شعار قسم ميدان

لعبة الأرقام.. لماذا يسجل لوكاكو مثل رونالدو دي ليما؟

أهلا بك، في الجزء الأول من هذا التقرير (يمكنك قراءته من هنا) تحدّثنا عن مدى التطور التقني الذي ساعد لاعبي اليوم على أن يكونوا أفضل وأقوى وأسرع من لاعبي الماضي، وبالتالي مكّنهم من مراكمة إحصائيات أعلى في المجمل وبالمعدل، وفي الجزء الثاني نستكمل ما نعتقد أنه أسباب حقيقية لهذه الطفرة.

 

عنوان ميدان

Soccer Football - Friendly - Paris St Germain v Waasland Beveren - Parc des Princes, Paris, France - July 17, 2020 Paris St Germain's Kylian Mbappe reacts during the warm up before the match REUTERS/Gonzalo Fuentes
كيليان مبابي

هنا يدخل علم البيانات على الخط؛ في تحليل لعمر الشذري مدير قسم التقنية بمؤسسة "21st Club"، المعنية بتقديم خدمات البيانات لأندية كرة القدم والمؤسسات الرياضية، يقول إن التضخم في أسعار لاعبي كرة القدم المراهقين تحت 21 سنة الآن يزيد بنسبة 50% على الأقل عن أقرانهم الناضجين في سن 26 و27 سنة وما فوقها. هناك تغيُّر حقيقي في سياسة الانتدابات شهدته اللعبة في السنوات الأخيرة. (1)

 

نظرة سريعة للصفقات القياسية في العقود الثلاثة بين 1988-2008 تكشف لك أن أغلبهم كان يبلغ من العمر 26 عاما أو أكثر عندما أتمّ انتقاله، فقط 5 لاعبين خالفوا هذه القاعدة بنسبة أقل من 40%. اليوم تضم قائمة أغلى 50 لاعبا في التاريخ 14 اسما فقط ممن جاوز سنّهم 25 عاما لحظة انتقالهم، وحتى هذه الـ 40% تضم بضعة أسماء من عصر ما قبل 2008! (2)

 

سببان رئيسان لهذا التغير؛ أولهما التقدم الهائل الذي شهده علم البيانات، واستخدامه في الكشف عن المواهب في سن مبكرة، والثاني كان قانون بوسمان في منتصف التسعينيات، والذي بدأ تأثيره يظهر في الجيل التالي والذي تلاه. قانون بوسمان، وعلى الرغم من عدالته على المستوى الإنساني، فإنه سمح للأندية الغنية بتفريغ الأندية الصغيرة. (3)

 

تصاعد نسق التفريغ وصولا للحظة الحالية التي تُدفع فيها أرقام قياسية في لاعبين لم يتجاوزوا الحادية والعشرين من أعمارهم، ثم اتخذ هذا النمط طابعا صناعيا منظما، فأصبحت هناك أندية أشبه بخطوط التجميع، وظيفتها الوحيدة هي منح الفرصة للمواهب الشابة تمهيدا لبيعها لكبار السوق لاحقا.

إذا بحثت في الفترة التي سبقت 2008 فسيصعب عليك أن تجد أندية مثل موناكو وليون وبنفيكا وسبورتنج لشبونة قادرة على تجديد فِرَقها بهذه السرعة وتوفير بضائع جديدة كل موسم تقريبا، وكل ذلك خلق فجوات ضخمة، ضخمة لدرجة أنها قد توجد بين متتاليين في الجدول ذاته؛ في آخر 5 مواسم مثلا قام موناكو بتحصيل ما يفوق 800 مليون يورو من بيع لاعبيه الشباب. ثلثا هذا المبلغ على الأقل من لاعبين رحلوا إلى أندية تُنافس على دورياتها المحلية أو تفوز بها، وكل ذلك يحدث على بُعد مركز واحد فقط من باريس سان جيرمان الذي يخوض نهائي دوري أبطال أوروبا الأول في تاريخه! (4) هذه حالة متطرفة بالطبع، ولكنها موجودة بدرجات أقل في باقي الدوريات، الفجوة بين أوائل الترتيب ومَن يتلوهم تتسع شيئا فشيئا وتظهر على حقيقتها مع كل موسم جيد لهذه النخبة المحدودة.

 

أندية صغيرة تفقد أهم مواهبها الشابة مبكرا بلا أمل في تعديل الوضع أو عكس التيار، وأندية كبيرة تحصل على المواهب ذاتها وهي في سن المراهقة، والنتيجة لاعبون مراهقون يبدؤون مسيرتهم في أندية تمنحهم أفضلية كبيرة، فيُسجِّلون ويصنعون بمعدلات ضخمة لعدد مواسم أكبر، على عكس أقرانهم من الأزمان الماضية، والذين كانوا لا ينتقلون للأندية الكبيرة إلا في سن متأخرة.

 

نظرة أخرى لحقبة التسعينيات وبداية الألفية تؤكد لك حداثة هذا النمط، وإذا وضعنا الأرقام القياسية جانبا فإن أغلب أندية أوروبا الكبيرة في هذه الفترة لم تكن على استعداد لدفع مبالغ ضخمة إلا في نجوم حقيقية بالفعل تجاوزت عامها الخامس والعشرين. تورام لم يرحل من بارما حتى عامه التاسع والعشرين، روي كوشتا ظل في فيورنتينا حتى السن ذاتها، نيدفييد ترك لاتسيو في سن الثامنة والعشرين، إيمرسون كذلك، وسالاس ونيستا وكانّافارّو وكونشيشاو ومانشيني. الحالات أكثر من قدرتنا على الحصر.

 

الدليل الأهم في هذا السياق هو تكرار النمط الإحصائي نفسه مع بعض أساطير حقبة التسعينيات وبداية الألفية مثل توتّي وغيغز وراؤول وديل بييرو. هؤلاء لاعبون اكتُشِفوا في سن صغيرة وانتقلوا للمستوى الأعلى من المنافسة بسرعة، بالضبط مثل كيليان مبابي وهالاند وغيرهم، ونتيجة لذلك تمكّنوا من مراكمة أرقام باهرة للغاية بمقاييس عصرهم، أرقام صَعُب على الكثير من أقرانهم مضاهاتها؛ توتّي على سبيل المثال تمكّن من المشاركة فيما يقارب 500 هدف مع روما فقط، رغم أنه لم يكن مهاجما بالمعنى التكتيكي. غيغز تمكّن من صناعة 248 هدفا مع مانشستر يونايتد، وهو رقم يصعب حتى على نجوم العصر الحالي معادلته، وديل بييرو وراؤول شاركا مع أنديتهما بـ 418 و518 هدفا على الترتيب، على الرغم من معاناة الإيطالي مع يوفنتوس في السنوات الأخيرة، وتغيير مركز الإسباني في آخر مواسمه بريال مدريد. (5) (6) (7) (8) (9)

هذه المجموعة تحديدا تُقدِّم دليلا قويا على أن الفروقات بينهم وبين أقرانهم من العصر الحالي ليست فنية، بل هي أشبه بالفوارق بين الرماد الذي ركض عليه جيسي أوينز والبساط الصناعي الذي يركض عليه بولت.

 

عنوان ميدان

هذا يقودنا إلى عدة نقاط مهمة؛ مثل التطور التكتيكي الهائل والذي استغل التقنية للتعرف على اللاعبين بشكل أفضل، ووضع أنظمة لعب وأساليب أكثر ملاءمة لإمكانياتهم. طبعا يبدو هذا الكلام ساذجا عندما تأخذ في الاعتبار صفقات مثل ستونز وميندي إلى مانشستر سيتي وجواو فيليكس إلى الأتليتي وكوتينيو إلى برشلونة وغيرها، ولكن صدِّقنا؛ الماضي شهد ما هو أسوأ من ذلك بكثير. كل هذا ليس سوى غيض من فيض فيما يخص علم البيانات وتقدُّمه؛ على سبيل المثال يؤمن أغلب جمهور الكرة أن عدد المواهب الحالية أقل بكثير من الحقب الماضية، خاصة التسعينيات وبداية الألفية، ولكن الحقيقة أن العكس بالضبط هو الصحيح.

 

في المحاضرة ذاتها يوضح ديفيد إبستين أن تطور الذكاء الصناعي في الكشف عن المواهب سمح لأندية دوري السلة الأميركي في تمشيط الكرة الأرضية بحثا عن المواهب المناسبة والأجسام المناسبة، خاصة هؤلاء الذي يبلغ طولهم 7 أقدام أو أكثر، وهذا التمشيط نجح لدرجة أنك لو كنت مواطنا أميركيا تعرف 6 أشخاص يبلغ طولهم 7 أقدام أو أكثر، فإن واحدا منهم على الأقل يلعب في الـ "NBA"!

 

أمر مشابه حدث في كرة القدم، بل إن التطور الهائل في طرق الكشف عن المواهب سمح للعديد من اللاعبين بالحصول على فرصة لم يكونوا ليحصلوا عليها في الماضي بسبب مفاهيم خاطئة عن "الجسم المناسب للاعب كرة القدم"، والذي كان يرتكز على قاعدة الحجم بشكل أساسي، كلما كان أضخم كان أفضل، ومزايا مثل السرعة والذكاء كانت تحل في المرتبة الثانية بعد الحجم.

هذا كله تغيَّر جذريا الآن، ببساطة لأن الكشافين صاروا يبحثون عن الموهبة أولا بغض النظر عن الحجم. أرسنال كان فريقا مرعبا على المستوى البدني في مطلع الألفية؛ أطوال وأحجام تُثير خوف أي خصم، ولكن كل ذلك تغيَّر. مانشستر سيتي بطل البريميرليغ لموسمين متتاليين كان يمتلك خطين كاملين في الملعب خاليين تماما من أي أجسام قوية طويلة باستثناء فيرناندينيو. لاعبون مثل ديفيد سيلفا وفابريغاس وإنييستا وتشافي وتياغو وكوتينيو وغيرهم لم يكونوا ليحصلوا على فرصة في خط وسط قوي يصارع على الكرات الطولية أو يفتكها، ولاعبون مثل أغويرو وفيا كانوا ليتحوّلوا إلى مراكز أخرى بدلا من قلب الهجوم.

 

عنوان ميدان

هنا يطرأ السؤال المنطقي؛ لو كانت المواهب حاليا أكبر وأوفر من الحقب الماضية، فلماذا لا يشعر السواد الأعظم من جمهور الكرة بذلك؟ والإجابة تقع في تحليل قدّمه جوناثان ويلسون في 2012 عما سمّاه بـ "بييلسيزم"، نسبة إلى مارسيلو بييلسا، والمقصود هو كرة القدم السريعة التي تعتمد على الضغط والاستحواذ وبناء اللعب من الخلف كأفكار رئيسية. (10)

 

الـ "بييلسيزم" خلق موجة من التحولات ما زالت تُغيِّر اللعبة حتى اليوم؛ من ضمنها مثلا التراجع الشديد في مهارات الرقابة والمحاصرة والافتكاك لدى المدافعين، بعد أن قامت الأكاديميات بالتركيز على مهارات أخرى مثل التمرير والخروج بالكرة لتُلائم الأساليب التكتيكية الجديدة، وبالطبع سمح هذا لمهاجمي اليوم بتسجيل المزيد من الأهداف بصعوبات أقل.

 

ولكن أبرز تلك التأثيرات على الإطلاق كان النمط الميكانيكي الذي تحوّلت له كرة القدم في العديد من الأندية، وهو ما أشار إليه جوناثان ليو محرر الإندبندنت الإنجليزية في مقال طويل عن مفهوم "كرة القدم الجميلة"، قال فيه إنه كان معجبا ببرسا بيب أكثر من سيتي بيب رغم أن الأخير أكثر فاعلية وفتكا من وجهة نظره، والسبب في ذلك أن السيتي يلعب بطريقة ميكانيكية، وكأنه تحوّل بدوره إلى خط تجميع للأهداف؛ الكثير من التمريرات أمام المرمى الخالي تُنتج أهدافا لا تظهر فيها شخصية اللاعب أو مهارته، والتي تنسحق بدورها لحساب الجماعية، على العكس من فريق برشلونة الذي كان يمتلك لاعبين بشخصية قوية يمكن ملاحظة حضورهم وغيابهم بسهولة. (11) (12)

جوارديولا بارسا و جوارديولا سيتي
جوارديولا أثناء تدريب "برشلونة" وجوارديولا أثناء تدريب "مانشستر سيتي"

تلك هي الإجابة الأهم؛ أنت لا تشعر بحجم المواهب الموجود في اللعبة حاليا لأنها شديدة التخصص وشديدة الالتزام بدورها في المجموعة مقارنة بالماضي، وبالتبعية هي أقل فردية وسطوعا وسط الفريق، وهذا كله ناتج عن التعقيد التكتيكي الذي وصلت له اللعبة. كرة القدم اليوم تشهد عددا أقل بكثير من البينيات من العمق والانفرادات بالمرمى أو مواقف الـ 1 على 1 مقارنة بما مضى. نجاح أغلب الفِرَق في توجيه لعب الخصوم جهة أطراف الملعب قلّص الخيارات المتاحة للتسجيل، وفي بعض الأحيان حصرها في العرضيات فقط لا غير، الأمر الذي يعتمد على مجموعة مختلفة من المهارات لا تظهر فيها "شخصية" اللاعب كما اعتدناها في التسعينيات ومطلع الألفية.

 

حتى اللاعبون أنفسهم خضعوا تماما للثورة الإحصائية الجديدة والتقدم التكتيكي، وأصبحوا يهتمون بمراكمة الإحصائيات لينالوا مساحة أكبر من الأضواء في الإعلام ولدى الجماهير والكشافين والأستوديوهات التحليلية، ولكنهم يدركون تماما أن كل هذا يجب أن يتم في إطار المجموعة، والنتيجة هي آلات تُراكِم أرقاما خيالية في إحصائيات مثل التهديف والصناعة ولكن في سياق جماعي لا يمكن الانفصال عنه أو تجاهله، بالضبط مثل الفارق بين برسا بيب وسيتي بيب.

 

أضف إلى كل ما سبق عواطف النوستالجيا القوية التي يعاني منها كل مَن حضر التسعينيات وبداية الألفية، والتي تدفع الكثير من المشجعين إلى تجاهل حقيقة أن لاعبي هذه الفترة كانوا أقل استمرارية وثباتا في المستوى، لأنهم لا يتذكرون سوى لحظات لمعانهم وسطوعهم.

 

الأمر أكبر مما يمكن حصره في تقرير، في الواقع هو من التشعُّب لدرجة الحاجة إلى كتاب كامل يعالجه من كل الزوايا. نحن متأكدون من أننا لم نمنحك كل الإجابات، ولكن نأمل في أن نكون قد منحناك بعضها على الأقل.

______________________________________________

المصادر

  1. مقال عمر الشذري: أين نعثر على مبابي القادم؟ – 21ST CLUB
  2.  الصفقات القياسية التاريخية في كرة القدم – ترانسفير ماركت
  3. بعد عشرين عاما.. كيف غيّر قانون بوسمان وجه كرة القدم – سكاي
  4. انتقالات نادي موناكو – ترانسفير ماركت
  5.  إحصائيات توتي – ترانسفير ماركت
  6. إحصائيات ديل بييرو – ترانسفير ماركت
  7. إحصائيات راؤول – ترانسفير ماركت
  8. إحصائيات غيغز – ترانسفير ماركت
  9. كل الأرقام القياسية التي تم كسرها في انتقالات كرة القدم – بلانيت فوتبول
  10. تحليل جوناثان ويلسون: لماذا تُسجل أهدافا أكثر في كرة القدم الآن؟ – غارديان
  11.  الرقم القياسي للبريميرليغ يُكسر بـ1072 هدفا سُجِّلوا في موسم 2018-2019 – غول
  12. مقال جوناثان ليو: ما هي كرة القدم الجميلة؟ مفهوم تم التلاعب به عبر الزمن – إندبندنت