ليست البرتغال أو بلجيكا.. إعادة تعريف أحصنة كأس العالم السوداء

اقترب موعد كأس العالم، وحان وقت التذكير بأنه المناسبة التي يحب فيها الجميع تشجيع المُهمَّشين أمام الكبار، وفي الوقت ذاته، يكره الغالبية نجاح المُهمَّشين الزائد عن حدِّه لأنه يحرمهم من متعة تنافس الكبار. معادلة متناقضة للغاية، تكون نتيجتها الإشادة بأداء البعض وقصصهم وملاحمهم، ثم نسيان أسمائهم صباح اليوم التالي، هم ليسوا جديرين بالبحث خلف كواليس إنجازهم، يكفي فقط أن نُصفِّق لهم على منصة التتويج ونُذكِّر الحيتان أن للفقراء نصيبا من الدنيا، ثم ننسى ما حدث برُمَّته بعدها بساعات.
ولكن في الحقيقة، لا يوجد شيء جدير بمعرفة كواليسه وما يحدث في غُرفه المغلقة أكثر من قصص نجاح المُهمَّشين، والسبب بسيط للغاية؛ أنهم يحتاجون إلى الكثير من العمل والجهد حتى يقارعوا أصحاب الإمكانيات. هل تذكر قصة الأرنب والسلحفاة الشهيرة التي سمعناها كثيرا في طفولتنا؟ ماذا كان يحتاج الأرنب فيها إلا أن يركض منتظما حتى ولو بأقل سرعة لديه لكي يفوز؟
هؤلاء المهمشون هم مَن يستحقون لقب الأحصنة السوداء، لكن المشكلة أن ذلك اللقب ارتبط ببعض المنتخبات بغض النظر عن تخطيها لتلك المرحلة بمرور السنوات، ليفقد معناه الحقيقي من مونديال إلى آخر، ويصبح وصفا مُعلَّبا من تلك الألفاظ التي تملأ الأستوديوهات التحليلية كـ"شوط المدربين" و"الدفاع الذي يجلب البطولات" إلى آخره. لذلك، أردنا اليوم إعادة تعريف الأحصنة السوداء لكأس العالم، بالأحرى، قررنا تقديم أسماء جديدة على الأرجح لن تخبرك بها الأستوديوهات، ولكنها على الأرجح أيضا ستكون أفراس الرهان الحقيقية لمونديال قطر.
غانا.. استعادة الطيور المهاجرة

منذ أن عاش الأفارقة حلم 2010 مع منتخب غانا، لم يعد "البلاك ستارز" ذلك المنتخب المرعب الذي تخشاه القارة السمراء، وبالتبعية يخشاه العالم. الجيل التاريخي بقيادة أسامواه جيان وكيفين برينس بواتينغ والبقية استبعدوا من المشهد واحدا تلو الآخر، وبدأ منحنى المنتخب في الهبوط تدريجيا، حتى جاء التأهل لمونديال 2022، الذي رُسمت قبله ملامح الحلم، واكتملت بعده الصورة زاهية الألوان. (1)
في فبراير/شباط الماضي، تولى أوتو أدو تدريب منتخب غانا، وهو الرجل الذي يُعَدُّ أحد نجوم كرة القدم في البلاد، وكان يشغل منصب المدرب المساعد في بوروسيا دورتموند، ويتركز عمله حوله تطوير الناشئين، فضلا عن وجوده في الأجهزة الفنية لهامبورغ ومونشنغلادباخ، حيث كانت رحلته في ألمانيا مثمرة على مستوى مراكمة المعرفة والتجارب، حتى وصوله إلى منصب المدير الفني لمنتخب بلاده. (2)
وصول أدو جاء قبل المواجهة الحاسمة المؤهلة لكأس العالم أمام نيجيريا، تلك التي عبرتها غانا بنجاح، وبعدها حدث العبور الأكبر؛ حيث تحوَّل تشكيل البلاك ستارز بوصول دفعة من اللاعبين القادمين من أوروبا، أي هؤلاء الذين يحملون إلى جانب أصولهم الغانية جنسية بلدان أخرى، ولعبوا لمنتخبات الفئات السنية المختلفة لها، أو ربما مباريات مع المنتخب الأول ولكنها لم تتخطَّ الحد القانوني الذي يمنعهم من تمثيل بلدهم الأم. (3)
أبرز هذه الأسماء كان نجم أتلتيك بيلباو إينياكي ويليامز، الذي كان قد لعب مباراة ودية واحدة بقميص منتخب إسبانيا، إضافة إلى الظهير طارق لامبتي، نجم برايتون، وجناح تشيلسي السابق كالوم هادسون أودوي، ومهاجم أرسنال الصاعد إيدي نكيتياه، وجميعهم مَثَّلوا المنتخب الإنجليزي للشباب أو المنتخب الأول، فضلا عن إقناع 3 لاعبين من منتخب ألمانيا للشباب بتمثيل غانا، وهم نجما هامبورغ ستيفان أمبروسيوس ورانسفورد يبواه كونيغسدورفر، وباتريك فايفر لاعب نادي دارمشتات. (4)
هذه الأسماء بالإضافة إلى الأسماء الموجودة بالفعل كتوماس بارتي ودانييل أمارتي ومحمد قدوس والبقية كافية لتجعل غانا فرسا صالحا للرهان، خاصة حين تمتزج تلك المجموعة بطموح مدرب أعدَّ جيدا لخطواته، وحضَّر لها بالتنسيق مع الاتحاد المحلي لكرة القدم، ونجح في الحصول على وفرة من اللاعبين الأكفاء، حتى يستطيع تطبيق أفكاره معهم بصورة أسهل. ولأن كأس العالم اعتاد أن يكون موطنا لنجاح مثل هذه التجارب والأفكار، وجب علينا أن ننتظر ونرى.
Otto Addo has named a 55-man provisional list for the FIFA World Cup. The list will be whittled down to twenty six (26) for the tournament which is scheduled for Qatar from Nov 20 – Dec 18.
🔗 https://t.co/0oHdM3V2B8@GhanaBlackstars | #FIFAWorldCup | #BringBackTheLove 🇬🇭 pic.twitter.com/SPbNGrfx8Q
— Ghana Football Association (@ghanafaofficial) November 4, 2022
الدنمارك.. جامعة كرة القدم
بالطبع يمكن اعتبار وصول منتخب الدنمارك إلى نصف نهائي يورو 2020 بطاقة ترشيح كافية لحجز مكانه بين أحصنة المونديال السوداء، والسبب أنها لم تكن مجرد طفرة، أو محاولة من أصدقاء إريكسن لمنحه الشيء الذي يعيد قلبه لينبض بالحياة، بل كانت نتيجة منطقية ومستحقة لرحلة تطور كرة القدم في جامعتها، بالمعنى الحرفي وليس مجازا.
في الدنمارك، يمكنك لمس الثورة الإحصائية التي حدثت في علم البيانات، وتحديدا في نادي ميتلاند، الذي ألهم يورغن كلوب لكي يبحث هناك عن مدرب لرميات التماس، بسبب نتائج دراسة حول دور رميات التماس في الحفاظ على الاستحواذ أو فقدانه، المهم أن التكنولوجيا اقتحمت كرة القدم هناك مما جعلها تتحرك إلى الأمام خطوات، ولكن هل كانت التكنولوجيا وحدها سببا في إخراج هذا الجيل؟ (5)
الإجابة قطعا لا، فهناك جامعة كرة قدم تُسمى نادي نورشيلاند، كما سمَّاه رئيسه جان لارسن، الرجل الذي ينتمي إلى بلدة فاروم التي يقع بها النادي والواقعة على بُعد 30 دقيقة فقط من العاصمة كوبنهاغن. هنا قضى لارسن مسيرته كلها، لاعبا في البداية، ثم مديرا رياضيا لأكثر من 15 عاما، وأخيرا رئيسا للنادي. (6)
نورشيلاند كان القلعة التي خرج منها المدير الفني لمنتخب الدنمارك كاسبر هيولماند، الرجل الذي ظل لارسن يلاحقه 3 سنوات حتى منحه فرصة تدريب نورشيلاند قبل أن يعرفه أحد في العالم. ليس ذلك فقط، بل أخرجت أكاديمية النادي 3 لاعبين في تشكيل المنتخب الدنماركي ليورو 2020، أهمهم كان نجم سامبدوريا الإيطالي الذي انتقل لاحقا إلى برينتفورد الإنجليزي ميكيل دامسغارد، فضلا عن قضاء جينس سترايغر لارسن وأندريس كريستيانسن بعض الوقت بالنادي. (7)
لارسن يَعتبر ناديه أشبه بجامعة كرة قدم، أفضل مكان للمراهقين لإكمال تعليمهم حتى يكونوا مستعدين للخروج إلى العالم، هناك يبحثون عن أفضل الوسائل من أجل تطوير الناشئين، فضلا عن البحث عنهم في كل أرجاء البلاد، بل وخارجها، الأمر الذي يظهر بوضوح من خلال التعاون مع "Right to Dream"، وهي أكاديمية لها جذورها في غانا قامت بشراء نادي نورشيلاند قبل ست سنوات. (8)
سويسرا.. المجد للتكنولوجيا
في البداية، وجب الذكر أن كأس العالم 2022 ستكون البطولة الكبرى الرابعة لفلاديمير بيتكوفيتش بصفته مدربا لسويسرا، وهي تأتي بعد بطولة يورو ارتفعت فيها الطموحات بشكل كبير مع الرجل الذي وُلد في سراييفو، ولم يتمتع بمسيرة جيدة مع كرة القدم وهو لاعب، أما مسيرته التدريبية فبدأت في 1997 مع أحد الأندية الصغيرة، تلك التي لا يكفي راتبها وحده لتأمين حياة آمنة، لذلك كان يعمل في الوقت ذاته بدوام كامل في مؤسسة خيرية. (9)
هذه التجربة لم تكن مفيدة له فقط على المستوى الإنساني، ولكنها صقلت قدرته على جعل لاعبي كرة القدم يظهرون بشكل أفضل، يُفسِّر بيتكوفيتش ذلك في حديث أجراه عام 2020 مُشيرا إلى أنه أثناء تلك التجربة عمل مع أشخاص عاطلين عن العمل، كان بعضهم يعاني من إدمان المخدرات والكحول، ولكنه استطاع مساعدتهم ليصبحوا أشخاصا أفضل، ولكي يصبحوا قادرين على التعامل مع الحياة اليومية والعثور على عمل والعيش بصورة طبيعية، ومع كرة القدم تكرَّر ذلك، حيث تتعلَّق اللعبة بالناس والتحفيز من وجهة نظره. في رحلة حياته، تعلَّم الرجل أن لكل إنسان شخصيته ومشكلاته الخاصة، وما عليك كونك مدربا سوى خلق الانسجام وجعل المجموعة كلها على قلب رجل واحد لمساعدة بعضهم بعضا من أجل الوصول إلى الهدف. (10)
كان ذلك فيما يخص الناحية النفسية، التي لم تكن وحدها الشيء المميز في عناصر منتخب سويسرا، ولكن في الحقيقة، من الأشياء التي تُميّز بلاد الشوكولاتة أيضا قدرة لاعبيهم على التوقُّع، سواء فيما يخص الحارس سومر في ركلات الجزاء وفي تصدياته عموما، أو بقية زملائه على مستوى استرجاع الكرات والتحوُّلات، حيث قام أسلوبهم في الأساس على الضغط المُتقدِّم، برسم تكتيكي 3-4-1-2 الذي يتحوَّل إلى 5-2-1-2 في الحالة الدفاعية، بما يضمن القدرة في الوقت ذاته على التراجع والاعتماد على الكرات المرتدة إن لزم الأمر، ولتطبيق ذلك الأسلوب في كلتا الحالتين، تحتاج إلى قدرة عالية على التوقُّع وقراءة اللعب، وأن تسبق الخصم بثانية أو اثنتين، بالنسبة للاعبين، يتم ذلك من خلال التدريبات، وتحديدا التدرب على طرق وكيفية الضغط، ولكن بالنسبة لحارس المرمى، كيف يتدرَّب على ذلك؟ (11)

في عصر التكنولوجيا، يُفضَّل ألا تترك شيئا للمصادفة، وذلك ما رآه العالم مع حُرَّاس المنتخب السويسري في التدريبات، ورأوا أيضا نتائجه في التألُّق اللافت للحارس سومر، حيث استُخدمت تقنية جديدة في تدريبات حُرَّاس المرمى تعتمد على ارتداء نظارة شمسية، هي تبدو كذلك فقط، لأنها ليست مجرد نظارة تحجب الضوء كما فسَّر البعض الأمر بسطحية مبدئيا، ولكنها تقنية مُبتكَرة يمكنها منح حُرَّاس المرمى أفضلية كبرى في السنوات المقبلة. (12)
تلك النظارة المُبتكَرة التي لمعت في يورو 2020 من صنع شركة "VisionUp" اليابانية، ويصل سعرها إلى نحو 486 دولارا أميركيا، والهدف منها أنها تخلق تأثيرا أبطأ لحركة الكرة عن الواقع، وذلك بهدف مساعدة الحُرَّاس على تحسين توقُّعاتهم، وزيادة صعوبة التصدي للكرات أثناء التدريب، حيث يرى الحارس صورة متأخرة عما يجري في الواقع، ويكون مطالبا بتوقُّع مسار الكرة بناء على ما رآه قبل لعبها بلحظات، الأمر الذي أنتج تصديات مميزة لسومر قاد بها بلاده إلى ما وصلت إليه، سواء خلال المباريات نفسها أو في ركلات الجزاء. (13)
لا يقف الأمر عند ذلك الحد، بل إن شبكة "سكاي سبورتس" أكَّدت أن ارتداء تلك النظارات لمدة ربع ساعة بانتظام يعمل على زيادة حِدَّة النظر في غضون 8 أسابيع. دعونا نُذكِّر أن استخدام تلك النظارات في تدريبات المنتخب السويسري ليس وليد اليورو، ولكنه يعود إلى فترة طويلة سبقته، ولا يزال مستمرا. وقد ظهرت صور في مارس/آذار عام 2021 من تدريبات المنتخب السويسري تُظهِر حُرَّاسه يرتدون هذه النظارة، تذكَّر أنه في عصر التكنولوجيا لا تتحكم المصادفة في كثير من الأمور. (14)
Memories from Russia 2018#Rossocrociati
Switzerland national football team pic.twitter.com/6jM5ctXIkf— Qatar22&Supporters (@Qatar22fans) November 12, 2022
آخرون ونقطة نهاية
بالطبع لا يمكنك أن تغفل محاولة ويلز حجز مكان بين كبار القارة في البطولات الدولية؛ تلك التي بدأت منذ سنوات بتعميم اللغتين، الإنجليزية والويلزية، واحتواء الأقليات في منظومة اللعبة، وتقديم مشروع حقيقي لتعليم المدربين وتثقيفهم، مشروع نجح في اجتذاب أمثال تييري هنري وباتريك فييرا وتيم كاهيل وأسماء أخرى، فضلا عن اجتذاب لاعبيها المهاجرين لتكوين منتخب قوي، قصة سردناها في "ميدان" بالتفصيل وقت يورو 2020. (15)
ربما يُرشِّح آخرون أوروغواي بعد ظهور مميز لآراوخو وفيدي فالفيردي وداروين نونيز، يمكن أن تأتي أسماء أخرى كالمكسيك وكوريا الجنوبية وقطر والسعودية، الجميع من حقه أن يُرشِّح حصانه الأسود وفقا لما يراه، ولكن هناك منتخبان فقط ندعو الجميع أن يتوقفوا عن استخدام هذا المصطلح معهما، حتى لا يصيبنا الملل الذي تُسبِّبه الأستوديوهات التحليلية الكلاسيكية؛ ألا وهما البرتغال وبلجيكا.
من الهزل أن تظل بلجيكا والبرتغال ضمن الأحصنة السوداء بتشكيلتين تتجاوزان كبار العالم على مستوى الأسماء والخيارات، 8 سنوات من المشروع البلجيكي الذي ظهر جيله لأول مرة في مونديال 2014، وما زال الحديث عن المنافسة الحقيقية بعيدا، عامان من تصدُّر تصنيف الفيفا بوصفها أفضل منتخب في العالم، وما زالت المنافسة ليست خيارا، حتى جاوز أغلب أفراد الجيل الذهبي الثلاثين وأصبحوا على مشارف الاعتزال وهم لا يزالون أحصنة سوداء! (16)
أما البرتغال، فلم يعد بعد منتخب كريستيانو رونالدو فحسب، والتتويج باليورو في 2016 ودوري الأمم الأوروبية في نسختها الأولى لا بد أن يكون خطوة للمنافسة على لقب كأس العالم، وبالنسبة لكليهما، نعتقد بعد كل ذلك أنه ليس من المنطقي تصنيفهما بالأحصنة والفهود والنمور أو أيٍّ من الأفراد السوداء لحديقة الحيوان بالنظر إلى وضعهما الحالي.
_________________________________________________
المصادر
- 1 – مشوار غانا في كأس العالم 2010
- 2 – غانا تختار أوتو أدو مدربا للمنتخب الوطني
- 3 – اللاعبون المستبعدون من منتخب غانا وفقا لاختيارات أوتو أدو
- 4 – إنياكي ويليامز وطارق لامبتي وآخرون.. غانا تستعيد طيورها المهاجرة
- 5 – "ما نقوم به ليس علم الصواريخ": كيف بدأ ميتلاند ثورة البيانات في كرة القدم؟ – الغارديان
- 6 – سر الدنمارك في أنه لا سر – واشنطن بوست
- 7 – المصدر السابق
- 8 – المصدر السابق
- 9 – دليل المنتخبات – سويسرا – الغارديان
- 10 – المصدر السابق
- 11 – المصدر السابق
- 12 – ما وراء نظارات سويسرا الشمسية في يورو 2020
- 13 – المصدر السابق
- 14 – المصدر السابق
- 15 – تقديم تشكيل بلجيكا لكأس العالم
- 16 – تقديم تشكيل البرتغال لكأس العالم