شعار قسم ميدان

"مستنيك في الأنفيلد".. كيف قلب ليفربول سلاحه السري على نفسه؟

ميدان - "مستنيك في الأنفيلد".. كيف قلب ليفربول سلاحه السري على نفسه؟

مرحبا بك في تلك الأوقات التي يفقد بها الجميع عقله، الأوقات التي تمتزج بها أعراض قصف الجبهات مع آلام الحرقان من الحنكة الكروية في آنٍ واحد، في مشهد سيريالي مكرر، أو ربما لوحة فنية في غاية السوء أرغم الجميع على النظر والتعرض إليها عندما يخسر فريقهم المفضل لدرجة جعلت الكل يعتاد على نتائجها، مرحبا بك في عصر ما بعد الحرقان، الوقت الذي فقد فيه كل شيء قيمته ومغزاه الحقيقي.

   

لأن الجميع يكره ليفربول

هي عملية مكررة ومستهلكة، تتكرّر كلما ينهزم أحد الفِرَق الكبرى ليودِّع إحدى المنافسات، لا أحد يعلم متى بدأت بالظبط، البعض يقول إنها ظاهرة بدأت في الانتشار مع مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك آخرون يقولون إنها توسعت وبدأت في التبلور تحديدا مع سقطات جيل برشلونة التاريخي بعد 2009، وهناك تيار ثالث يقول إنها ظاهرة موجودة ومتوغلة في القدم منذ أن نشأت اللعبة في الأساس، ببساطة الفريق الذي يفوز كثيرا يحق له ولأنصاره كل ما يريدون قوله، لكن عندما يخسرون، فلن يرحمهم أحد.

     

احتفال أتليتكو مدريد بعد فوزه على ليفربول (رويترز)
احتفال أتليتكو مدريد بعد فوزه على ليفربول (رويترز)

   

"لو فازوا بالدوري فسيكون علينا أن نقوم بإخلاء شمال إنجلترا بالكامل، فقط تذكّر ما يحدث في بداية كل موسم والأحاديث التي لا تتوقف عن كونها سنتهم الموعودة ثم ضاعف كل ذلك لآلاف المرات! عندما فقد لاعبو ميلان ذاكرتهم لـ 45 دقيقة وأهدوهم لقب دوري الأبطال شعرت بأن باب الجحيم قد انفتح! كان الوضع لا يُطاق لسنوات، وبما أنه من المستحيل وصف الفوز بالدوري على أنه ضربة حظ فلن يتمكّن أحد من إسكاتهم هذه المرة. يجب أن يخسروا اللقب بأي ثمن!".

(ستيف تايلور، من مدينة كارلايل بإنجلترا) (1)

  

ما سبق هو جزء من استفتاء قامت شبكة "بي بي سي" بإجرائه في العام الماضي، في الوقت الذي كان يتنافس فيه ليفربول مع مانشستر سيتي منافسة محتدمة على لقب البريميرليغ. وعلى الرغم من أن تلك الكلمات البسيطة قيلت بعد ما يقارب الـ 15 عاما بين لحظة كتابتها وبين ذلك التاريخ الذي قلب فيه لاعبو ليفربول الطاولة على رأس كتيبة الميلان بإسطنبول، وهي آخر بطولة كبرى استطاع الفريق تحقيقها حتى عام مرّ، فإنها تُعبِّر عن وجهة نظر دارجة بين قطاع كبير من مناصري بقية الفرق.

  

الجميع يخاف من مبالغات جماهير الريدز في تقدير ذاتهم، والتي يبدو أن هناك الكثير من الأشخاص يعانون منها، وإحقاقا للحق، فإن هناك بعضا من تلك المبالغات لا تُحتمل، وحتى مع الوضع في الاعتبار كون أننا نتحدّث هنا عن فريق لم يُحقِّق لقب البريميرليغ منذ 30 عاما، وأننا نتحدّث هنا عن فريق تعرّض لهزائم دمّرته معنويا وفنيا طوال ربع قرن تقريبا، وأننا نتحدّث هنا عن جمهور يتعرّض كل يوم لمدة ستة أعوام متتالية للتذكير بأسوأ سيناريو ممكن لخسارة دوري بالتعثر الشهير، أو أسوأ سيناريو ممكن لتوديع أسطورة فريقهم المفضلة. ستظل تلك المبالغات غير منطقية ولا يتحملها بشر، مثلما لم يتحمّل جمهور ليفربول كل تلك الأحداث التي عاصرها.

    

   

بالطبع من الصعب مطالبة جمهور مثل ذلك بالتعقل بعد كل ما حدث في حقه طوال تلك الأعوام، وما يزيد من صعوبة الأمر هو أنه قدرا يتصادف توقيت تلك المطالبات مع الفترة التي يعيش فيها المشجعون مع ناديهم أعظم لحظاتهم على الإطلاق، وهي الفترة التي لا عجب أن يروا بها جوردان هيندرسون أعظم لاعب في تاريخ الملاعب الإنجليزية أو أندري روبيرتسون أعظم ظهير أيسر في العالم، أو أن فريقهم الحالي هو أفضل فريق في تاريخ اللعبة، بعيدا عن مدى صحة أو كذب تلك الادّعاءات، لكنها ستظل مبالغات طالما يتمادى المشجعون في تكرارها في كل الأوقات، سواء كان لاعبوهم يُقدِّمون ذلك الأداء الذي يستحق كل تلك الموجة الجارفة من الإشادات أم لا.

   

مستنيك في الأنفيلد

وأزمة تلك الموجة المبالغ بها في تقدير الذات أنها خرجت من إطارها الطبيعي وسط قطاع الجماهير وانجرفت إلى داخل الفريق نفسه، فأصبح هناك نغمة لم نعهدها من قبل وسط الجهاز الفني ولاعبي الفريق، بدأت بتقليل كلوب من أسلوب أتليتكو مدريد في مباراة الذهاب بالواندا ميتروبوليتانو، وسخريته من سيميوني قائلا إنه لم يشاهد المباراة لأنه كان متفاعلا مع الجمهور، ثم استمرت بأحاديث كلٍّ من روبيرتسون وكلوب شخصيا عن جحيم الأنفيلد والمعجزات التي تحدث على أرضه والجمهور الذي يستطيع تغيير كل شيء بحضوره في المدرجات. (2) (3)

   

أعطت تلك التصريحات انطباعا جديدا عن الفريق ولاعبيه وسط طبقات المشجعين كلها أن الفريق أُصيب بالغرور بسبب النتائج الخارقة التي يُحقِّقها رفقة الألماني يورغن كلوب، وأعطت أيضا انطباعا لدى الجميع أن ذلك الفريق، بعد خمسة أعوام من وجود الألماني رفقتهم، لم يَعُد الفريق نفسه الـ "Under Dog" الذي اعتادوا عليه.

    

يبدو مدرب ليفربول
يبدو مدرب ليفربول "يورغن كلوب" محبطًا وهو يصفق للجماهير بعد المباراة بين ليفربول و أتلتيكو مدريد (رويترز)

  

وهنا وقع ليفربول في الدائرة المفرغة نفسها التي وقع بها العديد من الفِرَق في الأعوام السابقة، وهي الفترة التي تتزامن مع مرحلة الكمال الكروي الذي يُقدِّمه أي فريق في أي مرحلة كانت، بالتأكيد الجميع يتذكر موجة الغضب والكراهية التي شعر بها الجميع عندما حمل ريال مدريد لقب دوري أبطال أوروبا في ثلاث مناسبات متتالية، أو ذلك الحنق الذي أصاب الجميع من الفترة الاستثنائية التي عاشها برشلونة رفقة بيب غوارديولا وإنريكي إبان موسمَيْ السداسية والخماسية الأشهر في تاريخ الفريق بالأعوام السابقة.

   

الجميع يكره فكرة الاحتكار، وفكرة أن هناك شخصا ما يظن أنه لا يُقهر، وسواء أكان ذلك الشخص بالفعل لا يُقهر أم لا، فسيظل الجميع منتظرا أول سقوط له لكي يُعيد تكرار دورة الجلد وقصف الجبهات المجانية التي يحصل عليها جميع مشجعي فِرَق الكوكب، ومثل تلك التصريحات التي ظل يقولها أفراد فريق ليفربول منذ مباراة الذهاب، وفكرة الاعتماد الكلي على الأنفيلد والاستهانة بما يستطيع الخصم أن يفعله -بعيدا عن قدرة الخصم على أن يكون له وجود في المباراة من الأساس أم لا- عزّزت رغبة الجمهور في رؤية ليفربول في لحظة ضعف لكي يذيقوه العذاب ألوانا.

     

   

لماذا لا يتعلم أحد الدرس؟

وبالحديث عن ليفربول ودوره في صناعة الأزمة نفسها، فكلوب نفسه كان أحد العناصر التي ساهمت في حالة الاحتقان تلك بين الجماهير وبعضهم، فالرجل لا ينفك عن الاعتراض على أي فريق يلعب أمامه بطريقة تُصعِّب الأمور عليه في الملعب، وعلى الرغم من ذلك فهو لا يجد من المخجل أن يلعب أحيانا بأسلوب مشابه لذلك الذي يتّبعه سيميوني أو أن ينتفع ببعض الحظ لكي يجمع نقاط بعض المباريات التي يحاصر بها.

   

فكلوب ليس عنده مانع في أن يلعب أمام أشبيلية هناك في الرامون سانشيز بيزخوان شوطا رائعا ويحرز به ثلاثة أهداف، ثم يعود إلى ثلث ملعبه الأخير بالشوط الثاني لكي يضمن النتيجة، وليس عنده اعتراض أن يفوز وهو في أقل وأضعف لحظاته أمام شيفيلد يونايتد بهذا العام بهدف أخطأ في تقديره حارس مرمى الخصم، ثم يخرج ويقول بعدها إنه ليس عنده اعتراض أن يفوز بذلك الفوز القبيح لأن فريقه يستحقه، وليس عنده مانع أن يحرز ثلاثة أهداف على مانشستر سيتي بالأنفيلد في هذا العام ثم سيعود أدراجه طوال الشوط الثاني للحفاظ عليهم، أما إذا حدثت ضده فسيكون الفريق الخصم لا يلعب كرة قدم مناسبة للمعايير الخاصة به. (4)(5)

    

وبالحديث عن المعايير، فلا أحد يدرك ما المعايير الخاصة بكلوب، فعلى النقيض تماما، كلنا نعرف معايير كرة سيميوني التي يُقدِّمها، لكن هل يوجد أحد على وجه الكرة الأرضية عنده تعريف شامل للمعايير التي يحتاج إليها أي فريق ليلعب بأسلوب ليفربول بالوقت الحالي؟ الفريق يلعب بأي أسلوب سيضمن له الفوز، وتلك فلسفة تُحترم بالمناسبة، لكن لا تأتي رغما عن كل ما تُقدِّمه وتطلب من الآخرين أن يلعبوا بمعايير ما تناسبك في حين أنك شخصيا لا تتبع كل هذا الهراء!

        

سيميوني لديه قدرة عجيبة على تطويع المباراة بالطريقة التي يريدها، أيًّا كان الفريق الذي يُلاعبه وأيًّا كان أسلوبه
سيميوني لديه قدرة عجيبة على تطويع المباراة بالطريقة التي يريدها، أيًّا كان الفريق الذي يُلاعبه وأيًّا كان أسلوبه
  

"بالطبع كانت تلك ضربة حظ، الرأسية والطريقة التي دارت بها الكرة، لكنني قلت للأولاد بعد المباراة إن هناك 500.000 طريقة مختلفة للفوز بمباراة كرة قدم واليوم كانت طريقة قبيحة. لا مشكلة لنا مع هذا. بدون القليل من الحظ لن نستطيع أن نكون بالمركز الذي نحن به الآن. هذا غير ممكن. الأولاد عملوا بشكل قوي للغاية، وأعتقد أنهم يستحقون القليل من الحظ".

(يورغن كلوب بعد مباراة ليفربول وتوتنهام 2-1 بالعام الماضي) (6)

     

لكن لا بأس من كل ذلك، فكل مُدرّبي العالم يقعون في ذلك الفخ عندما يلعب الخصم بطريقة ما لا تروق لهم، بيب وقع بها في العديد من المرات مثلا، إحداهم عندما قال: "إنه ليس من السهل عندما لا تريد نيوكاسل أن تلعب"، في إشارة منه إلى اعتراضه على أسلوب لعب نيوكاسل الدفاعي أمامه قبل عامين، أو عندما قال بيب في مرة من المرات مع خورخي فالدانو إن سيميوني ذاته أخبره صراحة أنه لا يحب الكرة التي كان يُقدِّمها مع برشلونة، لذلك المشكلة الكبرى ليست في أن كلوب تحدث وقال مثل تلك الأحاديث عن أتليتكو ومدربهم ومشجعيهم، على الرغم من أن ذلك لا ينفي أنها مشكلة بدورها، لكن المعضلة في أن ذلك الكلام الذي قاله بالظروف التي قيلت بها لم يكن من الصواب إطلاقا، بغض النظر عن أن حديثه في باطنه كان يحمل وجهة نظر سديدة. (7)(8)

   

لكن إذا أردنا أن نعطي بعض الإنصاف للرجل، فنحن هنا يجب أن نضع أنفسنا في محله، وهو منهزم من أتليتكو سيميوني، وبذلك السيناريو تحديدا، هذا هو ما نقدر على تسميته الشعور بالحرقان، ولكن ليس ذلك النوع من الحرقان الذي يتحدث عنه المشجعون بين بعضهم، بل حرقان في الرأس من الطريقة المستفزة التي أُقصي بها الفريق، وهو شعور استطاع أن يُذيقه سيميوني لكل عمالقة العالم تقريبا في السنوات العشر الماضية، يكفي أن تعرف أن أتليتكو سيميوني لم يُقصَ من الأدوار الإقصائية في دوري أبطال أوروبا على مدار تاريخه إلا من فريق يلعب به كريستيانو رونالدو، هذا رعب في حد ذاته. (9)

      

   

سيميوني لديه قدرة عجيبة على تطويع المباراة بالطريقة التي يريدها، أيًّا كان الفريق الذي يُلاعبه وأيًّا كان أسلوبه، سواء بالتمريرات الكثيرة واللعب من العمق مثلما عشق بيب أن يفعل مع بايرن عام 2016، أو باللعب الأكثر مباشرة على المرمى مثلما أحب إنريكي وكلوب أن يفعلا مع برشلونة وليفربول بأعوام 2014 و2020 على الترتيب، لن تلجأ أمامه إلا للعب من الأطراف وإرسال العرضيات، والتي سيتمكّن فريقه منها في كل الأحوال، ذلك هو منفذك الوحيد لمرماه، وحينها ستُصاب بالحرقان وسيكون أكثر كوابيسك رعبا، لكن عندما تصل إلى مرماه ثلاثة أضعاف المرات التي وصل فيها إلى مرماك، وتراوغه قرابة الخمسة أضعاف التي راوغ فيها لاعبيك، وتُسدِّد 11 تسديدة على المرمى وتسديدتين بالقائم والعارضة، ويلعب أمامك واحدة من أسوأ المباريات في تاريخه هو الشخصي كمدير فني من خارج الخطوط، ثم يخرج علينا الجهابذة بالأستوديوهات التحليلية قائلين إن سيميوني لعب مباراة كبيرة وفاز بالحنكة الكروية وشخصية البطل المعهودة، حينها لن تكون كلمة حرقان كافية لما ستشعر به ناحية ذلك الرجل. (10)

   

ومع الأسف، هنا تكون النهاية، وهي ليست سينمائية للأسف، لأنك لن تتمكّن من أن ترى أي شيء بوضوح معها، لماذا؟ لأن سيريالية المشهد ستظل موجودة بمكانها، واللوحة السيئة سنظل ننظر إليها في كل مرة. الجماهير لن تجد تفسيرات منطقية لكره المشجعين لليفربول رغم أنها كثيرة، ولن يتمكّن أحد من تفسير تلك الطريقة التي خرج بها الريدز على ملعبهم، وفوق كل ذلك، لن يجد أحد تفسيرا لتلك المعجزة التي تأخذ بيد سيميوني كل موسم إلى عبور الأدوار الإقصائية بتلك البطولة.

المصدر : الجزيرة