شعار قسم ميدان

لماذا لم يعد اكتشاف المواهب مُهمّا في المونديال؟

صورة رئيسية ملاعب

لطالما كان كأس العالم الحدث الكروي الأضخم على الإطلاق، كيف لا وهو يجمع 32 منتخبا من مختلف القارات هم صفوة منتخبات اللعبة الشعبية الأولى؟ لكن كأس العالم لكرة القدم ليس فقط الحدث الكروي الأكثر مشاهدة، وإنما يُعد ثاني أكثر حدث رياضي مشاهدة في العالم وفقا للأرقام المسجلة من مونديال روسيا الأخير، والذي بلغ عدد مشاهديه 3.5 مليارات حول العالم، ويُتوقع لذلك الرقم قفزة كبيرة في مونديال قطر 2022 ليصل إلى 5 مليارات مشاهد، وفقا لتصريحات رئيس الفيفا الحالي جياني إنفانتينو(1).

FIFA President Gianni Infantino
رئيس الفيفا الحالي جياني إنفانتينو (شترستوك)

ملايين الأسر حول العالم تتابع كأس العالم عبر شاشات التلفاز، ناهيك بأولئك الذين يملؤون جنبات الملاعب المونديالية في كل نسخة من البطولة. وهذا يجعلنا نطرح تساؤلا بسيطا: ألم يخطر ببالكم أن هناك من فُتِن بكرة القدم من تلك الأسر؟ ألا تعتقدون أن هناك من تخيلوا الوقوف أمام آلاف الجماهير تحت الأضواء وعلى أعلى منصات التتويج؟ تمنوا أن يكونوا هناك، وحلموا بمعانقة المجد الذي عانقه نجم طفولتهم.

 

تمر السنوات، ويكبر هؤلاء، ليصبحوا كل لاعب شاب حول العالم، وبمختلف أعمارهم وأجناسهم، ولا يجول بخاطرهم سوى تلك الصورة التي يلعبون فيها بقميص منتخب بلادهم للظفر بالكأس الذهبية الأغلى والأقيم، أو حتى مجرد رؤية أنفسهم على أحد الملاعب المونديالية، وهو ما قد يكون كافيا لتحقيق ذلك الحلم الذي لازمهم منذ عهد الطفولة.

 

على مدار تاريخه الطويل، اعتُبِر كأس العالم هو تلك الفرصة الثمينة التي يرغب الجميع في اغتنامها وعدم تفويتها من بين يديه، لا سيما هؤلاء الشُبّان اليافعون، فجميعهم لديه دوافعه منذ الطفولة كما أسلفنا، ولا سيما أيضا أننا نتحدث هنا عن المحفل التسويقي الأكبر للّاعبين منذ فجر تاريخ اللعبة، أليس كذلك؟

 

بزغ نجم لاعبين كُثر في كأس العالم، ثم تهافتت عليهم أندية أوروبا الكبرى حتى استطاع أحد تلك الأندية الظفر بخدماتهم، ومن ثم بدأت رحلتهم التاريخية مع اللعبة. الأسماء عديدة، وإذا قررنا البدء في ذكرهم اسما تلو الآخر فلن ننتهي منهم حتى صباح الغد. ما يهم أن الفكرة الأساسية قائمة، كان كأس العالم البداية التي رسمت مسيرة الكثير من اللاعبين، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تغير الوضع؟

 

في الواقع لم يتغير كأس العالم ذاته في شيء، بل يزداد عدد مُريديه ومتابعيه مع كل نسخة جديدة، حتى إن نظرة اللاعبين الشباب هي الأخرى ما زالت كما هي عليه، إذن ما الذي تغيّر بالضبط؟

 

"إن انتظرت كأس العالم فأنت مُقصّر!"

لم نجد بداية أفضل من التصريح الذي لم يُنسب إلى اسم، فقد أراد أن تبقى هويته مجهولة، وكل ما نعلمه أنه المسؤول عن انتداب اللاعبين بأحد أندية البريميرليج الكبرى، ولم يرد الإفصاح عن هويته لأسباب منطقية. (2)

 

في عام 1994، عقد مدرب توتنهام هوتسبير حينها، أوسفالدو أرديليس، مؤتمرا صحفيا يكشف فيه للصحافة عن لاعبه الجديد، إيلاي دوميتريسكو. كان إيلاي يلعب بمركز الجناح، وحينها أعجب أرديليس بما قدمه الجناح مع منتخبه الروماني في مونديال 1994 كثيرا، لدرجة أنه طالب به حينها في الحال، وكان له ما أراد. قضى إيلاي موسمين مع السبيرز، ولعب في هذين الموسمين 20 مباراة فقط في جميع البطولات، وسجل 5 أهداف، وصنع هدفين فقط. أرقام ليست مبهرة لجناح أبهر الأعين في المونديال.

Ilie Dumitrescu
إيلاي دوميتريسكو (شترستوك)

إذا كنت ترى تلك القصة بعيدة نوعا ما، فهناك قصتان أقرب نسبيا. فلنعد بالذاكرة إلى كأس العالم 2002 ولنتذكر مشوار السنغال المميز في تلك البطولة، تذكرت؟ حسنا، أتذكر إذن مَن كان نجم المنتخب الأول حينها؟ الحاج ضيوف، لم يكن نجم المنتخب السنغالي فقط، بل كان واحدا من تشكيلة الفيفا لأفضل 11 لاعبا في البطولة. ماذا حدث بعد ذلك؟ تهافتت عليه كبرى الأندية، حتى ظفر ليفربول بخدماته، ومنذ ذلك الحين لم يُظهر ضيوف أبدا ما أظهره مع السنغال في المونديال، 69 مباراة مع ليفربول سجل بها فقط 3 أهداف! ثم لم نسمع عنه الكثير ولم نرَ منه سوى فُتات موهبته(3).

 

القصة الثانية هي للاعب من النسخة المونديالية نفسها 2002، لاعب قد لا يتذكره الكثيرون على الرغم من أنه يحمل الميدالية الذهبية على عنقه. الحديث هنا عن كليبرسون، اللاعب الذي لفت أنظار الجميع مع منتخب بلاده في آخر مونديال ظفرت به السامبا. كليبرسون بدأ 3 مباريات من مباريات منتخب بلاده السبع في البطولة، وعلى رأسها المباراة النهائية أمام ألمانيا، كما دخل بديلا في مباراتين أيضا، ولعب تقريبا نصف عدد دقائق منتخب بلاده خلال البطولة، وشكّل ثنائية قوية بجانب غيلبرتو سيلڤا. انتهى المونديال، تهافت كبار القوم على ضمّه، حتى وقّع عقد انتقاله إلى الشياطين الحمر، ثم بعد ذلك، لا شيء، فقط لا شيء، إحدى أسوأ الصفقات التي أُبرمت في عهد السير أليكس فيرغسون(3)(4).

Jose Kleberson (Manchester United) Manchester United v Glasgow Rangers Old Trafford 4th November 2003 UEFA Champions League 2003/2004 Group E
خوسيه كليبرسون (شترستوك)

كأس العالم لم يكن فقط تلك البطولة التي رسمت مسيرة البعض، لكنه كان أيضا الشرارة التي سرعان ما انطفأ بريقها سريعا بالنسبة إلى آخرين. الشاهد من الأمر أن صديقنا المجهول كان محقا في قوله، والأمثلة أعلاه هي فقط غيض من فيض للاعبين لم يسمع عنهم أحد شيئا بعد كؤوس عالم استثنائية قدموها. الأمر بسيط، انتظار كأس العالم لجمع أي معلومات عن أي لاعب يعد عبثا، ولن يستطيع أحد تجميع المعلومات الكافية عن لاعب ما فيما لا يتعدى الـ7 مباريات.

 

يحتاج الأمر إلى متابعة أكثر دقة للاعب، في دوريه المحلي، تحت ظروف مختلفة تكتيكيا ونفسيا وذهنيا وبدنيا، لكي تكون المعلومات أدق وأكثر اعتمادية، وإلا فإبرام صفقة في سوق الانتقالات بناء فقط على تألق اللاعب في كأس العالم يُعَد مخاطرة غير محسوبة العواقب، وما هي إلا عبارة عن ضربة حظ، قد تُصيب، وقد تخيب.

 

كل شهر هو كأس عالم

ربما ينبغي على الكشافين التعامل مع الوضع، عليهم اعتبار كل شهر هو كأس عالم يقومون فيها بالبحث عن المواهب الشابة بدلا من انتظار مناسبة تأتي شهرا واحدا كل 4 سنوات لكي يقرروا التقدم وشراء لاعب معين من عدمه. لنكن صادقين، ربما لفظة "ربما" في بداية الفقرة ليست مناسبة هنا؛ لأن هذا ما تغير حقا، فنحن لن ننصحهم بالطريقة المثلى لأداء وظائفهم. ببساطة، الكشافون "بالفعل" لم يعودوا بتلك السخافة.

 

في عام 2018، وقبيل انطلاق كأس العالم في روسيا، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرا بعنوان: "كأس العالم، عندما يجتمع أفضل اللاعبين، يبقى الكشافون بعيدا عن الأعين" (2). وربما يخبرك العنوان لمحة عن المضمون. تقول الصحيفة الأميركية إن بعض كشافي كبار الأندية في أوروبا -قبل انطلاق المونديال- وبالتحديد في البريميرليغ والليغا الإسبانية، أجروا اتصالات فيما بينهم. كان الهدف من تلك الاتصالات معرفة خطط أقرانهم خلال فترة المونديال. وفي النسبة الغالبة، كانت هناك إجابة واحدة فقط: لا توجد أي خطط للشراء تتعلق بمونديال روسيا!

 

لنكمل الخيط لآخره؛ الأندية بالطبع ترسل بعض الكشافين لمتابعة بعض اللاعبين في كأس العالم، ولكنهم يرون أن ذلك -غالبا- لن يلفت نظرهم لأي شيء هم ليسوا على علم به بالفعل، فهم ببساطة على دراية بكل كبيرة وصغيرة تخص هؤلاء اللاعبين. رئيس الكشافين في أحد الأندية يقول في هذا الصدد: "لا لاعب في كأس العالم يبدو غير مألوف لنا".

 

العالم أصبح أصغر بكثير مما كان عليه قبل سنوات، وتستطيع كشافة الأندية متابعة كل لاعب في كل دوري من الدوريات الأوروبية المختلفة، كبيرها وصغيرها، بل ومن دوريات الناشئين أيضا، بسهولة، من على مكتبهم الخاص في غرفهم المكيّفة داخل أروقة أنديتهم، أو حتى من منازلهم.

 

بالعودة لإيلاي دوميتريسكو، فلربما توتنهام لم يكن ليقع في المأزق ذاته الذي حدث قبل قرابة 30 عاما من الآن، فرومانيا الآن ليست بعيدة عن الأعين، ويمكن لصديقنا الكشاف أن يفتح جهازه الحاسوبي أو حتى هاتفه المحمول على إحدى منصات التنقيب المختلفة، مثل "Wyscout" و"Instat" وغيرهما، ويستطيع أن يصل بسهولة إلى مختلف الدوريات العالمية ومختلف اللاعبين، ليس فقط مبارياتهم، بل أيضا بيانات رقمية توضح الكثير مما يتعلق بقدراتهم التقنية والفنية المختلفة.

 

بالنسبة إلى أقسام الكشافة والاستقطاب في الأندية الأوروبية الكبرى وحتى العديد من أندية الوسط والقاع، لم يعد كأس العالم قط كما كان، ولم يعد بتلك الأهمية في سوق الانتقالات. بالنسبة إلى الأندية التي تابعت هؤلاء اللاعبين لسنوات، فإن أداءهم في كأس العالم، قويا كان أو العكس، لن يمنحهم أي إشارة هنا، فقط الكثير من الضوضاء.

 

ما يفعله المونديال حقا

من وجهة نظر أخرى، فإن قيمة اللاعب تزداد بشكل كبير ومبالغ فيه إن تألق في كأس العالم. إحدى تلك الشركات الاستشارية التي يستشيرها العديد من فرق الصفوة بخصوص سوق الانتقالات، قامت بتحليل لمعرفة مدى تأثير مستويات اللاعبين في بطولة كأس العالم على أسعارهم في سوق الانتقالات، فوجدت أنه على مدار تاريخ البطولة فإن هدفا واحدا فقط في كأس العالم يرفع من سعر اللاعب بنسبة 15%(2).

 

لنأتِ بمثال بسيط: كانت قيمة هيرڤينغ لوزانو في 12 يونيو/ حزيران 2018 -أي قبل مباريات المكسيك في المونديال- وفقا لـ"ترانسفير ماركت" (Transfermarkt) حوالي 25 مليون يورو، ماذا حدث بعد المونديال؟ ارتفعت قيمة لوزانو بعد هدفه في ألمانيا -حامل اللقب- وبعد تألقه في المونديال، لتصل إلى 40 مليون يورو في تحديثهم الخاص بأكتوبر 2018، زيادة قدرها 60% من قيمته السابقة (6).

Hirving Lozano of Napoli
هيرڤينغ لوزانو (شترستوك)

العديد من اللاعبين الشباب كذلك لم يعودوا يرون كأس العالم فرصة ثمينة لإظهار ما يملكون من موهبة، ببساطة لأن الفئات العمرية الأصغر تزداد دقائق مشاركتها مع فرقها المحلية أكثر فأكثر بمرور الزمن، وأصبح لديها متّسع أكبر من الوقت مع أنديتها لعرض موهبتها دون انتظار كأس العالم أو أي بطولة مجمعة لمنتخباتهم كفرصة تسويقية لأنفسهم.

 

عدد الدقائق التي تنالها فئة 21 عاما أو أصغر في الدوريات الخمس الكبرى ازداد بمقدار 25 ألف دقيقة في الموسم في الـ10 سنوات الأخيرة، أي بين موسمَي 2011/2012 و2021/2022، وإذا عدنا بالزمن لـ10 سنوات أخرى، فسنجد أن الفرق في عدد الدقائق بين موسمَي 2011/2012 و 2001/2002 للفئة العمرية نفسها هو 63 ألف دقيقة تقريبا، أي في الـ20 عاما الأخيرة، لم تتضاعف فقط أعداد تلك الفئة العمرية الأصغر في الدوريات الخمس الكبرى، بل زادت الاعتمادية عليهم أكثر فأكثر، وبفارق واضح(6)(7)(8).

 

في الحقيقة، وحتى إن كان هناك بعض اللاعبين لا يزالون يرون المونديال فرصة ذهبية لتسويق موهبتهم، فإن أندية الكرة الكبرى لم تعد ترى ذلك على الإطلاق. لن نستطرد كثيرا في عرض المواهب التي نتوقع لها النجاح في كأس العالم قطر 2022، ونعلم أن الكثير منهم سيفاجئون الجميع، لكن هذا في حالتنا نحن الجمهور فقط؛ لأننا ببساطة لا نتابع سوى القليل، أما من وجهة نظر أقسام استقطاب اللاعبين في أندية القارة العجوز، فلن يفاجئهم شيء.

 

بالنهاية، يظل وجه التشابه الأكبر بيننا نحن متابعي اللعبة وبين كشافة الأندية، بفضل ما غيّرته التكنولوجيا الحديثة؛ هو أن جميعنا الآن سيشاهد البطولة الآن بعين المتابع المحب للعبة، وبعين المشجع، لا أكثر.

————————————————————————————————————-

المصادر:

1- عدد المشاهدات المتوقعة لمونديال 2022 – Reuters

2- تقرير نيويورك تايمز عن المواهب الشابة في كأس العالم – nytimes

3- 20 لاعبا بزغ نجمهم ثم اختفوا فجأة – Bleacher report

4- إحصائيات اللاعب كليبرسون – FBref

5- معلومات عن هيرفينج لوزانو – Transfermarkt

6- دقائق لعب اللاعبين تحت سن الـ21 عاما لموسم 2001/2002 – FBref

7- دقائق لعب اللاعبين تحت سن الـ21 عاما لموسم 2011/2012 – FBref

8- دقائق لعب اللاعبين تحت سن الـ21 عاما لموسم 2021/2022 – FBref

المصدر : الجزيرة

إعلان