شعار قسم ميدان

السعودية والأرجنتين.. هكذا يُصنع أبطال المستضعفين

يعلم جميعكم كيف تكون الروايات غالبا، البطل في مواجهة احتمالات لا يمكن التغلب عليها واقعيا، ولكن يفعلها بطريقة ما، يحاول ويثابر ويتحمل حتى يصل إلى مبتغاه، ونعلم جميعا المشهد النهائي الذي يُحمَلُ فيه البطل على الأعناق، ويُهتف باسمه مرارا وتكرارا.

ربما يحاجج أحدكم الآن بأننا نعيش على أرض الواقع، وليس في رواية خيالية مفتعلة الحبكة لتجعل البطل، أو المستضعف، يبدو بتلك القوة، لكننا نتحدث عن كرة القدم، نتحدث عن العالم الخيالي الفوضوي الذي لا يخضع للمنطق، والمدهش هنا أنه حقيقي، ولا حاجة فيه إلى حبكات مفتعلة لكي يصل بطلنا إلى مبتغاه.

بطل روايتنا اليوم هو هيرفي رينارد المدرب الفرنسي للمنتخب السعودي؛ الرجل الذي واجه احتمالات لا يمكن التغلب عليها واقعيا، وربما شخص غيره لن يخاطر ولن يخوض الصعاب للتغلب على تلك الاحتمالات، لكننا لن نجد أفضل من تصريحات عبد الإله المالكي، لاعب المنتخب السعودي، بعد المباراة، التي تحدث فيها عن مدى "جنون" مدربه. لِمَ لا نرى معا كيف كان مدرب الخضر مجنونا، على حد تعبير المالكي؟ (1)

هيرفي رينارد المدرب الفرنسي للمنتخب السعودي. (رويترز)

للدفاع وجوه أخرى

رأينا ما يحدث في مباريات كتلك من قبل؛ الخصم -الأقوى نظريا- يتحكم في مجريات اللعب، ويمتلك الكرة أغلب أوقات المباراة، ويصل إلى مرمى الفريق كثيرا، ويصنع الفرص الأخطر بالتبعية. كم كنا نود القول إن الأمر يختلف هنا، ولكن للواقع لمسته اللاذعة، فالأرجنتين أنهت المباراة ولديها 15 تسديدة، ومعدل 1.68 للأهداف المتوقعة بالإضافة إلى ركلة الجزاء التي احتُسبت في بداية المباراة. (2)

لكننا نود أن نقول لكم إن الأمر يختلف حقا في جوانب أخرى. عادة في مباريات كتلك تختار الفِرَق الأضعف أن تدافع في نصف ملعبها، بل في آخر 40 مترا في الملعب في العديد من الأحيان، وهنا لا نلوم أحدا على ذلك، بل فقط نريد أن نمنح رينارد ما يستحقه من الإشادة، لأنه اختار طريقة أكثر شجاعة لكي يلعب خلف الكرة. (3)

لجأ المدرب الفرنسي إلى دفاع الخط، الذي يصطف فيه المدافعون على خط واحد كآخر خطوط الدفاع أمام الحارس، ولجأ أيضا إلى رفع ذلك الخط تقريبا حتى دائرة المنتصف، ليلعب مباشرة على مصيدة التسلل، التي جعلت لاعبي الأرجنتين يقعون في مصيدة التسلل 10 مرات بوصفه أكثر فريق يفعل ذلك منذ تطبيق تقنية الفار في نسخة 2018. (3)

دفاع الخط الخاص بالمنتخب السعودي  (مواقع التواصل)

ظهر ذلك العديد من المرات في اختيار لاعبي الخضر لمرجعية الكرة عوضا عن ملاحقة لاعب الخصم الذي يتحرك في المساحة، وخاصة ياسر الشهراني، الذي تسبب في وقوع لاعبي الأرجنتين في التسلل 4 مرات في المباراة، وكان أكثر لاعبي السعودية قياما بذلك. كان الشهراني واعيا بشكل كبير لتحركات لاعبي الأرجنتين، واستهدافهم لدي ماريا لإيجاد مواقف بها تفوقات نوعية لجناح يوفنتوس، وقد رأينا ذلك في أكثر من مناسبة من كتيبة سكالوني في الشوطين. في الواقع، كان ذلك النمط الغالب تقريبا في إيصال الكرة إلى ثلث السعودية الأخير، لدرجة أن الفريق كان خجولا في تدرجه بالكرة من العمق أغلب أوقات اللقاء.

صورة: وضعية جسد الشهراني لإيقاع دي ماريا في مصيدة التسلل   (مواقع التواصل)
صورة: انتشار لاعبي الأرجنتين أثناء الحيازة  (مواقع التواصل)

لا نستطيع القول إن سكالوني لم يحاول التصرف حيال ذلك، فقد لجأ -على استحياء- إلى دفع ناهويل مولينا للمجاوزة (Overlap) مع دي ماريا لكي يصل إلى ثلث السعودية الأخير. أيضا عندما تأخر بالهدفين، وبعد التغييرات الثلاث التي قام بها دفعة واحدة في الدقيقة 59، أعطى سكالوني واجبات تقدمية بشكل أكبر للأظهرة، وغيَّر الرسم إلى شكل قريب من 4-2-3-1؛ حيث كان ألفاريز هو الجناح الأيمن وميسي هو الوسط المهاجم ولاوتارو مهاجما، وكان ألفاريز يتوغل للعمق أغلب الوقت بسبب مجاوزات تاليافيكو وأكونيا عندما استبدله.

صورة: تقدم مولينا للأمام لإيصال الكرة لثلث السعودية الأخير  (مواقع التواصل)
صورة: انتشار لاعبي الأرجنتين أثناء الحيازة بعد تبديلات سكالوني  (مواقع التواصل)

عبد الإله المالكي.. جندي رينارد المجهول

نعلم أن العنوان أعلاه مبتذل نوعا ما، من حيث ارتباط لاعبي الارتكاز بوجه عام بمقولة "الجندي المجهول"، ولكن عبد الإله المالكي استحق هذا اللقب عن جدارة، فلم يلحظ الكثيرون مدى أهمية الأدوار المركّبة التي كُلِّف بها في اللقاء.

كان عبد الإله منوطا خلال المباراة بدورين أساسيين خارج الحيازة، ولا يقل أحدهما أهمية عن الآخر؛ الأول يتعلق بالخصم، والثاني يتعلق بالزملاء. الفكرة الأساسية التي اعتمد عليها رينارد كانت غلق العمق ومحاولة توجيه اللعب للأطراف، ولكن هذه المهمة ليست بتلك السهولة في الحقيقة، لأن من الصعب جدا إغلاق مسارات التمرير العمودية دائما مع سير الكرة عرضيا، وهو ما سعى إليه لاعبو الأرجنتين، تمريرات عرضية لحين إيجاد دي ماريا في موقف تفوق نوعي. حسنا، ما دور عبد الإله هنا إذن؟

ما وُكِّل به عبد الإله كان ببساطة محاولة تتبع لاعبي الأرجنتين الذين يقومون بالتحرك بين الخطوط لاستلام التمريرات العمودية من لاعبي الخط الخلفي، فبالتالي حتى وإن فُتحت مسارات التمرير العمودية، فهناك لاعب متفطّن وواعٍ تماما لتحركات لاعبي الأرجنتين في هذه الفراغات بين الخطوط، وهو الدور الذي نجح فيه المالكي بشكل مميز خلال اللقاء.

صورة: تحرك عبد الإله المالكي مع لاوتارو مارتينيز أثناء الترحيل لمنعه من استلام الكرة بين الخطوط  (مواقع التواصل)

يتعلق الدور الثاني بالدور الأول؛ فمهما كانت درجة تفطن ووعي عبد الإله، فإنه لن يقوى على تغطية كل تلك المساحة عرضيا، وهنا يأتي دور المدافعين في عملية الاستباق، مع هبوط ميسي ولاوتارو مارتينيز في بعض الأحيان لاستلام تلك التمريرات العمودية، تعيّن على مدافعي الأخضر مصاحبتهم لمنعهم من الاستلام بأريحية، أو حتى منع زملائهم من التمرير لهم، ويظهر هنا تحديدا دور المالكي الثاني!

وُكِّل عبد الإله بالتغطية خلف المدافعين الذين يتركون مواقعهم لمحاولة الاستباق، فحتى لا يقوم لاعبو الخط الأمامي من الأرجنتين باستغلال تلك المساحات التي خلّفها خروج المدافعين، فسرعان ما كان المالكي يحل محلهم للتغطية وإعادة تكوين الرسم الرباعي للخط الخلفي، وبمجرد عودة قلوب الدفاع لتمركزاتهم كان المالكي يعود مرة أخرى للقيام بدوره الأساسي بين الخطوط.

صورة: استباق حسن التمبكتي مدافع السعودية مع لوتارو مارتينيز وتراجع عبد الإله لحل محله  (مواقع التواصل)
صورة: استباق علي البليهي مدافع السعودية مع لوتارو مارتينيز وتراجع عبد الإله لحل محله  (مواقع التواصل)

فن الدفاع أثناء الحيازة

يرى خوانما ليو، معلم بيب غوارديولا وصديقه ومساعده، أن التفريق بين الدفاع والهجوم ليس صحيحا، وأن كليهما مرتبطان ببعضهما؛ فعندما يمتلك الفريق الكرة فهو يحرم الخصم منها، بالتالي هذا وجه من أوجه الدفاع في حد ذاته، لأن الخصم لا يستطيع أن يهددك وهو لا يمتلك الكرة، ويقول يوهان كرويف في هذا الصدد:"هناك كرة واحدة، لذا يجب أن تمتلكها".

لكن امتلاك الكرة لا يعني بالضرورة أنها ستظل بحوزة الفريق طوال الوقت. ستكون هناك لحظات في اللقاء يضطر فيها الفريق للعب تحت الكرة، حتى وإن كانت ثواني معدودة، ولكن ما يعيد الاستحواذ للفريق هو مدى تحكمه في تلك الثواني المعدودة، أي في سرعة استعادته للكرة، وهنا يأتي دور الرقابة الوقائية، كما نرى في تلك اللقطة بالأسفل من مباراة مانشستر سيتي وبوروسيا دورتموند في دوري أبطال أوروبا هذا الموسم.

صورة: رقابة لاعبي السيتي وقائيا للاعبي دورتموند أثناء حيازة السيتي للكرة   (مواقع التواصل)

بالعودة إلى حديثنا عن السعودية والأرجنتين، فرينارد لم يكتفِ فقط بما كان يفعله تنظيميا وتكتيكيا، ولم يكتفِ أيضا بالأدوار المركبة التي كلَّف عبد الإله المالكي بها، بل كان يكلف مدافعيه، والمالكي أيضا في بعض الأحيان، برقابة خيارات التمرير للأرجنتين وقائيا، فكان لاوتارو مارتينيز وليونيل ميسي مُراقَبين وقائيا من مدافعي السعودية بالإضافة للمالكي كما ذكرنا في العديد من السياقات. ربما لم تطبق الرقابة بشكل صحيح أغلب الأوقات، لكن علينا أن نحترم الفكرة التي حاول رينارد تطبيقها هنا مرارا، خاصة عندما نعلم أنها ضايقت ميسي العديد من المرات.

صورة: رقابة علي البليهي وعبد الإله المالكي وقائيا لميسي ولاوتارو مارتينيز على الترتيب  (مواقع التواصل)
صورة: رقابة مدافعي السعودية وقائيا للاعبي الأرجنتين  (مواقع التواصل)

ما فاجأ سكالوني وميسي

غلب على تصريحات ميسي وسكالوني بعد المباراة نوع من أنواع المفاجأة أو الدهشة، وهذا منطقي بالطبع، لكن اللافت للانتباه هو أن المفاجأة لم تكن بسبب الهزيمة فحسب، بل كانت -على أغلب الظن- بسبب استقبال التعادل من الأساس، ربما لم يكن ذلك في حسبان أيهما قبل اللقاء. (4)

ربما ما لم يتوقعه أيٌّ منهما، أو ما لم يولياه الاهتمام الكافي، هو حقيقة أن المنتخب السعودي يمتلك أفضل معدل تحويل للفرص المحققة للتسجيل من بين جميع الفِرَق الآسيوية التي شاركت في تصفيات كأس العالم، التي وصلت إلى 41,2%، أي إن الحسم أمام المرمى من مزايا الفريق الرئيسية، خاصة عندما نعلم أن خصومهم سجلوا 14,3% من الفرص ذاتها أمامهم. (5)

أمر آخر ربما لم يتوقعه سكالوني هو انتشار لاعبي السعودية حول الكرة بالقدر الكافي الذي يجعلهم يفوزون بالعديد من الكرات الثانية، وكان هذا جليا في هدف تعادل صالح الشهري، الذي نتج من محاولة ناجحة للفوز بالكرة الثانية، قبل أن يقطعها لاعبو الأرجنتين، وتُفتَك الكرة من ميسي نتيجة استباق التمبكتي لمحاولة الفوز بالكرة، ومن ثم استرجاع الكرة الضالة من قِبل عبد الإله المالكي، قبل أن يمررها للأمام باتجاه الشهري ليسجل التعادل.

صورة: محاولة ناجحة لكسب الكرة الثانية من قبل لاعبي السعودية  (مواقع التواصل)
صورة: محاولة افتكاك ناجحة من أمام ميسي التي أدت إلى هدف التعادل للخضر   (مواقع التواصل)
صورة: انتشار لاعبي السعودية حول الكرة للفوز بالكرة الثانية  (مواقع التواصل)

ربما لا تحدث تلك الأمور بكثرة في عالم الواقع؛ نتحدث بالتأكيد عن تفوق المستضعفين على الأقوياء، ولكن عندما يحدث ذلك، فعلينا أن نشير إليه ونضعه تحت المجهر، لإعطاء كل ذي حق حقه، وعندما يحدث ذلك بأفكار واضحة وشجاعة، فهذا لا يزيده إلا جمالا وإلهاما. هذه رواية ولحظة يقف عندها التاريخ عموما وتاريخ العرب خصوصا، فربما، على عكس باقي مناحي الحياة، لا تخضع كرة القدم للمنطق طوال الوقت.

____________________________________________

المصادر:

  1. تصريحات عبد الإله المالكي بعد مباراة الأرجنتين والسعودية – الرياضية
  2. بعض أرقام اللقاء من ستاتس بومب Statsbomb – حساب ستاتس بومب Statsbomb على تويتر
  3. عدد مرات تطبيق مصيدة التسلل بشكل صحيح منذ تطبيق الفار وتصدر السعودية للقائمة – Squawka
  4. تصريحات سكالوني وميسي بعد نهاية المباراة – رويترز
  5. كيف فاجأت السعودية الأرجنتين – The Athletic
المصدر : الجزيرة