كيف جعلت قطر تجربة المشجعين هي الأفضل في كأس العالم؟
بصفتنا متابعين لكرة القدم، لطالما غمرتنا اللعبة بالعديد من المشاعر، تلك التي لا نقوى في كثير من الأحيان على أن نجد وصفا مناسبا لها. ولكن على اختلاف المشاعر التي تثيرها فينا، يكاد عشاق اللعبة يتفقون على وصف واحد لها، وهو أنها "المتنفس"، أو الملاذ الذي يلجؤون إليه للترويح عن أنفسهم، وربما هذا ما يجعلها اللعبة الشعبية الأولى عالميا.
ربما هذا أيضا ما يدفعنا لانتظار حدثها الأكبر من النسخة إلى النسخة، وهذا ليس مجازا بالمناسبة، فما إن تنتهي إحدى نسخ المونديال حتى نشرع في الحديث عن النسخة القادمة وكيف ستكون، وسرعان ما يجول بخاطرنا جميعا السؤال ذاته: "هل حقا سننتظر أربع سنوات أخرى؟". لطالما كان للمونديال مكانة خاصة، وحتى أولئك الذين لم يعودوا بشغف الطفولة والشباب ذاته لمتابعة أحداث اللعبة، يظل كأس العالم هو الرابط الوثيق الذي يُعيدهم إلى ذكريات الماضي والشغف ذاته.
ربما تكون المقدمة أعلاه ضرورية للتذكير بإحدى أهم الحقائق؛ وهي ببساطة أن مشجعي كرة القدم هُم صلب تلك اللعبة، وركيزتها الأكثر أهمية، وعندما يتعلق الأمر بالحدث الكروي الأضخم، الذي يقطع مئات الآلاف من الناس الأميال من أجله، فلا بد أن يحظى مشجعو اللعبة بالتجربة الأفضل، وهذا ما يسعى إليه دائما البلد المستضيف لهذا الحدث، ولكن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي السفن.
عناء الرحلة الأولى لن يكون الأخير
تبدأ الصعوبات التي يواجهها المشجعون من عناء الرحلة الطويلة والمرهقة عادة إلى البلد المُضيف، لكنها لا تقف عندها. فعلى مدار تاريخ كأس العالم لم تكن تلك الرحلة الأولى إلا بداية لسلسلة من التنقلات داخل البلد المُستضيف، وحتى لا يكون الكلام مُرسلا وبلا شواهد، دعنا نأخذ بعض الأمثلة من النسخ السابقة للبطولة.
في مونديال روسيا 2018، قطع المنتخب المصري مسافة 11775 كيلومترا خلال مبارياته الثلاثة في دور المجموعات، أي ما يُعادل 165 ساعة بالقطار، أو 20 ساعة بالطائرة. هذا يعني أن الجالية المصرية التي ذهبت لمشاهدة مباريات المنتخب المصري في البطولة اضطرت للسفر بما يعادل 20 ساعة بالطائرة لمؤازرة المنتخب المصري خلال رحلته في دور المجموعات من البطولة. (1)
ربما كان للمشجعين المصريين النصيب الأكبر من المسافة المقطوعة لمؤازرة منتخب الفراعنة، لكنهم لم يكونوا الوحيدين في معاناة السفر تلك، فهناك 10 بلدان أخرى اضطر مشجعوها لقطع ما يزيد على 8000 كم لمتابعة مباريات فِرَقهم في دور المجموعات فقط. كولومبيا، التي كانت أقل المنتخبات قطعا للمسافات بين المدن، قد قطعت مسافة بلغت 1158 ميلا، فيما يُقدر بـ26 ساعة بالسيارة، و3 ساعات بالطائرة. (1)
لم يختلف الوضع كثيرا في نسخة البرازيل 2014، حيث قطع مشجعو 13 منتخبا مسافة تزيد على 3000 كيلومتر خلال البطولة، 6 منهم قطعوا أكثر من 4000 كم، و3 قطعوا أكثر من 5000 كم، لمتابعة منتخبات بلادهم، ما دفع محافظ العاصمة السابقة ريو دي جانيرو للتصريح بأن اختيارهم لـ12 مدينة لاستضافة البطولة كان خطأ جسيما.
في جنوب أفريقيا 2010 لم يكن الوضع بتلك الصعوبة في الحقيقة، لكن هناك بعض المنتخبات، إضافة إلى مشجعيها أيضا بالضرورة، قطعوا مسافات ليست بالقليلة، فمنتخبات كفرنسا وألمانيا وإنجلترا قطعت قرابة 2000 كم أو أكثر خلال دور المجموعات فقط. (2)(14)
بوضع كل ما ذكرناه في الاعتبار؛ نظن أنك الآن قد أدركت المغزى من حديثنا، فالعيب الأكبر في الدول المستضيفة سابقا هو المساحة الكبيرة وما يترتب عليها من تبعات، وهو ما يجعل صغر المساحة الميزة الأكبر لدى قطر بوصفها بلدا مستضيفا. استضافة قطر للبطولة هي فرصة ذهبية ربما تحدث مرة واحدة في العمر، هذا لأن البطولة تُقام في 8 ملاعب مونديالية فقط، وهذا أقل عدد ممكن منذ مونديال 1978 بالأرجنتين، والأهم أن البطولة تُقام بالكامل في أربع مُدن قطرية فقط وهي الخور والوكرة والريان والدوحة، وكلها على مسافات قريبة من بعضها. (3)
الحقيقة أن أكبر مسافة ممكنة بين أبعد ملعبين (الجنوب والبيت) تبلغ 65 كيلومترا فقط، ما يعني أن الحد الأقصى من المسافات التي ستقطعها منتخبات مونديال قطر في دور المجموعات لن يتعدى 200 كيلومتر! ببساطة شديدة تلك هي النسخة الأكثر تقاربا بين المدن المستضيفة في 92 عاما من تاريخ البطولة. (4)
فكِّر في الأمر قليلا؛ أنت الآن لم تعد بحاجة إلى السفر آلاف الكيلومترات داخل البلد المُستضيف لمؤازرة منتخب بلادك، وبالتالي لن توفّر هنا عناء السفر فقط، وإنما ستوفّرعلى نفسك أيضا الكثير من الأموال التي كنت ستنفقها في رحلات الطيران المختلفة من مدينة إلى أخرى، كذلك لم تعد بحاجة إلى تغيير مكان إقامتك أثناء البطولة وحتى نهايتها.
مباراتان في يوم واحد
يزداد هذا الأمر أهمية حين نتذكر أن كأس العالم هو حدث يجمع 32 منتخبا مختلفا من صفوة منتخبات العالم أجمع، ولذلك فإن العديد من الزوار لم يأتوا إلى هنا فقط لتشجيع منتخبات بلادهم -ربما يكون هذا هو الدافع الرئيسي- لكنهم أتوا أيضا لمشاهدة باقي المنتخبات المتنافسة على البطولة، بالإضافة للزوار من الدول المختلفة التي لن تخوض منتخباتها البطولة لكنهم أتوا لخوض التجربة المونديالية، وليعيشوا متعة مشاهدة أكبر قدر ممكن من المباريات من مدرجات الملاعب، وهؤلاء يعنيهم في المقام الأول سهولة التنقل بين مختلف ملاعب البطولة.
تلك نقطة أخرى تضمنها لك بسهولة الطبيعة الجغرافية لقطر، فالذهاب إلى أيٍّ من الملاعب المونديالية لن يصبح صعبا أينما كان محل إقامتك أثناء المونديال، والأهم أنك تملك الفرصة الآن لمتابعة مباراتين في اليوم المونديالي ذاته، ربما أكثر من ذلك حتى لولا سياسة الفيفا بتحديد مباراتين كحد أقصى للجميع في اليوم الواحد، مع أربع ساعات على الأقل بين صافرة بداية المباراتين، ولكن لا يزال الأمر مُثيرا للاهتمام حتى مع تلك القواعد، فمتابعة مباراتين في اليوم ذاته كان مستحيلا في روسيا والبرازيل، وممكنا ولكن بصعوبة في أغلب الأحيان في النسخ السابقة الأخرى. (3)
لا يقتصر الأمر على قُرب المسافات فقط، حيث يعلم الجميع أن قطر طوَّرت بنيتها التحتية تطويرا واسعا منذ اللحظة التي أعلنت فيها الفيفا استضافتها للبطولة، وبالطبع كان لمشروعات النقل والمواصلات حصة ليست بالقليلة من هذا الاهتمام. أحد أهم المشروعات الخاصة بوزارة النقل كان مشروع الطرق السريعة الذي ركز على تطوير شبكات الطرق في البلاد، فبين عامي 2010-2017 تم تنفيذ ما مجموعه 35 مخططا للطرق والأنفاق والتقاطعات الرئيسية والفرعية. (5)
الأهم من ذلك هو الاهتمام الكبير الذي انصب على تطوير أسطول النقل العام، الذي تولّته شركة "مواصلات" تحت إشراف وزارة النقل القطرية، حيث أعلن خالد ناصر الهيل، الرئيس التنفيذي لشركة مواصلات منذ عام 2015، عن خطة تهدف إلى زيادة عدد حافلات نقل الركاب بـ150-200 حافلة سنويا حتى نهائيات كأس العالم 2022، وهو ما حدث بالفعل، فبين عامي 2016-2020 ازداد عدد حافلات النقل العام من 250 حافلة إلى 1000 حافلة، وازدادت أيضا أعداد سيارات الأجرة لتصل إلى 7000 سيارة.
لم يتوقف الأمر هنا، حيث اشترت وزارة النقل 3000 حافلة أخرى خصوصا من أجل نهائيات كأس العالم، وهو ما يعني توافر 4000 حافلة مخصصة لنقل الركاب من مكان إلى آخر أثناء نهائيات كأس العالم. (5)(6)
قبل المونديال كذلك أطلقت هيئة الأشغال العامة "أشغال" مركزا جديدا لإدارة الطرق في محاولة لضمان انسياب حركة المرور خلال البطولة، حيث يعمل القسم الجديد بشكل وثيق مع مركز مراقبة حركة المرور المؤقتة (TTCC) لمراقبة تحركات المرور والاستجابة بسرعة لأي تغييرات في خطط الطرق طوال البطولة. (7)
ولتسهيل الحركة المرورية بشكل أكبر، ركَّبت السلطات كاميرات "CCTV" المتطورة المقدمة من شركة "هايسنس" (Hisense) الرائدة في مجال النقل الذكي لأكثر من 20 عاما، تلك الكاميرات من شأنها مراقبة حركة المرور عند التقاطعات وعلى الطرق المزدحمة بشكل فعال، بالإضافة إلى وجود لافتات المرور الإلكترونية في جميع أنحاء البلاد. (7)(8)
نمُر من الطرق والحافلات والزحام المروري إلى المشروع الأبرز على الإطلاق؛ المترو، الذي يُعَدُّ أحد أكثر مشروعات البنية التحتية إنفاقا بميزانية وصلت إلى 36 مليار دولار، وافتُتح عام 2019 بعد أن بُنِيَ بالكامل في 6 سنوات فقط. ووفقا لشبكة "سي إن إن" الأميركية فهو أحد أكثر أنظمة المترو تقدما في العالم.
يمتد مترو الدوحة لمسافة 76 كيلومترا و38 محطة مختلفة تغطي كل مدن البطولة، كما أن 5 من ملاعب المونديال الثمانية متصلة مباشرة بشبكة المترو، أما البقية فيُمكن الوصول إليها بمزيج من خدمات المترو والحافلات، ولكي تكتمل الأخبار الجيدة، فإن وسائل النقل العام (المترو والحافلات) مجانية تماما أثناء المونديال، فكل مَن يحمل بطاقة هيا يستطيع التنقل بواسطة المواصلات العامة مجانا، بالإضافة إلى أن الحصول على بطاقة هيا لا يتطلب أي مصروفات إضافية. (9)(10)(11)(12)
في قلب الحدث
"خلال مرحلة التخطيط، كان طموحنا هو تسهيل الرحلات من وإلى الملاعب وأماكن الإقامة وغيرها من المواقع. وأرى أننا نسير على الطريق الصحيح لتحقيق أهدافنا، سيكون المشجعون دائما في قلب الحدث خلال قطر 2022".
(ثاني الزراع، مدير إدارة عمليات النقل في اللجنة العليا للمشاريع والإرث) (11)
على مدار سنوات، تعهد المسؤولون القطريون بتقديم تجربة استثنائية لمشجعي كأس العالم، واليوم مع اقتراب البطولة من نهايتها يحق لنا أن نتساءل: هل نجحت قطر حقا في مخططاتها ووفَّت بتعهداتها؟ للإجابة عن هذا التساؤل نحتاج إلى شهود عيان من قلب الحدث.
كيفين باكستر، الصحفي بجريدة "لوس أنجلوس تايمز" (Los Angeles Times)، حكى تجربته الخاصة مع الحدث. كيفين خطط لحضور مباراتَيْ ألمانيا ضد اليابان في تمام الساعة الرابعة ثم كندا وبلجيكا في تمام الساعة العاشرة، المباراة الأولى في ملعب خليفة الدولي الذي يبعد عن مكان إقامته بضع دقائق، والثانية في ملعب أحمد بن علي الذي يبعد عن الأول مسافة 12 ميلا تقريبا. بعد نهاية المباراة الأولى، خرج كيفين من ملعب خليفة وكان هناك العديد من الحافلات الخاصة بالصحافة لنقلهم إلى ملعب المباراة القادمة أسرع قليلا من المترو، لكن كيفين قرر أن يتصرف كواحد من الجماهير العادية وتوجه إلى محطة المترو. (13)
استطاع كيفين أن يصل إلى مقعده داخل ملعب أحمد بن علي دون عناء، وقبل ساعة كاملة من انطلاق المباراة، بعد أن استغرق 42 دقيقة للانتقال من ملعب خليفة الدولي إلى مول قطر الموجود بجوار ملعب أحمد بن علي، ثم 30 دقيقة سيرا من مول قطر نحو مدخل الصحافة والإعلام بالملعب. كيفين وصف تجربته الكاملة في النهاية بهذه العبارة: "لقد كان يوما من 14 ساعة شاهدت خلالها أربعة فِرَق، وملعبين، وركلتين من ركلات الجزاء، وأربعة أهداف، وركبت قطارين. كانت التجربة سهلة وسلسة تماما كما وعد القطريون". (13)
شاهد العيان الثاني معنا هو عادل كُريّم، المحلل بموقع زاوية الشرق الأوسط الذي عمل سابقا على مدار أكثر من 10 أعوام في عدة مناصب داخل أروقة الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (CAF)، أبرزها منسق إعلامي للعديد من البطولات والمحافل الأفريقية. يؤكد "كُريّم" في حديثه لميدان قدرة المواصلات العامة على استيعاب أعداد الحضور المهولة للحدث المونديالي دون مشكلات، وهذا يعود إلى عدد الحافلات الكبير كما ذكرنا سابقا، كما أشار إلى قدرة الجهات المسؤولة على احتواء الزحام المروري وتسيير الطرق بسلاسة وتنظيم، تماما كما وعدوا قبل البطولة. ربما يجعل هذا التنظيم بعض المسارات أطول قليلا، لكنه في المقابل يمنع حدوث أي تكدس أو ازدحام مروري إلا فيما ندر.
حتى وقت كتابة هذا التقرير حضر "كُريّم" 23 مباراة في البطولة، بمعنى أنه حضر مباراتين في كل أيام دور المجموعات ما عدا يوم واحد فقط حضر فيه مباراة واحدة، كما أن كل المباريات التي حضرها كان يفصلها زمنيا مباراة واحدة فقط، أي إما مباراة الساعة الواحدة ومباراة الساعة السابعة، وإما مباراة الساعة الرابعة ومباراة الساعة العاشرة، كان ذلك باستثناء يوم مونديالي واحد فقط حضر فيه مباريات الساعة الواحدة والعاشرة، وهو يؤكد أنه كان يصل إلى ملعب المباراة الثانية قبل انطلاقها بساعة أو ساعة و15 دقيقة، وفي أسوأ الظروف الممكنة قبل صافرة البداية بـ45 دقيقة كاملة.
لم تخلُ الأمور من صعوبات بطبيعة الحال؛ حيث ينوه إلى أن بعض الملاعب، مثل ملعب البيت وملعب الجنوب، تبعد بعض الشيء عن محطات المترو، كما أن الحافلات مسموح بوجودها حتى نقطة معينة فقط لمنع الزحام أمام الملاعب، وهو ما يعني الاضطرار للسير بعض الوقت حتى الملعب، الأمر الذي قد لا يحبّذه البعض.
الشاهد الثالث معنا من قلب الحدث هو الصحفي المصري أحمد ناصر حجازي، المحرر بصحيفة "إندبندنت العربية" (Independent Arabia)، والصحفي والمحرر السابق بالعديد من المواقع المصرية والعربية، الذي لم يُخفِ إعجابه بتجربته الخاصة مع المونديال، مؤكدا أن "كل شيء قد خُطط له بدقة لا متناهية، دون هفوات تُذكر". تكاد الشهادات تكون متطابقة في هذا الصدد بين المشجعين، وهو ما يجعلنا نظن أن نسخة كأس العالم قطر 2022 هي إحدى تلك النسخ المونديالية النادرة على مستوى تجربة المشجعين.
———————————————————————-
المصادر:
1- المسافات التي قطعتها المنتخبات في مونديال روسيا 2018 – Indiatimes
2- المسافات التي قطعتها المنتخبات في مونديال البرازيل 2014 – braziltheguide
3- المباريات التي يمكن حضورها في اليوم نفسه في كأس العالم الحالي – Bolavip
4- مونديال قطر.. نصف الكوب الممتلئ والهجمة الأوروبية – ميدان
5- مشاريع النقل الكبرى استعدادا لكأس العالم 2022 في قطر – oxfordbusinessgroup
6- قطر تختبر أسطول حافلات ضخم قبل كأس العالم – arabnews
7- كيف ستسهل قطر من حركة المرور خلال كأس العالم؟ – Dohanews
8- تضمن تكنولوجيا هايسنس حركة مرور سلسة خلال نهائيات كأس العالم – prnewswire
9- ما تم بناؤه لاستضافة كأس العالم قطر 2022 – Skynews
10-The gleaming metro system built under the desert
11- أحدث أنظمة النقل في قطر 2022 – FIFA
12- بطاقة هيا، كيفية التقديم والمستندات المطلوبة – Dohaguides
14- كأس العالم في قطر، أصغر دولة تستضيف الحدث – Wall Street Journal