لأول مرة في كأس العالم.. تطبيق يحلل أداء اللاعبين بالذكاء الاصطناعي

بعد خسارة فريقه المُذلة أمام نيويورك يانكيز وتذيُّل ترتيب دوري البيسبول الأميركي، أُصيب بيلي بين، المدير العام لفريق أوكلاند أثليتيك بالدمار. ومع الرحيل الوشيك لأبرز ثلاثة لاعبين في أوكلاند بات "بين" يحتاج إلى تشكيل فريق تنافسي بميزانية محدودة، وهي مهمة شبه مستحيلة في ظل طبيعة المنافسة في الدوري المُدجج بالنجوم.
ولكن في حالة "بين" تأتي الرياح أحيانا بما تشتهيه السفن، يلتقي مع بيتر براند، وهو شاب من خريجي الاقتصاد بجامعة "ييل"، ولديه أفكار جذرية حول تقييم أداء اللاعبين باستخدام طريقة علمية إحصائية جديدة تُدعى "السابرميتركس" (Sabermetrics)، ولكن كعادة كل الأفكار الجديدة قوبلت فكرة تحليل أداء اللاعبين بناء على الإحصائيات بالرفض، وبشكل طبيعي أخذت بعض الوقت لتقبلها، وهو ما سعى لتجسيده النجم "براد بيت" في فيلم "Moneyball" الذي يجسد قصة واقعية حدثت في الولايات المتحدة مطلع القرن الحالي.
ورغم البداية السيئة بخسارة إحدى عشرة مباراة متتالية، التي وضعت نظرية الإحصاءات على المحك في وقت مبكر، حقق فريق "بين" انتفاضة لاحقة ونجح في تحقيق الفوز في 20 مباراة متتالية، لينتزع "بين" أخيرا الاعتراف والتقدير من كل المشككين في النظام الذي أراد اتباعه عندما أدرك مالك نادي بوسطن ريد سوكس، جون دبليو هنري، أن "السابرميتركس" هو مستقبل لعبة البيسبول، وطلب من "بين" أن يصبح المدير العام لشركة "ريد سوكس" مقابل راتب قدره 12.5 مليون دولار، ما يجعله المدير العام الأعلى أجرا في تاريخ الرياضة.
ربما باتت تحليلات الأداء إجراء متعارفا عليه في أيامنا هذه، وعلى الأغلب قد تابعت أحدها إن كنت من مشجعي أي رياضة وعلى رأسها كرة القدم، لكن الأمور لم تكن دائما كذلك. انتظر عالم الكرة حتى بداية الألفية تقريبا للبدء في إدخال عالم الإحصاءات إلى اللعبة، في العقد نفسه، بدأت كرة السلة في استخدام التحليلات الرياضية لمساعدة المدربين في الكشف عن اللاعبين وتجنيدهم في المستقبل.
تاريخ قصير لتحليل البيانات في عالم الرياضة

لكن سحر تحليل البيانات لم يتوقف عند هذا الحد، فخارج الملاعب الرياضية وأسوار الأندية، بدأ أرباب الرياضات في استخدام البيانات لفهم جمهورهم بشكل أفضل حتى يتمكنوا من الترويج للرياضة وزيادة جماهيريتها وبالتالي عوائدها المالية. في وقت لاحق، تطورت التكنولوجيا لتشمل أدوات يمكن للاعبين ارتداؤها أثناء وجودهم في مباراة أو تدريب لمساعدتهم على تتبع أدائهم.
كان هذا بمنزلة تغيير جذري بالنسبة للعديد من الرياضات، وكانت البيانات التي تُجمع باستخدام هذه الأدوات لا تُقدَّر بثمن للمدربين والمديرين، فهي تُمكِّنهم من فهم لاعبيهم على مستوى جديد كليا عبر تتبع أدائهم بشكل فردي أثناء التدريب وأثناء تنافسهم، مما يُمكِّنهم من تكوين رؤى من شأنها مساعدتهم على فهم تقدم اللاعبين ونقاط قوتهم وضعفهم، كما يمكن للمديرين استخدام هذه البيانات أيضا لتطوير إستراتيجيات تسمح للاعبين بأداء أفضل ما لديهم والقضاء على عيوبهم أو تخفيفها.
لم تعد سائر الرياضات كما كانت حالما أدركت الشركات قيمة البيانات في كرة القدم أو أي رياضة أخرى. وكانت شركة تُدعى "كروسوفر" (Krossover) صاحبة السبق والصدارة في هذا السياق حين أصبحت أول شركة تولِّد مشاهد من مقاطع الفيديو المسجلة للتحليل. (1) وبمرور الوقت، أصبحت التحليلات الرياضية الآن صناعة كاملة في حد ذاتها، ومن المتوقع أن تزيد قيمتها على 3.2 مليارات دولار بحلول عام 2028. (2)

ففي خضم زخم المعلومات، خلقت خدمات تحليل البيانات وسائل لمعالجة كل هذه المعلومات الأولية وغير المفلترة لتطوير رؤى قابلة للتنفيذ يمكن استخدامها لتحسين كلٍّ من العناصر الرياضة، ولا ننسى بالطبع التأثير الأكبر للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة في تطوير هذه الرؤى، وبالتالي توليد تحليلات أفضل للأداء. ساهمت هذه التحليلات في تحسين أداء اللاعبين الفردي، وأداء الفرق الجماعي، وكلما أثبتت صناعة البيانات قدرتها على تحسين أداء الفرق، اكتسبت المزيد من الموارد التي تساعدها في ابتكار تقنيات أكثر كفاءة وتطورا، وبالتالي تحسين الأداء بشكل أفضل. وهنا يظهر السؤال الأهم: ما الذي تُركز عليه هذه البيانات والتحليلات تحديدا؟
أحد أهم استخدامات بيانات تحليل الأداء هو التنبؤ بالإصابات. تساعد الأدوات القابلة للارتداء في تحليل أداء كل لاعب، ويمكن استخدام هذه البيانات للتنبؤ بأي إصابات محتملة، بل ومنعها، كما تساعد المدربين على فهم مستوى اللياقة البدنية والجهد الحالي للاعب وتطوير لياقته ونظامه الغذائي لتحسين الأداء وتقليل فرص الإصابة.
ومع ذلك، يبقى الاستخدام الأشهر والأكثر شيوعا للبيانات في عالم الرياضة هو بناء إستراتيجيات الأداء للفرق الرياضية، حيث يمكن لمديري كرة القدم استخدام بيانات الأداء السابقة وبيانات كل لاعب على حِدَة، وكذلك بيانات المنافسين لبناء أفضل إستراتيجية ممكنة للعب. إنهم يُنشئون حرفيا خطة لعبة تتضمن الكثير من تحليلات البيانات لمساعدتهم على تحسين فرصهم في الفوز، وهو ما استغلته الفيفا أفضل استغلال.

خلال مباريات كأس العرب 2021، طُبق لأول مرة النظام المعروف بـ"لغة فيفا الجديدة لكرة القدم"، وهي مقاربة جديدة تجمع بين تحليل البيانات والخبرة الفنية لتوليد "ذكاء كروي جديد" يعين جميع العناصر على تحسين فهمها للعبة. يقوم على إدارة النظام فريق من المحللين في نيوبورت، ويلز، برئاسة كريس لوكستون، يحتوي على 50 محللا لكرة القدم، بالإضافة إلى مهندسي البيانات وعلماء البيانات، ويدعمهم فريق آخر في أرض الدوحة كذلك.
عُيِّن عضو واحد من فريق المحللين لكل لاعب في الملعب لمراقبة الأداء الفردي وتتبعه، يتضمن ذلك ملاحظة حركة اللاعب، مع الكرة وبدونها، وعدد المرات التي يخترق فيها خطوط الدفاع، ومقدار الضغط الذي يمارسه على حامل الكرة من الفريق الخصم، وغيرها من النقاط. بعد هذا التحليل المكثف تبيَّن أنه جُمع أكثر من 15000 نقطة بيانات من كل مباراة، مما يمنح محللي الفريق والمدربين واللاعبين ووسائل الإعلام والمشجعين آفاقا جديدة لمساعدتهم على فهم اللعبة والاستمتاع بها بشكل أفضل. (3)
يعكس هذا العمل رؤية أرسين فينغر، مدرب أرسنال الأسبق، ورئيس منظومة التطوير الرياضي في فيفا، التي تتمثل في استخدام الملاحظات الفنية وتحليلات بيانات كرة القدم معا لزيادة وتطوير فهم اللعبة وتحسين تجربة المشجعين. تزود الفيفا المديرين الفنيين والمدربين ومحللي الأداء بأفضل الرؤى الممكنة لمساعدتهم على تطوير المواهب على مستوى العالم، لكن الأمور ليست بهذه السلاسة، حيث تحتاج الفيفا أولا إلى تحسين فهم الوضع الراهن لكرة القدم داخل وخارج الملعب.
فيفا بلاير في كأس العالم
لتحقيق هذا الغرض، طوَّرت الفيفا تطبيقا سيُستخدم لأول مرة في كأس قطر لكرة القدم والمعروف باسم "فيفا بلاير" (FIFA Player) الذي يستخدم البيانات المعروفة عن اللاعبين المحترفين بالتعاون مع اتحاد لاعبي كرة القدم المحترفين "FIFA PRO". التطبيق أثار الاهتمام، وبالأخص اهتمام اللاعبين ببيانات أدائهم، خصوصا أن كل لاعب سيتمكَّن من الوصول إلى تحليلات أدائه الفردي بعد فترة وجيزة من كل مباراة.
هنا تستخدم الفيفا قياسات معززة لبيانات كرة القدم، يرصدها مجموعة من المُحللين المدربين تدريبا عاليا، مثل إذا ما كان اللاعب قام بتحرُّك ما لاستلام الكرة، وإذا ما كانت تمريرته كسرت خطوط الخصم، أو أن الضغط الذي مارسه ساهم في استعادة الكرة، وهو ما كان موجودا بالفعل في كأس العرب 2021، لكن الحماس لا يقف عند هذا الحد.
تغطي الكاميرات الموجودة حول الملعب اللاعبين وحركاتهم، هذه الكاميرات هي جزء من نظام التتبع عالي الدقة داخل الملعب، الذي يرصد مقاييس أكثر تطوّرا، مثل المسافة المقطوعة عند عتبات السرعات المختلفة، بالإضافة إلى السرعة القصوى، وكلها معروضة على خرائط حرارة موضعية مما يحسن مقاييس الأداء البدني. (4) الأهم من ذلك أن كل تلك البيانات تُدمَج من خلال سلسلة من الخوارزميات المتطورة التي تعمل مباشرة لدمج الأحداث وتتبع البيانات. توفر المقاييس الجديدة طرقا مبتكرة ومثيرة لتحليل اللعبة، بما في ذلك مراحل اللعب وكسر الخطوط، ومواقع الاستلام، والضغط الذي يُطبَّق على اللاعب الذي يمتلك الكرة.
تتزامن هذه البيانات مع لقطات المباراة لتمكين اللاعبين من مشاهدة جميع اللحظات الفارقة ونقاط التحليل الرئيسية لأدائهم بالتفصيل، باستخدام زوايا مختلفة للكاميرا. بالإضافة إلى ذلك، ستتوفر صور الحركة التي التُقِطت خلال اللحظات المهمة من كل مباراة في كأس العالم لكل لاعب على حِدَة، وهكذا سيتمكَّن اللاعبون من حفظ الصور أو مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي، جنبا إلى جنب مع إحصاءات المباريات المفضلة لديهم، مباشرة من التطبيق.

سوف يكون بإمكان اللاعبين الوصول إلى تطبيق "فيفا بلاير" عند وصولهم إلى قطر للمشاركة في كأس العالم، المطمئن أن التطبيق عمل بنجاح مع لاعبين من فرق مختلفة في كأس العرب 2021، وقُدِّم للفرق المشاركة في كأس العالم من فيفا خلال ورشة عمل الفريق الأخيرة في الدوحة، الأمر الذي دفع مدير تكنولوجيا كرة القدم والابتكار في فيفا، يوهانس هولزمولر، إلى أن يُصرِّح: "للمرة الأولى في بطولة كأس العالم لكرة القدم ستُتاح الفرصة ليس فقط للفرق المشاركة، ولكن أيضا لجميع اللاعبين للوصول المباشر إلى بيانات الأداء الخاصة بهم ومقاطع الفيديو ذات الصلة. مقاطع بعد كل مباراة. هذا مثال رائع على كيفية استخدام فيفا للتكنولوجيا إلى أقصى حد ممكن لتحسين تجربة كرة القدم للاعبين الرئيسيين في الملعب". (4)
ومع ذلك، تبقى هناك المخاوف التقليدية القائمة بشأن حماية البيانات. في هذا السياق، اتفقت فيفا وفيفا برو (FIFPro) على تحديد وتطوير المعايير وأفضل الممارسات لجمع بيانات أداء اللاعب الشخصية وحمايتها واستخدامها بناء على اللائحة العامة لحماية البيانات والقانون السويسري (يقع مقر الفيفا في زيورخ بسويسرا). منذ بداية جمع البيانات في كرة القدم الاحترافية، اتخذ المسؤولون في كرة القدم خطوات كبيرة ليس فقط لجمع المزيد من البيانات المتعلقة باللعبة، ولكن أيضا البيانات الشخصية الحساسة للغاية المتعلقة بصحة اللاعبين أنفسهم، وهي بيانات تزداد أهميتها وحساسيتها باستمرار مع تطور التقنيات. (5)
لهذا السبب يلتزم الطرفان، فيفا وفيفا برو، بتطوير مبادئ لجمع واستخدام بيانات أداء اللاعب الشخصية، وتوفير ضمانات وقائية ضد التعدي على حقوق الخصوصية أو المعالجة غير الملائمة للبيانات الشخصية؛ مع توفير إرشادات حول أفضل الممارسات لمعالجة بيانات الأداء الشخصية للاعبين المسجلين على التطبيق بما يتوافق مع مبادئ حماية البيانات.
يدرك كل مَن له علاقة بكرة القدم، أو المجال الرياضي على وجه العموم، أن البيانات والإحصاءات باتت تلعب دورا كبيرا في هذا المجال، من البيانات التاريخية والنتائج الأساسية إلى التنبؤ الخوارزمي بالأداء وإحصائيات اللاعبين المحددة للغاية. تُعَدُّ البيانات الضخمة اليوم هي اللاعب الأكثر قيمة في الصناعة، وهذا لا يثير العجب، إذ تبلغ قيمة سوق كرة القدم الأوروبية أكثر من 25 مليار يورو، وهي مرشحة للزيادة، وهي ليست صناعة محلية أو إقليمية ولكنها عالمية، حيث يمكنك أن تجد مشجعين للفرق الإنجليزية والإسبانية وحتى لسائر المنتخبات الرياضية في جميع أنحاء العالم، ما يعني المزيد من الحاجة إلى البيانات والإحصاءات لتطوير هذه الصناعة الضخمة، ورفع جماهيريتها وزيادة أرباحها (6).
————————————————————————
المصادر:
1- What Role Does Sports Analytics Play in Football?
2- How Sports Analytics Are Used Today, by Teams and Fans
3- The future is now: FIFA bringing performance analytics to a whole new level
4- FIFA World Cup 2022™ players to access data insights through app
5- FIFA and FIFPRO Develop Standards on Management of Personal Player Performance Data