"سدد من هنا".. هل جعلت الإحصائيات كرة القدم لعبة أقل إثارة؟
هل يمكن للموسيقى أن تنفد؟ هل نستطيع القول، عند لحظة ما في المستقبل، بأننا قد شهدنا كل التركيبات الموسيقية الممكنة؟ هل مرت تلك اللحظة بالفعل؟ هل تخطينا كل مراحل الابتكار ولم يعد أمامنا سبيل سوى إعادة إنتاج الماضي؟ مع كل الإعادات للأفلام التاريخية، وكل محاولات استغلال الأفكار القديمة في سلاسل طويلة، ومع الألفة التي تنتابك كلما استمعت إلى أغنية جديدة أو شاهدت فيلما حديثا، ومع طرازات الهواتف التي تصدر كل عدة أشهر ويصعب تفريقها عما سبقها، يبدو أن هذا هو الافتراض الصحيح؛ لقد فعلنا كل ما يمكننا فعله.
رقم لا يمكن كتابته
مع الأسف، فإن إيران إيغوزي، بروفيسور تكنولوجيا الصوت في معهد MIT الشهير للهندسة، والذي أنتجت شركته "Harmonix Music Systems" ألعابا مثل: "غيتار هيرو (Guitar Hero)"، و"روك باند (Rock Band)"، حققت مبيعاتها ما يفوق المليار دولار سنويا، يخالفنا الرأي.(1)(2)
طبقا لحساباته، فإن عدد الاحتمالات الممكنة لتركيبات المقطوعات الموسيقية لا نهائي، وهو رقم كبير إلى درجة أن كتابته في التقرير الذي يناقش الفكرة على موقع المعهد الرسمي قد تعذرت، وهو يحتاج إلى آلة حاسبة متطورة للوصول إليه، وفي النهاية، هي لن تخرجه، بل ستكتفي بإخبارك أن النتيجة لا نهائية (Infinite).
رغم ذلك، تظل هذه مجرد نظرية، ببساطة لأن المقطوعات الموسيقية لا تُنتج بهذه الطريقة، المؤلفون والموزعون لا يبحثون عن شيء جديد وحسب، بل في الواقع تحدّهم الكثير من العوائق في سبيل إنتاج أي أغنية أو معزوفة جديدة، مثل ضرورة أن تكون جذابة للأذن، وأن تواكب العصر، وأن يكون الفرق بينها وبين أقرانها من المقطوعات المعاصرة ملحوظا على الأقل.
باختصار، إيغوزي قدم نظرية حسابية، ولكنها صعبة التطبيق عمليا، لو وضعنا كل هذه العوامل السابقة وغيرها في الحسبان، لربما أصبح الرقم قابلا للكتابة. في الواقع، دراسات الاستهلاك قد تغير المعادلة تماما، إذ إن الكثير منها يسعى لتقديم منتجات أقرب للذوق السائد في لحظة إنتاجها؛ لضمان نجاحها، وتقليل المخاطرة إلى أقل قدر ممكن، سواء كانت هذه المنتجات موسيقية أو درامية أو تقنية.
هذا هو جانب واحد فقط من المعادلة، وإن أضفت لها هوس البشر التاريخي بالأنماط المتكررة أو الروتين، حتى بعيدا عن حسابات الربح والخسارة المادية، فقد تتسع الهوة بين نظرية إيغوزي والحقيقة، ببساطة لأننا مولعون بالتكرار، ليس لأننا مملون بطبعنا، ولكن لأن الروتين يمنحنا قدرا ما من التحكم، وبالتبعية الطمأنينة.(3)(4)
الروتين يخفف الضغوطات ويقهر المجهول، إذ تصبح الحياة أسهل بكثير عندما تعتقد أنك تعلم ما ستواجهه، على الأقل، إلى حد ما، وبالطبع إن كان هناك طريقة لمعرفة كيف تواجهه.
نهاية التطور
حسنا، ما علاقة كل ذلك بكرة القدم؟ أولا، الأنماط المتكررة (الروتين) هي جزء أساسي من اللعبة وتدريباتها. ولكن هذه الفكرة أخذت أبعادا جديدة بعدما نشرت دويتش فيله الألمانية عام 2019 تقريرا مصورا يطرح فكرة نهاية تطور كرة القدم التكتيكي، وباختصار، كان ما يقترحه المحرر، كونستانتين ستويف، هو أن اللعبة قد عقمت عن إنتاج أفكار جديدة، وأن كل ما تبقى أصبح إعادة إنتاج القديم، أو محاولة المزج بين هذا وذاك، فيما يشبه تركيبات النوتات الموسيقية.(5)
الأهم في هذا السياق هو ما ذكره الألماني كريستوف بييرمان في كتابه "Football Hackers"، الصادر قبل تقرير دويتش فيله بشهور قليلة، عن القصة المبهرة لصعود ملاك مكاتب المراهنات إلى المناصب الإدارية في أندية كرة القدم، وعلى رأسهم ماثيو بينام، المالك الحالي لنادي برنتفورد الصاعد حديثا للبريميرليغ، والذي يمتلك أيضا حصة في نادي ميتيالاند الدانماركي، الذي حقق قفزات بدوره ضخمة على مستوى المنافسة على الألقاب المحلية بعد استخدامه أساليب بينام الإحصائية والتحليلية الحديثة.(6)
الروتين كان المحرك الأساسي للرجل، ففي مكتب للمراهنات، تصبح القدرة على توقع المستقبل من أهم ما يمكن، وهو ما دفعه للاستعانة بعلماء وخبراء لا في مجال الإحصائيات (Statistics) والتحليلات (Analytics) وحسب، بل أيضا في علم النفس والاجتماع؛ لمحاولة تدريب موظفيه على التعامل مع الانحيازات المعرفية التي تدفعهم لتكوين قناعات وآراء وانطباعات غير منطقية أو متسرعة.(7)
What Mathew Benham is achieving with Brentford and Midtjylland is a really fantastic example of a data-driven approach to team-building and more.
Great piece this from @seaningle on @guardian_sport – https://t.co/NEpX7KdMp7 pic.twitter.com/5zAo9tisjy— Ninad Barbadikar (@NinadB_06) October 25, 2020
في مؤسسة بينام مثلا، كان كل موظف يستلم نسخة من كتاب دانييل كانيمان الرائع "التفكير بسرعة وببطء (Thinking Fast & Slow)" ليدرسه قبل أن يباشر عمله، وهو الكتاب الذي يتعرض فيه الفيلسوف لأنواع الانحيازات التي تؤثر في تفكيرنا وقراراتنا الواعية، وتمنعنا من اتخاذ القرارات الأكثر منطقية مقارنة بسياقها، أو في بعض الأحيان، تعمينا عن السياق برمته.(8)
نجاح بينام المدوي جذب أنظار الدانماركي رازموس أنكرسن، أحد ملاك نادي ميتيالاند، والرجل الذي يملك عدة مؤلفات مهمة في إدارة الأعمال والبحث عن مواهب كرة القدم، أبرزها "The Gold Mine Effect" و"Hunger in Paradise"، تتحدث عن كيفية تحقيق أقصى استفادة فنية ممكنة من مواهب مدفونة لأندية ذات موارد مادية محدودة مثل ميتيالاند.(9)(10)
القاعدة تقول إنه كلما تراجعت القيمة الفنية للاعبين، وكلما قلت قدرتهم على الإبداع الفردي وإيجاد الحلول بمفردهم، ازداد احتياجهم للأنماط المتكررة التي تمنحهم قدرا أكبر من التحكم لم يكونوا ليحققوه بمهاراتهم، وهو ما دفع بينام وأنكرسن لابتكار طرق جديدة لتحسين أداء هؤلاء اللاعبين، أبرزها كان تعيين مدربين مختصين للضربات الثابتة، بنجاح ضخم وصل إلى حد تسجيل الفريق نصف أهدافه في موسم 2018-2019 منها، وآخرين لرميات التماس كان أهمهم توماس غرونمارك الذي طلبه يورغن كلوب في ليفربول بالاسم، والأهم على الإطلاق، استخدام تحليلات الأهداف المتوقعة (Expected Goals) في تحديد المسارات الأكثر فاعلية للهجمات، والمواقع الأفضل للتسديد، والطريقة الأمثل للتسديد، بهدف هندسة الهجمة منذ بدايتها لنهايتها للوصول إلى وضعية هجومية محددة تصبح عندها احتمالية التسجيل في أعلى معدلاتها.(11)
Manchester City needs a throw in coach like Liverpool have, makes a difference.
— Rafael Hernández (@RafaelH117) November 8, 2020
سدد من هنا
هل يبدو كل هذا مألوفا؟ بالطبع، في بداية توليه المسؤولية، كان أرتيتا، مدرب أرسنال، يبالغ في الاهتمام بعملية بناء اللعب من الخلف لدرجة مزعجة أحيانا، ببساطة لأنه كان يحاول هندسة هجماته لتصل عند لاعب محدد في وضعية محددة، هذا اللاعب هو أوباميانغ الذي كان يمر بفترة ذهنية وفنية رائعة، ونجح أرسنال في الاستفادة منها للدرجة القصوى.
هذا يشبه محاولة إنتاج أغنية أو فيلم هذه الأيام، في البداية تعتقد أن كل شيء ممكن ومتاح ما دمت تمتلك الأموال الكافية، ثم تكتشف أن دراسات المستهلكين ستتحكم في كل شيء حتى تضمن نجاحه بما لا يدع مجالا للشك، الأبطال والسيناريو وأسلوب الإخراج وتوقيت العرض ومدة الفيلم، وحتى قصته.
في السينما لا يوجد من يريد خسارة الأموال، وفي كرة القدم لا يوجد من يريد خسارة وظيفته، وفي الحالتين، الجميع يبحث عن الفاعلية القصوى. ويبدو أن هذه الفكرة بدأت في ميتيالاند بالأساس. يُقال إن الفرق الصغيرة الجائعة التي لا تملك ما تخسره تكون الأكثر جرأة في محاولات الابتكار، والأكثر يأسا في تجريب حلول لن يلجأ إليها غيرها، بالطبع قبل أن يسرق الكبار المقتدرون هذه الحلول ويضيفوها لترسانتهم المدججة بالفعل.(12)(13)
ما كان يفعله ميتيالاند كان أشبه بالهندسة العكسية (Reverse Engineering)، وبعد مراكمة كم ضخم من بيانات الأهداف المتوقعة عبر السنوات، بدؤوا في دراستها بأثر رجعي: ما المواقع التي تمنحنا أفضل الفرص؟ وما سياق هذه الفرص؟ من يسددها؟ وبأي كيفية؟
استمر بينام ورفاقه من المحللين في تصفية النتائج حتى وصلوا إلى مجموعة من "الأنماط المتكررة" لبناء الهجمات. هذه المرة تجاوز الروتين عمليات بسيطة نسبيا، مثل رميات التماس أو الركلات الثابتة، إلى مساحة أكثر رحابة في اللعب المفتوح، بمحاولة تنميط هجمة بأكملها من بدايتها إلى نهايتها.
النتيجة أنهم صاروا يمنحون لاعبيهم تعليمات بالتسديد من مواقع معينة بتقنية معينة، والإحجام عن المحاولة من مواقع أخرى لا تثمر الكثير. الأمر يشوبه الكثير من الخرافات الجماهيرية بالطبع، وكان عليهم أن يفندوها بطريقة علمية تثبت لهؤلاء اللاعبين أن ما اعتادوه وألفوه وظنوه حقيقة، ليس صحيحا بالضرورة.
هذا يشبه ما ذكره ديفيد سالي وكريس أندرسن في كتابهما "لعبة الأرقام (The Numbers Game)"، إذ يحكي الثنائي عن دهشة جوزيه مورينيو، إبان وصوله للبريميرليغ في 2004، من الأهمية الكبيرة التي تحظى بها الركلات الركنية في إنجلترا، إذ تعتبرها الجماهير فرصة محققة لتسجيل هدف، بينما تتعامل مع التسديد البعيد من خارج المنطقة على أنه حل يائس يعبر عن قلة الحيلة والعجز، بينما الحقيقة أن الإحصائيات تظهر أن نسبة التسجيل من هذا أو ذاك تكاد تكون متساوية عبر تاريخ المسابقة.(14)
وهم التحكم
طبعا لقد توقعت ما سنقوله لك الآن: كرة القدم انتهت ولم يعد هناك شيء جديد لمشاهدته لأن الإحصائيات والتحليلات الرقمية قد قتلت الإثارة وحولت المباريات إلى مجموعة من السيناريوهات سابقة الإعداد، ولكننا لن نفعل.
لن نفعل؛ لأن هذا غير صحيح ببساطة. مرة أخرى، لقد تجاهلت كل هذه الحسابات العامل البشري ودراسات السوق نفسها ورد فعل المنافسين، والأهم من كل ما سبق، لقد تجاهلت حاجة الإنسان للمشاعر.
هذه هي المعضلة الأبدية التي سيظل البشر واقعين فيها حتى نهاية التاريخ، الروتين يمنحهم قدرا مطمئنا من التحكم والراحة النفسية والذهنية، وهذا يغريهم بمحاولة زيادة مساحة هذا الروتين أملا في مزيد من الراحة والتحكم، وعندما يحصلون على كل ذلك، يكتشفون أن المزيد من الروتين يجعلك تسأم الحياة، وبأسرع مما تتوقع.
ليزا فايرستون، طبيبة علم النفس الأميركية التي ترأس قسم الأبحاث والعلوم في مؤسسة غليندون، تعتقد أن الكثير من الروتين يقتل الحياة، ويجعلنا منفصلين عاطفيا عما يحدث حولنا. فايرستون تسمي هذه الوضعية بوضعية الطيار الآلي (Auto Pilot)، في محاولة لوصف تلك الحالة التي تسيطر فيها العادة على حياتك لدرجة أنها تحدث بلا مشاركة منك تقريبا، تحدث دون أن تعيشها.(15)
ربما تنطبق الفكرة ذاتها على مباريات كرة القدم أيضا، مهما حدث فلن يتمكن أي لاعب من مقاومة جرعة الأدرينالين الناتجة عن تجربة شيء جديد به قدر من المخاطرة والعصيان لتعليمات المدرب، ببساطة لأن هذا يعني توقفه عن الحياة. هذه ليست عبارة رومانسية بلهاء، بل حقيقة مثبتة لدى كثير من أطباء النفس، الإنسان يحتاج لقدر من التمرد على الروتين حتى يصبح للروتين ذاته أي معنى، وما تحاول كرة القدم الحديثة فعله، هو إبقاء رغبة التمرد تلك في مستوياتها الدنيا.
هل كان هذا هو ما منع حيلة أوباميانغ من الاستمرار في أرسنال؟ بالطبع لا، ولكنه سبب آخر تتجاهله النظريات التكتيكية في لحظة وضعها أحيانا، وهو رد فعل الخصم الذي يستطيع قراءة اللعبة بعد تكرارها، ومن ثم إجبارك على الإتيان بحلول جديدة، وتقصير عمر أي روتين تحاول ترسيخه في أذهان اللاعبين.
ربما لهذا السبب أصبحت التغييرات التكتيكية أثناء المباراة تتم بسرعة وكثافة غير مسبوقة في اللعبة رغم هوس التحكم المتزايد لدى المدربين ومساعديهم وحتى اللاعبين أنفسهم. هل هذا مطمئن؟ ربما، ولكنه مثير بلا شك؛ لأنه يعني أن إيغوزي لم يكن مخطئا تماما، التركيبات الموسيقية ليست بلا نهاية قطعا، ولكنها قد تكون كافية لتبقى اللعبة على قيد الحياة.
——————————————————————————————————
المصادر
- هل من الممكن أن تنفذ الموسيقي؟ – MIT
- إيران إيغوزي – MIT
- قوة تأثير الروتين في صحتك الذهنية – Psychology Today
- الروتين اليومي يساعدنا في الأوقات الصعبة – Psychology Today
- لماذا انتهى التطور التكتيكي في كرة القدم؟ – DW Kick off
- كتاب كريستوف بيررمان:"مخترقو كرة القدم؛ علم وفن ثورة البيانات" – Amazon
- "ما نفعله ليس علم صواريخ!"..كيف بدأ ميتيالاند الدانماركي ثورة البيانات في كرة القدم – The Guardian
- القصة الحقيقية لنادي ميتيالاند الدانماركي..النادي الذي يحاول العثور على المنطق وسط عواطف كرة القدم – The Independent
- كتاب رازموس أنكرسن: The Gold Mine Effect – Amazon
- كتاب رازموس أنكرسن: Hunger in Paradise – Amazon
- "أعمل على الكرات السريعة والطويلة والذكية!"..تعرف على مدرب ليفربول الجديد لرميات التماس – The Guardian
- فرانك لامبارد يعين مدربا جديدا بقدرات دفاعية للضربات الثابتة – Chelsea News
- تقرير خاص؛ تعيين أرسنال للمدرب أندريس غورغسون وأهمية الركلات الثابتة – The Telegraph
- كتاب ديفيد سالي وكريس أندرسن: لعبة الأرقام؛ لماذا قد يكون كل ما تعرفه عن كرة القدم خاطئا؟ – Amazon
- لماذا يعد كسر الروتين مهما؟ – Psychology Today