ما لم يقله إيتو وما لم يفعله صلاح.. لماذا نخترع ونصدق الشائعات؟
في صباح يوم كأي يوم من أيام الأسبوع، يستيقظ أحدهم من سُباته العميق ويبدأ يومه بفحص حسابه على فيسبوك، فيكتشف أن صفحته التي كانت تحمل تفاعلا ضخما لم تعد تجذب الجمهور كالسابق، فخوارزميات مارك زوكربيرغ قد فعلت فعلتها المُعتادة معه، ولم تعد منشورات الصفحة تصل إلا إلى نسبة ضئيلة جدا من متابعيها، وهنا يصبح صاحبنا في حيرة من أمره، كيف يتصرَّف في هذا الموقف الصعب؟
صاحبنا طالب فيسبوكي نجيب، فهذه مشكلة كبيرة للبعض لكنها بالنسبة له مجرد لعبة أطفال قادر على تجاوزها بكل سهولة، فهو يملك أساليبه الخاصة في التحايل، لكنه لن يتحايل على خوارزميات فيسبوك هنا، بل على النفس البشرية!
نعلم أنها عبارة مفاجئة بعض الشيء، فصاحبنا مجرد مدير صفحة ذات قدرة وصول بائسة على فيسبوك، ولكن هذه هي الحقيقة؛ الرجل يملك سلاحا يستطيع أن يتحايل به على جمهور الصفحة، على عقولهم ورغباتهم، وتحيُّزاتهم وعواطفهم، وهذا سيُمكِّنه من استعادة وصول صفحته باللعب على تلك الأوتار الحساسة.
السلاح السري
لنكن صادقين، هذا السلاح ليس سريا في الحقيقة، وليس سحريا أيضا، لكن مفعوله أشبه بالسحر. الأمر بسيط ولن يستغرق سوى بضع ثوانٍ من التفكير. التفكير في ماذا؟ فقط خبر مفبرك من وحي خيال صديقنا صاحب الذكاء المُتَّقِد، يُنشر على فيسبوك على أنه خبر عاجل وساخن، وقل ما شئت فيه حتى تجذب أنظار الجميع.
"عاااااااااااجل من ليكيب الفرنسية: ميسي لن يجدد مع باريس سان جيرمان!"
بالتأكيد قد صادفت هذا الخبر على إحدى صفحات منصات التواصل الكتالونية خلال الأسابيع القليلة الماضية، لكن مع القليل فقط من البحث ستكتشف أن الخبر مُحرَّف تماما عما قالته "ليكيب". ما فعله صاحب الخبر هو أنه حذف فقط بعض الكلمات من الخبر الأصلي، لكنه كان ذكيا بما يكفي في اختيار تلك الكلمات. الخبر الأصلي كان يقول إن ميسي لا يفكر في تجديد عقده مع باريس سان جيرمان حتى نهاية كأس العالم قطر 2022، أما الخبر المُحرَّف فكان يؤكد أن ميسي "لن" يجدد عقده مع باريس، وشتان ما بين الخبر الأصلي والخبر المُحرَّف الذي جُرِّد من سياقه لجني التفاعلات!
لا مشكلة بالنسبة لصاحبنا المُحتال في نشر خبر مُحرَّف كهذا، ولا مشكلة لديه أيضا في أن يكذب على لسان صحيفة بحجم "ليكيب" الفرنسية، بل إنه فعل ذلك متعمدا لإعطاء هرائه لمسة من المصداقية الزائفة، لكن لا بأس في كل ذلك، المهم هنا هو الحصول على نقرات الإعجاب التي تغذي غروره وتُشعره بالنشوة المطلوبة!
أكاد من فرط الدوبامين أذوب!
"إنها دورة مكافأة؛ جرعة عالية من الدوبامين تسري في جسدك في كل مرة تحصل فيها على إعجاب أو ردة فعل إيجابية على وسائل التواصل الاجتماعي". هكذا وصفت الدكتور إيما كيني، الباحثة في علم النفس، هذه العملية. (1)
تُصدِّق العديد من الدراسات على كلمات دكتور إيما. على سبيل المثال، في دراسة نُشرت عام 2016 بعنوان "قوة الإعجاب في مرحلة المراهقة"، وجد الباحثون أن بعض المراكز الحسِّية في الدماغ، التي تنشط عند أكل الشوكولاتة، أو ربح بعض المال، تنشط أيضا عندما يحصل الشخص على إعجابات على وسائل التواصل الاجتماعي. (2)
يمكنك أن تسأل نفسك سؤالا بسيطا الآن؛ لماذا تريد أن تأكل المزيد من الشوكولاتة من حين إلى آخر؟ أو لماذا تريد أن تحصل على المزيد من المال؟ والإجابة هي أن الجسم يريد الحصول على هذه الجرعة من الدوبامين دائما، وكلما تحصَّل عليها احتاج إلى المزيد والمزيد للشعور بالقدر نفسه من السعادة.
هي دورة لا تنتهي إذن، ومشكلتها لا تكمن فقط في احتياج الشخص إلى تكرار الفعل الذي منحه ذلك الشعور بالمتعة، ولكن في أن تكرار الفعل نفسه بالقدر نفسه لا يؤدي إلى الشعور السابق ذاته مع مرور الوقت، حيث إن المبالغة في تحفيز مركز المكافأة في أدمغتنا يجعلها غير قادرة على التعامل مع الكميات المهولة المُفرزة من الدوبامين. ما ردة فعل أدمغتنا في هذه الحالة؟ هناك طريقتان: إما خفض إنتاج الدوبامين، وإما تقليل عدد مُستقبلات الدوبامين، وفي كلتا الحالتين النتيجة واحدة؛ استجابة أقل من مركز المكافأة، وصعوبة في الوصول إلى النشوة ذاتها، وبالتبعية الاحتياج إلى جرعة أكبر. هذا هو تعريف الإدمان بالمناسبة! (12)
مَن منا لا يسعى إلى التقدير؟
فيسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي هي مجرد مثال على سعي الإنسان إلى التصديق على أقواله وأفعاله من الآخرين. هذا السعي للتصديق هو جزء من سعي الإنسان للتقدير عموما، الذي هو أحد تلك الاحتياجات الأساسية الموجودة بهرم ماسلو الشهير للاحتياجات الآدمية. (3)
لنفترض أن هناك طالبا في إحدى المراحل الدراسية حصل على نتيجة سيئة في أحد الفصول الدراسية، لكنه زوَّر هذه النتيجة حتى لا يعلم والداه ورفع درجاته، ونتيجة لذلك حصل على مكافأة بسبب تفوقه الدراسي. ما فعله هنا هذا الطالب هو أنه حاول الحصول على التقدير من والديه، وهو أمر محمود في جوهره، لكن الطريقة التي تحصَّل بها على هذا التقدير، أي الكذب والتزوير، مذمومة، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية.
لنَعُد إلى صاحبنا الذي أرهقته خوارزميات فيسبوك التي لا ترحم أحدا. حسنا، ضع نفسك في موقفه؛ لا أحد يريد أن يفقد هذا التفاعل الضخم، أليس كذلك؟ هل نسيت جرعات الدوبامين؟ وتلك الرغبة في الحصول على المزيد والمزيد؟
السعي للحصول على الإعجابات ليس سيئا في المُطلق، فأي شخص يُقدِّم محتوى مرئيا أو مكتوبا أو مسموعا يبحث عن الانتشار وتقدير محتواه من مستخدمي شبكات التواصل المختلفة، ولا ضير في ذلك، لكن صاحبنا استخدم الإستراتيجية المذمومة للحصول على هذا التقدير، تماما كما كذب الطالب على والديه!
هذا الأمر يُسمَّى في علم النفس بـ"رؤية النفق" (Tunnel vision)، ومن تسميته يتضح معناه. لا بأس في أن يسعى الإنسان إلى تحقيق هدف معين، لكن تكمن المشكلة عندما يضع هذا الهدف "فقط" نصب عينيه لكي يصل إليه، "إلى نهاية النفق"، دون الاهتمام باعتبارات أخرى مهمة في طريقه إلى نهاية النفق أو "تحقيق الهدف". اعتبارات كالعواطف والأخلاقيات أو المصداقية والشفافية تصبح بلا قيمة ما دمنا سنصل إلى الهدف المنشود؛ نشوة الإعجابات والوصول. (4)
إيتو نصير القارة السمراء
قبل أشهر من الآن، وبالتحديد قبل انطلاق بطولة كأس الأمم الأفريقية بالكاميرون في بداية العام، انتشرت العديد من التصريحات لصامويل إيتو رئيس الاتحاد الكاميروني لكرة القدم، وبالتأكيد قابلك أحد تلك التصريحات، التي -للمصادفة البحتة طبعا- كانت تسير في اتجاه واحد فقط، وهو الإعلاء من شأن الأفارقة والقارة السمراء ومحاربة العنصرية البيضاء الأوروبية، ولكن مرة أخرى، مع القليل من البحث، نجد أن إيتو لم يقل شيئا من ذلك، وأنه لا يوجد أي مصدر حقيقي لهذه التصريحات.
للمفارقة، وبعد أن تحوَّل صامويل إيتو إلى بطل شعبي بسبب تصريحات كاذبة لم يقلها، يتحوَّل بين عشية وضحاها إلى المنبوذ الأكبر داخل القارة، وللسبب ذاته أيضا. المرة الأولى، ورَّطه أحدهم في تصريحات بطولية لم يقلها، فنصَّبته الجموع العريضة بطلا لروايتها، وفي المرة الثانية، ورّطه آخرون في تصريحات عدائية ضد المنتخب الجزائري والإيفواري والمصري باختلاف السياقات فقط، والحقيقة أن الثابت الوحيد في هذه المعادلة المتشابكة هو الكذب، فإيتو لم يستحق أن يُمدح على ما لم يقله، ولا أن يُذم على ما لم يقله!
المثالان أعلاه لميسي وصامويل إيتو هما فقط غيض من فيض الشائعات اليومية، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا؛ لماذا نُصدِّق الأخبار الكاذبة بسهولة بالغة؟ ولماذا تنتشر الشائعات بهذه السرعة وبهذا الصدى الواسع؟ قبل أن نجيبك عن تلك الأسئلة سنقصُّ عليك قصة صغيرة، اطمئن، لن نخرج عن السياق.
شاب كوستاريكي يُدعى جيمس مكدينييل ويعمل لدى شركة تغذية أميركية، قرَّر أن ينشئ موقعا للأخبار، ولكنه مختلف قليلا؛ الموقع عبارة عن خليط من الأخبار الكاذبة التي يرى جيمس أن من الغباء والسذاجة أن يُصدِّقها أحد، لدرجة أنه قال في حوار مع موقع "بوليتي فاكت" (Politifact) إن الأمر لم يكن بالنسبة له سوى مشروع جانبي للضحك. (5)
هدف جيمس كان معرفة إلى أي مدى يمكن أن يكون مستخدمو الإنترنت سُذَّجا، ويؤسفنا أن نخبرك أن سذاجتهم فاقت حتى توقعات جيمس نفسه، فبعد أسبوعين فقط من إنشاء الموقع، قرأ أكثر من مليون شخص ما كتبه جيمس من روايات ساذجة ونشروها بدرجة كبيرة على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، وكلما استمر جيمس في نشر السخافات، استمر في حصد المشاهدات والمشاركات وزاد عدد متابعي وقُرّاء الموقع!
دعنا نُجِب عن الأسئلة الآن؛ هل صدَّق قُرّاء موقع جيمس الأخبار الكاذبة بسهولة فقط لأنهم سُذَّج؟ في الواقع، ليس بالضبط، هم ليسوا سُذَّجا في المطلق، المسألة ليست مسألة سذاجة. حسنا؛ لنأخذ جولة بسيطة في طريقة عمل الدماغ البشري علَّنا نفهم ماهية الأمر.
يميل هؤلاء الأشخاص إلى تصديق تلك الأخبار نتيجة لسمة من سِمَات التفكير البشري، التي تُعرف بـ"التحيُّز المعرفي" (Cognitive bias)، حيث يميل العديد من البشر إلى الانحياز إلى معلومات بعينها دون محاولة التأكد منها، وبالأخص إن كانت تلك المعلومات تخدم قناعات أو معتقدات سابقة لديهم، أو حتى تمنيّات بحدوث أمر ما، وهو تحيُّز آخر يندرج تحت أنواع التحيُّزات المعرفية، ويُعرف بـ"التحيُّز التأكيدي" (Confirmation bias). (6)(7)
لهذا فإن مشجعي البارسا مثلا معرَّضون بشدة لتصديق تلك الشائعة التي تقضي بأن ميسي لن يجدد عقده مع باريس سان جيرمان، هذا لأنهم يريدون ذلك ويتمنَّونه، يريدون رؤية ميسي بقميص البارسا مجددا. للسبب ذاته أيضا فإننا نحن الأفارقة معرضون لتصديق كل التصريحات المفبركة، ليس فقط على لسان إيتو، ولكن لأي لاعب أو شخصية عامة يحاول الانتصار لقضايا القارة الأفريقية. يبدو أن هناك تساؤلا آخر يطرح نفسه الآن، ألا وهو؛ لماذا تملك أدمغتنا هذا النوع من التحيُّزات؟
كلهم على خطأ
تسعى أدمغتنا إلى الانحياز لتصديق بعض المعلومات المُستقبَلة دون تحليل أو تدقيق، ببساطة لأن هذا يجعل حياتنا أسهل، أو لأن أدمغتنا ترى أن الطاقة التي ستُبذل في تحليل بعض المعلومات يمكن توفيرها لعمليات أكثر تعقيدا وأكثر أهمية. أدمغتنا تبحث عن مصلحتنا في واقع الأمر، لكنها أيضا وبشكل غير متعمد تتسبب في تضليلنا! (7)
أحد الأسباب الكبرى كذلك التي تؤدي إلى تصديق الشائعات دون التحرّي عنها هو ذلك الميل البشري للسير مع الجماعة، فمثلا؛ زيادة عدد الأشخاص المتفاعلين مع منشور ما على فيسبوك يزيد من احتمالية تصديقنا لما هو مكتوب في المنشور، وعدد الأشخاص الذين أعادوا مشاركة المنشور يجعلنا أكثر عُرضة لمشاركته أيضا دون التحقق من صحة ما فيه. لماذا؟ كل هؤلاء الأشخاص قاموا بمشاركته، بالطبع أحدهم تحقق من صحته… نأسف على هذا الخبر السيئ، لكن الحقيقة أن أحدا لم يتحقق من الأمر، وأن كلهم على خطأ. (7)
الميل للسير مع الجماعة يجعلنا نُعجَب بما يُعجَب به الآخرون، ونُشارك ما يُشاركه الآخرون، وما هو أسوأ من ذلك هو أننا نريد أن نظهر بصورة جيدة أمام الغالبية. بالطبع هذا ليس سيئا، لكن ما نفعله لنبدو كذلك هو السوء بعينه. إحدى الدراسات وجدت أن مبرر بعض الأشخاص لمشاركتهم بعض المعلومات هو الرغبة في ادعاء المعرفة. هل هناك ما هو أسوأ من ذلك؟ نعم في الحقيقة، حيث إن بعض هؤلاء الأشخاص سعوا إلى تبرير مشاركتهم لمعلومات لم يقرؤوها حتى! (7)
وإذا كنت تعتقد أن هذه حادثة منفردة أو أن هؤلاء أقلّية، فأنت مُخطئ للغاية. لنُثبت لك ذلك، دعنا نقص عليك ما فعله مجموعة من علماء الحاسوب بجامعة كولومبيا والمعهد الوطني الفرنسي، حيث قاموا بمراجعة 2.8 مليون من المقالات الإخبارية التي شاركها أو أعاد تغريدها مستخدمو تويتر، وجد الباحثون أنه في أكثر من نصف تلك الحالات قام المستخدمون بالمشاركة دون النقر على الرابط الذي ينقلهم إلى المقال، أو بلغة أوضح؛ لم يقرؤوا ما قاموا بمشاركته، فقط العناوين. (13)(7)
المشكلة في تلك الحالة ليست في ناشر الخبر أو ناشر التقارير، لأنه في الحقيقة لم يكذب، أو على الأقل لم يكذب كليا، هو فقط كتب عنوانا حارا ليجذب انتباهك للنقر على الرابط وقراءة المقال، وهذه هي وظيفته ببساطة. لقد رمى الكرة بملعبك، لكنك لم تقرأ المقال وأخذت منه العنوان على أنه الخبر الكامل، دون معرفة باقي فصول القصة.
مع التكرار، يتحول الخبر برُمَّته إلى مجرد عنوان، وهو في الحقيقة لا شيء دون باقي التفاصيل، وفي بعض الأحيان، نكتشف أن العنوان ذاته كان مزحة ثقيلة الظل لا أكثر، ويمكنك أن تسأل واين روني عن ذلك.
في يناير/كانون الثاني من عام 2017، نُشرت قصة ساخرة عن واين روني على إحدى مجموعات فيسبوك التي تضم أكثر من 550 ألف عضو من مناصري مانشستر يونايتد. القصة أنشأها أحد المواقع الساخرة اسمه "Soccer on Saturday"، وكل مَن قاموا بفتح القصة لم يجدوا سوى بعض النكات عن السياسة الصينية، وقَصَّة شعر واين روني، والكثير من التفاهات التي لا فائدة منها. (8)
المشكلة أن المنشور الأصلي للقصة على فيسبوك كان يحتوي على رابط بعنوان "واين روني يوقع لشانغهاي الصيني وسيتقاضى 700,000 باوند أسبوعيا"، ومُرفق مع هذا العنوان صورة رديئة التركيب على فوتوشوب. لا توجد سجلات توضِّح نسبة الأشخاص الذين ضغطوا على الرابط من إجمالي مَن شاهدوا المنشور بالمجموعة، لكن على الأرجح فإن الغالبية لم تُلقِ بالا سوى للعنوان. (8)
بعدها ببضعة أيام، ومع انتشار الخبر أكثر فأكثر، ووصوله إلى بعض الصحف الكبرى أبرزها "ذا صن" (9)، خرج رئيس مجموعة شانغهاي التي تملك ناديين بدوري الدرجة الأولى الصيني ليُدلي بتصريح ينفي من خلاله تماما أي ارتباط بين واين روني والفريق خلال سوق الانتقالات، وأن كل التقارير التي ذكرت ذلك عارية تماما من الصحة، ومن وحي خيال أصحابها.
صدى الصوت
نعلم ما يدور بذهنك الآن؛ ألا يمكن لشخص واحد فقط توضيح كل هذا الهراء؟ أو تصحيح تلك الأخبار الكاذبة؟ حسنا، إن قلنا لك لا يوجد فلن نَصدُقَك القول، ولكن أيضا إن قلنا لك إن هذا سيغير شيئا، فلن نَصدُقَك القول كذلك. ماذا يعني ذلك؟
يعني أنه حتى في وجود بعض الأشخاص الذين يحاولون تصحيح تلك الأخبار الكاذبة، فإن محاولاتهم تذهب سدى، مهما فعلوا، تماما كأنك تصرخ في مجموعة من الصُّم!
هل تذكر صديقنا جيمس؟ صاحب موقع الأخبار الساذجة التي لن يصدقها أحد؟ نعم هو بعينه. بعد فترة وضع ملحوظة أسفل صفحة الويب الخاصة بالموقع يُوضِّح فيها أن ما يكتبه هو من نسج خياله وقد يكون أخبارا كاذبة، ويمكنك أن تخمن ماذا حدث؛ حفنة قليلة من القُرّاء أخذوا من وقتهم ليسألوه ما إن كانت القصص التي يرويها حقيقية أم لا، وبعضهم سبّه على أخباره الكاذبة، أما الغالبية العظمى فلم يهتموا بما كتبه جيمس من الأساس واستمروا في تقبُّلهم ونشرهم لما يكتبه!
فكِّر قليلا في الأمر؛ حتى يومنا هذا ميسي لا يزال يُرى من عدد كبير من متابعي اللعبة بالوطن العربي على أنه صهيوني متآمر على فلسطين المحتلة بسبب صورته الشهيرة أمام حائط البراق، وبسبب خبر كاذب من صحيفة ساخرة، انتشر كالنار في الهشيم، عن تبرعه لدولة الاحتلال الصهيوني بمليون دولار قبل سنوات من الآن، لا يزال البعض حتى الآن يُصدِّق هذا الهراء؛ حتى بعد أن نفى ميسي -صاحب الشأن- الخبر بنفسه، أو بالأحرى، حتى بعد أن اتضح للجميع أنه ببساطة هراء!
لتفسير ذلك، تؤكد إيميلي ثورسن، البروفيسور في علم النفس من جامعة بوسطن (Boston college) أنه في حالة الأخبار أو المعلومات الكاذبة عادة ما يكون هناك ما عرَّفته بأصداء المُعتقد (Belief echoes)، وهي ما يحدث عندما يتذكر الإنسان الأخبار الكاذبة على أنها صحيحة، حتى إذا تبيَّن له فيما بعد أنها خاطئة. المعلومات الخاطئة تترسَّخ في أدمغتنا بشكل يُصعِّب من مهمة إزالتها، ومهما حاولت تصحيحها بالمعلومة الصحيحة فلن يُجدِي ذلك نفعا. (7)
بالإضافة إلى ذلك، فعادة ما يميل الأشخاص إلى المبالغة في قدرتهم على توقُّع صدق أو كذب خبر ما، ويعتقدون أنهم قادرون على اكتشاف صحة الأخبار من عدمها باستخدام حدسهم فقط لا غير، في حين أن هذا قد لا يكون صحيحا، وما هو في الحقيقة إلا غرور النفس البشرية التي تميل دائما إلى تصديق ذاتها أكثر من أي شيء آخر. الأشخاص الذين يحاولون تصحيح الأخبار الكاذبة لا يملكون ذلك التأثير الكبير، ببساطة لأننا، وبشكل مُتعالٍ، نظن أننا لسنا في حاجة إليهم. (7)
"هل سنُكذِّب غارديان وذا صن ونُصدِّقك أنت؟"
يصبح الأمر أسوأ عندما تصل الشائعة إلى أكبر المواقع التي يثق الناس في مصداقيتها، فعلى الأرجح لن يعطوا أي اهتمام لمَن يحاول توضيح كذب الخبر، والرد بسيط: مَن أنت لنصدِّقك ونكذِّب المنصات العالمية؟ المفاجأة الكبرى -أو تلك التي لا نراها مفاجأة في الحقيقة- هي أنه حتى المنصات الكتابية المرموقة ذات السمعة الكبيرة في الأوساط العالمية ليست معصومة من نشر أخبار كاذبة.
في دراسة قام بها مجموعة من العلماء من جامعة إشبيلية وكذلك من المعهد اللوثري بسانتا كاتارينا البرازيلية ونُشرت في أكتوبر/تشرين الأول عام 2021، حاول الباحثون معرفة مدى موثوقية أربع صحف كبرى، وهي الغارديان البريطانية (The Guardian)، ولاغازيتا الإيطالية (La Gazzetta) وماركا (Marca) الإسبانية، وآبولا البرتغالية (A Pola)، من خلال دراسة المحتوى الذي نُشر عليها في فترة الانتقالات الشتوية 2020. إحدى نتائج الدراسة فيما يتعلق بشائعات الانتقالات وجدت أنه من ضمن 225 شائعة نُشرت على حسابات تويتر وعلى المواقع الرسمية لهذه الصحف، هناك 97 شائعة فقط حدثت بالفعل فيما بعد، أي إن نسبة 57% منها كانت ببساطة أخبارا مزيفة. (10)
الحقيقة هي أنه حتى أكثر الصحف موثوقية واعتمادية ترتكب بعض الأخطاء وتنشر بعض الأخبار الكاذبة التي لا صحة لها. مثال واين روني و"ذا صن" هو مثال واحد فقط من عدة أمثلة لأخبار لا يوجد أي مصدر حقيقي لها، ورغم ذلك نُشرت على كبرى المنصات.
لنخبرك بمثال أخير؛ قبل أشهر من الآن نشرت صحيفة "ميرور" (The mirror) البريطانية خبرا نقلا عن وسائل إعلام مصرية يُفيد بتبرع النجم المصري محمد صلاح بثلاثة ملايين جنيه مصري لترميم كنيسة أبو سيفين بعد الحادث الأليم الذي لحق بها، وهو أمر تبيَّن أنه لم يحدث، ونفاه النائب المصري عماد خليل، لتقوم ميرور فيما بعد بتعديل الخطأ والعنوان وبعض النقاط أيضا في نَص التقرير. (11)
في النهاية، نحن نشعر بك، ونعلم أن من المستحيل أن يقضي الإنسان على تحيُّزاته المعرفية مهما حاول، لكن على الأقل يمكنه أن يتحكم بها قليلا، وأن يتعامل معها بذكاء وبقليل من الحِرَفيّة للسيطرة على الوضع، تماما كما يفعل موظفو خدمة العملاء مع هؤلاء المُستشيطين غضبا.
عندما تتعرَّض لخبر ما، فقط فكِّر قليلا في مدى صحته، دقيقة واحدة أو حتى بضع ثوانٍ قد تفي بالغرض، وإن لم تتأكد تماما من الخبر فعلى الأقل لا تُساهم في نشره للعامة، وتأكد دائما أنك جزء من المعادلة، تلك المعادلة التي تتكوَّن من خلالها الصورة الكبرى، فإن استقامت أقسام المعادلة، صحَّت الصورة التي يراها الجميع.
________________________________________
المصادر:
- الشيء الغريب الذي يحدث في عقلك عندما تحصل على إعجاب على مواقع التواصل
- Social Media ‘Likes’ Impact Teens’ Brains and Behavior
- التفسير النفسي وراء سعينا للتصديق، ولماذا نحن بحاجة إليه
- أربعة عشر دافعا مختلفا يدفع الأشخاص الجيدين لفعل أشياء سيئة
- موقع أخبار كاذبة بدأ كمزحة حتى وصل لمليون مشاهدة في أسبوعين
- ما التحيُّز التأكيدي؟
- لماذا نقع ضحايا للشائعات؟
- روني إلى الصين؟ التأثير الحقيقي للأخبار الكروية الكاذبة
- ‘Rooney to China’?: The real impact of fake football news
- مصفوفة المعلومات الكروية المضللة، دراسة أخبار نافذة الانتقالات الشتوية للعام 2020 لأربع صحف أوروبية مختلفة
- خبرتبرع محمد صلاح لضحايا كنيسة أبو سيفين
- الدوبامين والإدمان، الفصل بين الحقائق والخرافات
- Marijuana Contains "Alien DNA" From Outside Of Our Solar System, NASA Confirms