من كانتونا إلى بيليرين.. هل يحق للاعبي كرة القدم التعبير عن آرائهم بالمجتمع؟

"بالنسبة للآلهة، فنحن كالذباب بالنسبة للأطفال الصغار؛ إن قاموا بتعذيبنا فذلك من أجل متعتهم الخاصة".

"قريبا، لن يؤدي العلم إلى إبطاء شيخوخة الخلايا فحسب، بل سيُعالج العلم الخلايا قريبا، وسوف نصبح خالدين".

"فقط الحوادث والجرائم والحروب سوف تستمر في قتلنا، لكن لسوء الحظ، فإن الحوادث والجرائم والحروب سيتضاعف عددها". (1)

كان ذلك إيريك كانتونا، مقتبسا من مسرحية الملك لير، ومتحدثا عن علم الخلايا، وعن الحرب وعن القتل، والدماء التي ستُسفك، وعن القلّة المختارة التي ستنجو من كل ذلك العبث الذي سيحارب البشرية في القريب العاجل، وإن كنت معنا وقت أن قال إيريك تلك الكلمات، فعلى الأغلب كنا سنطلب منك ألّا تسألنا عن الرابط بين كل تلك الموضوعات وبعضها، لأننا على الأغلب لم نكن نعرف، حالنا من حال كل مَن استمعوا إليه معنا، وكل مَن كان حاضرا بإمارة موناكو آنذاك.

 

كان الأمر غريبا نوعا ما، أن يأتي أحد في حدث رياضي من الدرجة الأولى مثل حفل توزيع جوائز الأفضل في أوروبا ويُحدِّثنا عن عصر ما بعد الإنسانية، وعدم اقتران التقدم التكنولوجي الذي سيجعل البشر مخلدين في الأرض بالتقدم الأخلاقي الذي سيُخلِّف عددا من الوفيات والقتلى أكثر من المعتاد نتيجة للحروب والحوادث التي ستحدث وقتها، بدلا من أن يُحدِّثنا عن أنه ممتن للحظة التي جعلته موجودا معنا في موناكو وكل تلك المقدمات والأحاديث المكررة التي اعتدناها في مثل هذه المواقف. نعم، كان الموقف غريبا وقتها، غريبا لدرجة أنه لم يعِ أحد على الإطلاق عن أي شيء يتحدّث ذلك الرجل.

 

ولتفسير ما حدث وقتها، ينبغي لنا إلقاء نظرة على ذلك العجوز منذ أن اعتزل اللعبة، الرجل يعمل في مجال السينما، فيلسوف، وهي ربما صفة اكتشفتها أنت بنفسك من تلك الخطبة، له آراء ثورية دائما ومثيرة للجدل، مثل رأيه حول ثورات الربيع العربي وكونها مخططا من البلاد الغربية للاستمرار في استنزاف موارد الشرق الأوسط، ودفاعه عن المسلمين حول العالم، خصوصا بعد الهجوم الإرهابي الشهير على صحيفة شارلي إبدو، مهتم بقضايا اللاجئين وأحوالهم، مناضل ضد العنصرية، أيًّا كان الفصيل الموجهة نحوه. مَن هذا؟ لاعب كرة معتزل أم تشي غيفارا بُعِث من جديد؟ (2)(3)(4)

أشياء غير مألوفة

دائما ما كان هناك ما يُشبه العُرف السائد في المجتمع بخصوص ما يتحدث عنه المشاهير وأصحاب المناصب العليا به، فإذا كنت لاعب كرة قدم، فمن المتوقّع أن تُحدِّثنا عما ستفعله في مباراتك القادمة، وعن سعر منزلك الذي اشتريته في جزر المالديف العام الماضي، ربما يُطلَب منك أن تتضامن مع قضايا بعينها مثل العنصرية، وتكون في الأغلب ضمن حملة محددة تهدف للقضاء عليها، أو تتضامن مع ضحايا حادث إرهابي وقع في مكان ما ونال تعاطف العالم أجمع، ولا شيء آخر ربما، أليس كذلك؟

 

لكن ما فعله داني روز قبيل كأس العالم روسيا 2018 كان خطوة جريئة بكل المقاييس، عندما تحدّث عن معاناته مع تشخيصه بالاكتئاب بعد إصابته في ركبته في يناير/كانون الثاني 2017، وعن كل تلك الأزمات التي تعرّض لها هو وأسرته التي جعلته سريع الغضب وفي حالة حزن دائمة، الأمر الذي جعل موقفه من الاستمرار مع توتنهام هوتسبير في غاية الصعوبة، حتى خضع للعلاج والتأهيل سرا دون معرفة أي شخص من المقربين له سوى إدارة ناديه، كان الأمر بمنزلة أول تسليط حقيقي للضوء على قوانين الصحة العقلية العالمية منذ دخول آرون لينون لاعب إيفرتون السابق وبيرنلي الحالي لمصحة نفسية بعام 2017 إثر معاناته مع مرض الاكتئاب.(5)(6)

 "أعتقد أن هناك العديد من لاعبي كرة القدم الذين يعانون في صمت من الاكتئاب والقلق".

(آرون لينون، لاعب بيرنلي بعد تعافيه وعودته للملاعب في حواره مع بول ويلسون من الغارديان)(7)

ما فعله داني روز جعل قضية قوانين الصحة العقلية محل انتباه من جميع الأوساط الرياضية، وهو الأمر الذي دفع الظهير الإنجليزي، رفقة نجوم سابقين بالبريميرليغ وهم تييري هنري، بيتر كراوتش، جيرمين جيناس، غاريث ساوثغيت، والأمير هاري، للظهور في فيلم وثائقي من إنتاج "BBC" في الصيف الماضي للحديث علنا عن معاناتهم مع أمراض الصحة العقلية، في محاولة منهم لإنقاذ أي شخص يُعاني مثلما عانى لينون وروز في الماضي، وفي محاولة لإنقاذ أي رياضي من ذلك المصير الذي وصل إليه غاري سبيد عندما أقدم على إنهاء حياته عام 2011.(8)(9)

داني روز
داني روز

لماذا نحن هنا؟

ذلك سؤال صعب إذا أردت رأينا، لأن الأمور لا تسير بتلك الوردية التي سارت بها عندما عبّر داني روز عن نفسه، رغم سوداوية القضية التي تبنّاها بالطبع، لكن الإعلام والجماهير لن يتبنّوا ما يقوله اللاعب في كل مرة يخرج ويتحدث عن قضية محل حديث مجتمعي عريض في أي وقت من الأوقات، لأسباب عدة أبسطها على الإطلاق أن الجمهور ما زال غير مستعد لتغيير فكرته النمطية عن لاعب كرة القدم.

 

في البدء هناك دائما بديهيات يؤمن بها قطاع كبير من المشجعين، أولا، لاعبو كرة القدم هم حفنة من الجهلاء غير مكتملي النضج، على الأرجح، فهم قد خاطروا ولم يكملوا تعليمهم سعيا وراء كرة القدم، يحصد لاعبو كرة القدم الملايين من الأموال شهريا لذلك لا يملكون أية مشكلات في حياتهم، يرتدون ملابس فاخرة ومجوهرات من الألماس ويعزلون أنفسهم عن المجتمع وقضاياه خلف أسوار قصورهم الفارهة. كل تلك التركيبة غير الناضجة لا يمكنها أن تُكوِّن رأيا عن أي شيء يخص المجتمع، ليس لديهم الحق في الحديث إلا عما يحدث داخل البساط الأخضر فقط، وفي أغلب الأحيان يجب أن يكون ذلك الحديث متسقا مع مبادئ الروح الرياضية واحترام الخصم وما إلى ذلك. هذا ما يؤمن به المشجعون.

 

لذلك كان ما فعله داني روز بمنزلة خرق لكل تلك المُسلّمات، فلاعبو كرة القدم يعانون من مشكلات صعبة في حياتهم، يأخذون من كرة القدم أموالا كثيرا لكنهم لا يستطيعون استخدامها لعلاج أنفسهم من العوامل المجتمعية السلبية المحيطة، لاعبو كرة القدم غير معزولين عما حولهم، وفوق كل ذلك فهم بشر وليسوا مجرد آلات، والمفاجأة الأكبر أن لديهم مشاعر مثل أي إنسان آخر على وجه الأرض.

 

لكن هناك أسباب أخرى تتعلّق باللاعب نفسه وشعبيته، في الأغلب يخاف العديد من اللاعبين البوح بما في صدورهم من قضايا بعينها خوفا من خسارة متابعيهم، مثل قضية الهوية الجنسية التي تُعتبر واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في المجتمع تلك الفترة، والتي على الرغم من محاولة الدوري الإنجليزي سنويا دعم تلك القضية بإطلاقه حملة "LGBT Rainbow Laces" التي تجعل كل الفِرَق تضع ألوان الطيف على صفحاتها بمنصات التواصل الاجتماعي، وعلى شارات القيادة للاعبين، وعلى أربطة الأحذية وما إلى ذلك، فإننا حتى اللحظة لم نرَ أحدا من اللاعبين يخرج ويُعلن عن مثليته أو عن تضامنه أو اعتراضه على القضية عموما.

 

بل أيضا ما زالت المثلية الجنسية تُعتبر إهانة جسيمة من وجهة نظر المشجعين في حق اللاعبين، أبرز تلك الإهانات دوما كانت من نصيب هيكتور بيلرين، عبر كل منصات التواصل الاجتماعي، وحتى من خلال الحضور الجماهيري بالمدرجات، بسبب قصة شعره وشغفه بالأزياء، الأمر الذي دفع بيليرين لغلق الحساب الخاص به على تويتر لفترة مؤقتة لعدم تحمُّله كل ذلك الهجوم عليه، يرى بيليرين أن المشجعين ليسوا مستعدين لتقبُّل فكرة أن يخرج عليهم أحد اللاعبين ويُعلن عن مثليته الجنسية، وأن هذا أمر من الصعب أن يصبح مقبولا داخل الأوساط الكروية في إنجلترا وخارجها.(10)

"المشكلة تكمن في أن الناس كوّنوا وجهة نظر عن كيف يجب على لاعب كرة القدم أن يكون، وكيف ينبغي له أن يتصرف، وأي مواضيع يجب أن يتحدث عنها". (11)

(هيكتور بيليرين في حديثه مع "Times of London")

ليس بعد..

وبالعودة مرة أخرى إلى بيليرين، فالرجل يظل مثالا يُحتذى به للجيل الحالي من اللاعبين، عندما وجد الشجاعة الكافية لكي يُصرِّح علنا عبر تغريدة على حسابه بتويتر عن أفكاره تجاه قوانين تجريم الإجهاض بولاية ألاباما الأميركية بالعام الماضي، وبغض النظر عن توقيت وظروف تلك التغريدة، وعن مدى تأثير قانون أُصدِر في أميركا على شاب إسباني يعيش في إنجلترا، فإن تلك التغريدة هي مثال عملي على أننا كلنا نسعى جاهدين لتحقيق المساواة في كل جوانب الحياة تقريبا، وأنه لا يجب علينا أن نخشى من التحدث علنا، حتى لو كان الشيء الذي سنتحدث عنه لا يمسّنا بشكل مباشر، مثل قوانين تجريم الإجهاض بولاية أميركية بالنسبة لشاب إسباني يعيش في إنجلترا! (12)

 

لكن أكثر ما أثبته ذلك الموقف هو أن اللاعبين لم يكونوا أبدا بعيدين عن المجتمع ومشكلاته مثلما يعتقد الجماهير، وأن هناك فئة من اللاعبين تعي ما يدور حولها ومستعدة لإبداء آرائها وطرح حلول قد تُفيد في تغيير المجتمع إلى الأفضل، ليس في كرة القدم فقط فحسب، بل في أي لعبة رياضية أخرى. في الـ "NBA" مثلا قام لاعبو فريقي كليفلاند كافالييرز وبروكلين نيتس عام 2016 بارتداء قمصان أثناء فترة الإحماء كُتِب عليها "I Can’t Breathe"، في تضامن منهم مع قضية وفاة مواطن أسمر البشرة يُدعى إيريك غاردنر على يد أحد ضباط نيويورك بسبب بيعه للسجائر المهربة من الضرائب، الأمر الذي انتشر كالنار في الهشيم على كل صفحات التواصل الاجتماعي وجعل القضية محل جدل كبير، لدرجة أن واحدا من أهم لاعبي الـ "NBA" على الإطلاق، ليبرون جيمس الذي كان يلعب وقتها بكليفلاند كافالييرز، تبنّى القضية وتحدّث عنها علنا على صفحاته بمواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي جعلها قضية رأي عام كبيرة، وسرّع من البتّ في الحكم فيها الذي جعل الضابط الشرطي دانيال بانتاليو يُطرد من عمله إلى الأبد.(13)(14)

 

"الجميع يحب كرة القدم لأنك يمكنك من خلالها أن تقوم بكل الأشياء. يجب على الكثير من اللاعبين الحاليين والسابقين أن يستغلوا دورهم في المجتمع، إنه من المهم أن نشجعهم للنظر حولهم، إذا كانوا لا يريدون الحديث، أو يريدون أن يصبوا كامل تركيزهم على اللعبة، لا مشكلة من ذلك، لكن على الأقل يكون على دراية بما يحدث حوله، وفي نهاية الأمر، من الممكن أن نقوم بصنع شيء بسبب أنك تعلم ما يدور من حولك".

(إيريك كانتونا)(15)

لكن ذلك يقودنا إلى نقطة أخرى، وهي فرضا أن المجتمع تقبَّل فكرة أن لاعب كرة القدم من الممكن أن يكون له وجهة نظر مؤثرة نحو قضايا المجتمع نتيجة لدوره وشعبيته داخل جميع الأوساط، لكن هل سيحترم المجتمع رغبة اللاعب في الصمت؟ وكأن الآية قد عُكِست الآن، يواجه لاعبو الـ "NBA" مثلا صدامات في بعض الأحيان مع جمهورهم على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب عدم حديثهم عن بعض القضايا، وأبرز تلك الصدامات كانت عندما واجه ليبرون جيمس هجوما كبيرا من محبيه بسبب عدم حديثه ودفاعه عن قضية وفاة تامير رايس، حتى خرج جيمس وقال "إنه لا يستطيع التعليق على شيء لا يعرف عنه الكثير"، كان موقفا ذكيا من جيمس، احترم به مكانته ودوره بين جمهوره، لكن أنصاره لم يفهموه وقتها.(16)

 

في النهاية، نحن لا نرى أن أي حلول في الأفق لتلك القضية، ربما ستزيد جرأة اللاعبين رويدا رويدا في التعبير عن أنفسهم، لكن قلّة قليلة منهم هي مَن ستتحدّى توجهات جماهيرها ناحية القضايا التي تتحدث عنها، وقلّة قليلة من الجماهير هي مَن ستفهم أي شيء مما سيحاول اللاعبون قوله، في الأغلب سيتّهمونهم بالجنون مثلما فعلوا مع إيريك كانتونا عندما تحدث في حفل اليويفا، وبالعودة مرة أخرى إلى العجوز الفرنسي، فكانتونا في نهاية خطابه بالحفل قال: "أنا أحب كرة القدم، شكرا لك"، وهو ما نريد أن نقوله لك الآن، نحن نحب كرة القدم، شكرا لك، وداعا.

_______________________________________________________

المصادر

  1. خطاب كانتونا بحفل توزيع جوائز اليويفا – الغارديان
  2. دفاع كانتونا عن الإسلام بعد هجمات شارلي إبدو
  3. كانتونا يتحدث عن ثورات الربيع العربي
  4. تضامن كانتونا مع قضية اللاجئين
  5. حديث داني روز قبيل كأس العالم 2018
  6. دخول آرون لينون لمصحة نفسية بعام 2017
  7. حديث آرون لينون مع بول ويلسون من الغارديان
  8. حديث داني روز ضمن الفيلم الوثائقي A Royal Team Talk: Tackling Mental Health
  9. وفاة غاري سبيد
  10. حديث هيكتور بيليرين عن المضايقات التي يتعرض لها
  11. المصدر السابق
  12. بيليرين يتحدث عن قضية تجريم الإجهاض بفلوريدا
  13. الحكم بإيقاف عمل شرطي واقعة إيريك غاردنر
  14. موقف لاعبي الـ NBA من القضية
  15. إريك كانتونا يريد من اللاعبين أن يستغلوا قوتهم ليجدوا صوتهم
  16. موقف لاعبي الـ NBA من القضية

إعلان