة وقوة التمريرة وسرعتها، قبل أن تدرك أن الخطأ سيعني مواجهة ديمبيليه ومبابي في المساحات الشاسعة التي أُجبرت على تركها لأن ديشان قرر التراجع. هذا لا يحتاج إلى مدافعين ذوي جودة استثنائية فحسب، بل أعصاب من حديد كذلك.
المفارقة هنا أن فرنسا ذاتها تمتلك 80% من هؤلاء المدافعين في أوروبا تقريبا، وخطها الخلفي الحالي، رغم الإصابات، هو الأسرع والأقوى والأفضل فنيا في البطولة، وبفارق شاسع عن أقرب ملاحقيه. المفارقة أن فرنسا تمتلك السُّمّ والترياق، ولا يبدو أن أحدا سيقدر على إيقافها في المستقبل القريب.
هذا ليس شيئا يدعو للحسرة بالطبع، ففي النهاية، بذلت فرنسا جهدا ضخما في محاولة الاستفادة من المهاجرين الموهوبين من الأجيال المختلفة، وفي النهاية، يحق لديشان أو غيره أن يلعب بالطريقة التي يراها مناسبة لإمكانيات لاعبيه، حتى لو لم تعجب البعض أو توافق مزاجهم، لكن ما يدعو إلى الحسرة فعلا هو أن تلك "الإمكانيات" البشرية الهائلة كان بإمكانها أن تقدم ما هو أكثر بكثير. في الواقع، لا نعتقد أن هناك دولة واحدة في تاريخ اللعبة امتلكت هذا الكم من المواهب، بهذه الأعمار وهذا التواصل بين الأجيال، وبهذا التنوع في الخصائص، وهذه الوفرة، في كل المراكز تقريبا. ما يدعو إلى الحسرة فعلا هو أنه لو كان هناك أمل لكي يفرز لنا كأس العالم منتخبا يلعب مثل كبار الأندية، كرة متطورة وحديثة ومنظمة ومثيرة، فلم يكن هناك مُرشَّح بقوة فرنسا.
المشكلة تتجاوز فرنسا ذاتها أو ديدييه ديشان وتفضيلاته، لأنها ببساطة تضرب مثلا سيئا لكل منتخبات العالم، فإن كان الأقوى يتظاهر بالضعف، ويخشى المخاطرة، ويتجنب المواجهة، ولا يمانع ضرب خصومه بالأسلحة النووية من السماء، فما عسى الباقون أن يفعلوا؟
______________________________________
المصادر:
- جيسي مارش:"هذا الفريق الشاب للولايات المتحدة يدفعني للحلم!" – The Athletic
- من هو جيسي مارش مدرب ليدز الجديد؟ – Goal
- خمسة أنماط تكتيكية نتوقع رؤيتها في كأس العالم 2022 – The Athletic
- مشاعر ميسي والأرجنتين المحتدمة قد تقلل من حظوظهم في النهاية – The Athletic
- على جيسي مارش أن يحارب الأنماط الدارجة عن المدربين الأميركيين في ليدز..وليس معركة الهبوط وحسب – The Guardian
- جيسي مارش يتحدث عن بوب برادلي وبرشلونة وحياة الضغط العالي – MLS Soccer
- كيف سبب خد دفاع السعودية العالي صدمة لمنتخب الأرجنتين؟ – Total Football Analysis
- الأرجنتين 1-2 السعودية؛ واحدة من أكبر الصدمات في تاريخ كأس العالم! – The Analyst
- منذ 1966 وحتى الآن..كيف تطورت كرة كأس العالم؟ – The Athletic
- ما الذي نتعلمه تكتيكيًا من كأس العالم 2022؟ – US Soccer Players