شعار قسم ميدان

إسبانيا وألمانيا.. رجال إنريكي الأحرار

منذ لحظة إعلان القرعة، حظيت مباراة إسبانيا وألمانيا بنصيب الأسد من التوقعات، والآن بعد ساعات من نهاية المباراة، لا يزال الأدرينالين حاضرا. استحقت المباراة كل لحظة من الاهتمام والمتابعة، لأنها لم تكن قط مباراة بين منتخبين، بل بين ناديين، نظرا لجودة الأداء الجماعي ومستوى تنظيم الفريقين مقارنة بسائر فِرَق البطولة.

بالنسبة لبعض المتابعين، كانت تلك مباراة غافي وموسيالا، وللبعض الآخر هي مباراة كيميتش وبيدري، ولمَن أنهكتهم اللعبة فالمباراة كانت بين أقدام كلٍّ من بوسكيتس وغوندوغان، لكن بعد نهاية المواجهة، يمكننا بسهولة وصفها بأنها كانت رقعة شطرنج بين لويس إنريكي وهانزي فليك، ومن الصعب جدا حصر كل تفاصيلها، لكن يمكننا رصد بعض أفكارها الرئيسية.

صورة: تشكيلة الفريقين في المباراة الأخيرة – المصدر: سوفاسكور

بدأ المنتخبان اللقاء بالرسم المعتاد بدون تغييرات جوهرية؛ 4-3-3 لإسبانيا، مقابل 4-2-3-1 للمنتخب الألماني، ولأن ذلك لا يعني شيئا على الإطلاق، دعونا نقفز سريعا إلى مجريات اللقاء، وتحديدا من جانب إسبانيا، حيث كان التحدي فيما إذا كانت قادرة على الاستمرار في فرض هيمنتها ضد خصم بمستوى ألمانيا أم لا.

بوغاتي بلا آلات دفع

يعلم المتابع الجيد للمنتخب الإسباني أن سيرجيو بوسكيتس هو المحرك الرئيسي لتلك الماكينة، وهو ما أكَّده هانزي فليك مدرب ألمانيا في المؤتمر الصحفي قبل المباراة، حيث أكد أن خصمه وجد التوليفة المثالية في وسط الملعب بوجود غافي وبيدري للتقدم ودفع الفريق للأمام ومن خلفهما بوسكيتس في عملية إدارة وتنظيم اللعب، ولذلك فإنه حاول عزل الأخير ابتداء من الدقيقة الأولى.

دخلت ألمانيا اللقاء بالضغط العالي في مناطق إسبانيا، توماس مولر عليه أن يضغط بشكل مائل على المدافع حامل الكرة لحصر اللعب في جهة واحدة، على أن يتولى غوندوغان مهمة مراقبة بوسكيتس، في حين يراقب كيميتش بيدري، مع إغلاق الجناح الأيمن غنابري زوايا التمرير الداخلية، وتوجيه اللعب للطرف باتجاه جوردي ألبا.

بعد قراءة لابورت للمشهد، حاول المدافع الإسباني الأيسر التقدم بالكرة لدعوة غنابري للضغط، لتفريغ جوردي ألبا تماما، بينما قام بيدري في الوقت نفسه بالنزول سريعا لسحب كيميتش بعيدا عن مسار اللعب التالي باتجاه الجناح "داني أولمو".

يتمركز ألبا على ارتفاع منخفض، ويحاول بيدري سحب كيميتش، كما يتحرك أسينسيو عموديا لسحب قلبَيْ الدفاع بعيدا، كل ذلك من أجل تفريغ أكبر مساحة ممكنة لداني أولمو، للاستلام بأريحية في موقف 1 على 1 ومهاجمة الظهير "كيرير"، حصل أولمو على الكرة لكنه فشل في المرور من الظهير الألماني في أولى المحاولات.

بسبب الرقابة الدائمة لبوسكيتس وبيدري، استخدم لويس إنريكي مهاجمه ماركو أسينسيو لخلق التفوق العددي اللازم للخروج بالكرة من الثلث الأول، بسقوط أسينسيو لذلك الحد، لم يستطع المدافع "زوله" اتباعه خوفا من ترك موقعه في العمق واستغلاله من أجنحة إسبانيا متمثلين في فيران توريس وداني أولمو. بمجرد وصول الكرة إلى أسينسيو، أصبح بيدري حرا بعدما تركه كيميتش وذهب للضغط على زميله المهاجم.

لذا كان على غوندوغان أن يترك بوسكيتس ويذهب سريعا للضغط على بيدري، ولأن ذلك حصل قبل وصول توماس مولر لمراقبة بوسكيتس، استطاع الرُّبان الوصول إلى أسينسيو بعدما تحرك للمساحة الشاغرة خلف الضغط الأول، ومن أسينسيو إلى كارفخال، نجح الفريق في التقدم وتخطي الضغط.

بعد ذلك، أتى دور الجناح "فيران توريس" في استكمال عملية التقدم، لكنه فشل في ذلك، بعدما طلب الكرة في قدمه، بوضعية جسدية غير سليمة جعلت مروره من الظهير "دافيد روم" عملية مستحيلة، كان القرار الأنسب لتوريس أن يطلب الكرة في المساحة خلف الظهير، لكن لم يستطع قراءة الموقف بشكل سليم، وبذلك نجحت إسبانيا في تخطي ضغط الخصم والتقدم، لكنها اصطدمت في النهاية بتواضع إمكانيات الأجنحة التي لم تنجح في دفع الفريق للأمام.

دعك من المراوغة.. ما رأيك في الوصول؟

من خلال تتبع مخطط ضغط المنتخب الألماني، لا يجب أن نستبعد أن ذلك تقريبا ما أراده هانزي فليك، أي تسهيل وصول الكرة إلى أجنحة إسبانيا، من خلال إغلاق العمق وتوجيه اللعب للأطراف، هناك حيث يسهل التعامل مع أضعف حلقات الخصم، لكن لويس إنريكي بدا جاهزا لذلك السيناريو من خلال تغيير الديناميكية ومحاولة استخدام الأجنحة بشكل آخر.

هنا نشاهد استمرار الألمان بالإستراتيجية نفسها في الضغط المتوسط؛ توجيه اللعب باستخدام الضغط المائل من المهاجم، ورقابة بوسكيتس ولاعب الوسط المجاور في جهة الكرة باستخدام صانع اللعب وأحد لاعبي الارتكاز، على أن يقوم الارتكاز المجاور بالترحيل لحماية العمق.

بعد تقدم لابورت بالكرة، لم يستطع ماركو أسينسيو النزول لطلب الكرة بسبب الرقابة المزدوجة من قلبَيْ دفاع المنتخب الألماني، لذلك غيَّر لابورت قراره سريعا ومرَّر لزميله رودري بعدما قام بتفريغ المساحة له تماما من خلال سحب مولر.

بمجرد وصول الكرة إلى رودري، خرج غوندوغان للضغط عليه، بعدما قام بتسليم مهام رقابة بوسكيتس لتوماس مولر، الذي عوَّضه سريعا فور خروجه للضغط، وبما أن الكرة مع المدافع الأيمن، يجب أن يكون "غافي" مراقبا من غوريتسكا، على أن يقوم كيميتش بالترحيل لحماية العُمق، وهنا أعاد رودري تدوير الكرة لزميله إيمريك لابورت.

بمجرد وصول الكرة إلى لابورت، بدأ داني أولمو بالدخول خطوات إلى الداخل، وصعد جوردي ألبا ليأخذ موقعه على الطرف لتثبيت كيرير، بينما عاد بيدري خطوات إلى الخلف بشكل قُطْري مكان ألبا لشغل غنابري، كل ذلك لماذا؟ للوصول إلى الرجل "الحر" في ذلك الموقف وهو "داني أولمو" قبل عودة كيميتش إلى موقعه.

بمجرد استلام أولمو للكرة وتبادل التمرير مع جوردي ألبا، نجحت الكتيبة الإسبانية في ثوانٍ معدودة في سحب 8 لاعبين من المنتخب الألماني على الجهة اليُسرى، كما وضع بطء التغطية من موسيالا زميله الظهير الأيسر "روم" في معضلة؛ إما الخروج لغافي وترك فيران توريس على الطرف، وإما البقاء في موقعه والسماح لغافي بالاستلام في العُمق.

قرر أولمو سريعا لعب القُطْرية لفيران على الجانب المقابل، وبمجرد خروج دافيد روم لمقابلته، هاجم بابلو غافي المساحة خلفه، لكن تمريرة فيران توريس للخارج أحبطت الأمر برُمَّته!

استمر رجال لويس إنريكي في مسايرة هيكل ضغط المنتخب الألماني، من خلال تحريك الكرة في المناطق "المسموح بها" على الأطراف، لا للاختراق من هناك ولكن لتحريك الخصم. بسبب تمركز غافي، سُحب موسيالا كثيرا للداخل، واستغل كارفخال المساحة على الطرف للتقدم، وبمجرد وصول الكرة إلى الظهير المخضرم، بدأ غافي بالتحرك عموديا لسحب غوريتسكا، من أجل فتح زاوية تمرير في العُمق لماركو أسينسيو، الذي توجه لمساندة زميله بشكل قُطْري، في حين أُجبر "زوله" على تركه والبقاء في مكانه خوفا من استدراجه خارج مناطقه.

لذلك ترك كيميتش موقعه واندفع سريعا للضغط على أسينسيو، لكنه وصل متأخرا حيث مرر ماركو سريعا لبوسكيتس، الذي وجد بيدري حرا بعدما تركه كيميتش.

لم يستغل المنتخب الإسباني تلك الأفضلية بالشكل الأمثل، بسبب تأخر داني أولمو في القطع للداخل ومهاجمة المساحة خلف الظهير كيرير، إذ لم يجد بيدري زملاءه في المواقع المناسبة خاصة بعد نزول أسينسيو للمساندة، وأُحبطت العملية مرة أخرى.

استسلم بوسكيتس شكليا لمهام الرقابة، لكنه ضمنيا عمل دائما على منع غوندوغان من اعتراض زوايا تمرير رودري، ومع سحب غافي لغوريتسكا على الطرف، تم تنشيط أسينسيو من جديد لممارسة عاداته في المساندة خاصة عندما يأتي بشكل قُطْري، وفور شعوره بضغط روديغير، مرَّر من اللمسة الأولى لإيمريك لابورت.

بمجرد استلام لابورت للكرة، بدأ ألبا وأولمو بتبديل مراكزهم بالتزامن مع تطرف بيدري، وذلك لصنع التفوق العددي 2 على 1 على الظهير الأيمن كيرير، الذي لم يعد قادرا على تحديد مهام الرقابة بوضوح خاصة مع تأخر كيميتش في الترحيل، ومع تحرك أسينسيو للجانب النشط من جديد، وقع زوله في مشكلة كيرير نفسها، حيث حاول الخروج لأسينسيو ومنعه من الاستلام بين الخطوط، في الوقت الذي بدأ به داني أولمو في القطع في ظهر المدافعين بين كيرير وزوله.

أرسل لابورت تمريرة بينية مثالية إلى أولمو، لكن مع تأخر فيران في الوصول إلى المنطقة، حاول داني ترويض الكرة ومراوغة زوله مستغلا سرعة ارتداده، لكن الأخير استطاع تدارك الأمر وإخراج الكرة، ومرة أُخرى يجد الإسبان الحل لكن دون فاعلية، لا بسبب "صلابة" الدفاع الألماني ولكن بسبب محدودية أجنحة الفريق في قراءة مواقف اللعب بشكل سليم، وذلك تحديدا ما أضر بالفريق على مستوى الحسم وحرمه من الفاعلية المطلوبة.

بل مهاجم صريح

قبل بداية المونديال بأيام، سُئل لويس إنريكي عن سبب استخدام مهاجميه في دور المهاجم "الوهمي"، لكن لوتشو رفض ذلك التفسير تماما، موضحا بأنه دائما ما استخدم مهاجميه بشكل صريح، لكنه يحاول الاستفادة من خصائص اللاعبين المختلفة لتنويع الأساليب الهجومية للفريق حسب متطلبات المباراة وخصائص الخصم.

ضد ألمانيا، لم يستطع لويس إنريكي الإبقاء على فيران توريس لـ10 دقائق في الشوط الثاني بعد شوط أول مُخيب، واستبدله على وجه السرعة لصالح ألفارو موراتا، على أن يعود أسينسيو للطرف الأيمن، بينما يلعب موراتا في العمق مهاجما للفريق، وبالمقارنة مع بقية مهاجمي المنتخب، يستطيع موراتا مهاجمة المساحات في ظهر المدافعين أفضل من غيره، كما أنه يوفر للفريق وجودا منتظما داخل منطقة الجزاء.

في الدقيقة 61 قام غوندوغان بإحدى الخطايا المنهجية، عندما تكاسل عن رقابة بوسكيتس وقت خروج الفريق من مناطقه لبدء الضغط على لاعبي إسبانيا، في تلك الأثناء، أخذ بيدري خطوات للخلف لسحب غنابري باتجاهه من أجل تحرير داني أولمو للاستلام بين الخطوط، ومع صعود جوردي ألبا المتزامن، لم يستطع كيرير مواجهة أولمو وفضَّل تأخير التداخل أملا في عودة غنابري سريعا للمساندة.

مرَّر داني أولمو لألبا سريعا قبل عودة غنابري، وهنا قام موراتا بما نزل لأجله؛ الوجود في المكان السليم في الوقت المناسب لاستغلال فرص الفريق، حيث قام بسرقة زوله على القائم القريب، ليُحوِّل عرضية ألبا إلى شباك مانويل نوير بحرفية شديدة، ويترجم تفوق الفريق أخيرا على مستوى النتيجة، بعد إخفاق الشوط الأول، قبل أن تعود ألمانيا بالنتيجة في النهاية بعد تمريرة ضالة من لابورت.

أمام ألمانيا، فعلت إسبانيا كل شيء في مراحل اللعب المختلفة بالكرة وبدونها، لكنها لم تنجح في حسم المباراة، بسبب افتقاد الفريق لأجنحة قادرة على تهديد الخصم بشكل منتظم وقتل المباريات، وذلك ما يورط الفريق في خوض مباريات أطول من غيره كما حدث في اليورو الأخير. أمام خصم أقوى، ربما لن تفوز إسبانيا على الرغم من قوة وشمولية المنظومة، بسبب غياب آلات الدفع التي تأخذ الفريق للأمام وتُكمِّل أداء المجموعة.

أكَّدت مباراة الأمس مرة أخرى براعة لويس إنريكي، وقدرته على "فك" المباريات، والتعامل الصبور مع النماذج المضادة وأساليب الخصوم، من خلال خلق وإيجاد اللاعب الحر دائما خلف خطوط الخصم، وتحرير فريقه من مباراة إلى أخرى، ولو أننا تأملنا قليلا، ونظرنا بشمولية للصورة الكلية، لاكتشفنا أن ذلك ما يفعله إنريكي دائما مع لاعبيه في المنتخب، حيث يحررهم دائما من ضغوطات أنديتهم وشكوى الجماهير.

بفضله، يظل بوسكيتس قائدا للمنتخب بينما يُدفع للرحيل في بارسا، ولا يختلف الحال كثيرا مع جوردي ألبا، وفيران توريس، وإيريك غارسيا، وليست مصادفة أن موراتا دائما ما يؤدي أفضل مبارياته بقميص المنتخب، ولا يجب أن ننسى رهانه على بابلو غافي وداني أولمو وأنسو فاتي وسارابيا ويريمي، والآن نحن بصدد الشهود على إعادة أسينسيو للحياة مرة أخرى، ليُكمل المجموعة التي لم يكن أحد ليراهن على نجاحهم، أو يُصدق أنهم قادرون على النمو معا بذلك الثبات وتلك القوة تحت راية واحدة.

المصدر : الجزيرة