مُحلِّلو الفيديو الجدد.. تعرف على شرطة كرة القدم!
"اللاعب، أي لاعب، لا يرغب في الجلوس في قاعة محاضرات والاستماع إلى تعليمات مدربه على لوحة بيضاء صماء، حتى لو كانت أهم تعليمات في تاريخ اللعبة، وحتى لو كانت ستضمن له الفوز بنهائي كأس العالم.. اللاعب لا يريد سوى ركل الكرة على العشب!"
(مقولة شائعة بين مدربي كرة القدم)
منذ فجر اللعبة في أواخر القرن التاسع عشر كانت تلك هي المعضلة؛ كيف تقوم بتوصيل الأفكار التكتيكية إلى مجموعة من الشبان المتحمسين الذين يعتبرون الجلوس في قاعة المحاضرات عقابا لهم؟ كيف تُنظِّم هذه الطاقات والمواهب لتُحقِّق أقصى ما يمكن تحقيقه؟ كيف تقنع اللاعبين أن شرح التعليمات على الألواح التكتيكية مهم مثل التدريبات البدنية بالضبط، خاصة عندما يأتي أغلبهم من خلفية ثقافية تؤمن أن كرة القدم هي وظيفة تتعلمها أثناء ممارستها، وأن السبيل الوحيد للتحسُّن فيها هو قضاء المزيد من الوقت في ركل الكرة؟
في كتابه "سوكرنوميكس" (Soccernomics)، يؤكد سايمون كوبر أن تلك كانت واحدة من أهم مشكلات الكرة الإنجليزية على سبيل المثال؛ وهي أن أغلب اللاعبين يأتون من خلفيات اجتماعية فقيرة وبسيطة نسبيا، وهؤلاء يتحوّلون إلى مدربين وإداريين لاحقا، بالتالي ينغلق مجتمع كرة القدم الإنجليزي على نفسه، ويلفظ كل مَن لا ينتمي إلى هذه الطبقات، ومثلما تحصل كرة إنجلترا على مزايا هذه الخلفيات، من إصرار وقوة شخصية وخبرات مهمة في الحياة، فهي كذلك تحصل على عيوبها، من إيمان بالخرافات ومعاداة للعلم والتطور والتغيير. (1)

أحد المسؤولين في الاتحاد الاسكتلندي حكى لكوبر أثناء إعداده للكتاب في 2009 أن كل محاولاته للتطوير كانت تُقابَل بالسخرية باعتبارها كلاما فارغا مكانه قاعات المحاضرات في الجامعات المُكلِّفة، وكان الجميع يؤكد له في يقين أن كرة القدم تُدرس في الملعب لا في صفحات الكتب وألواح التكتيك، بل إنه أخبره أن لفظة تكتيك ذاتها كانت سيئة السُّمعة، ومرادف التحذلق والتذاكي في كثير من الأحيان.
هذا هو ما جعل إنجلترا تتأخر على الصعيد التكتيكي عن أقرانها الأوروبيين رغم كونها مهد اللعبة، وحتى هذه اللحظة، ما زالت المشكلة قائمة في كل دول أوروبا والعالم، لأن أغلب اللاعبين لا يزالون يأتون من الشرائح الاجتماعية والثقافية نفسها، وبعد الثورة العلمية والتكتيكية والرقمية التي شهدتها اللعبة في الأعوام الأخيرة، ما زالت قوة المقاومة الرئيسية هي اللاعبين أنفسهم! (2)
كان هذا حتى فكَّر روبن سافدرا في فكرته. روبن كتالوني كان يعيش في أمستردام ويدرس علم الأعصاب ليحصل على درجة الدكتوراه، وكان يقوم بالكثير من التجارب في معمله على القردة والفئران ليراقب ردود أفعالهم وتحرُّكات عيونهم وتعبيرات وجوههم إزاء المواقف المختلفة، وليفعل كل ذلك كان يستخدم ما يُعرف ببيانات التتبع (Tracking Data). (3) (4) (5)
بيانات التتبع (Tracking Data) هي تقنية تتيح لك تحديد عناصر رئيسية في صورة متحركة لتقوم هي بمتابعة حركتها ثم محاكاتها عبر رسوم مبسطة يمكن قياس أطوالها وأبعادها وإجراء مزيد من التجارب عليها، وفي هذه الحالة كانت العناصر هي أرجل الفئران وعيون القردة وغيرها، ولكنها تقنية يمكن استخدامها على أي شيء تقريبا.
بعد فترة تعرَّف سافدرا على برونو داغنينو، عالم أعصاب آخر كان يدرس للحصول على درجة الدكتوراه أيضا، وبعد أن اكتشف الثنائي شغفهما وحبهما المشترك لكرة القدم، قرّرا استخدام كل ما يعرفانه لإحداث ثورة في عالم اللعبة.
"أنا الشخص الذي يخبر المدرب إن كان لاعبه يتموقع بشكل خاطئ في أي لقطة من لقطات المباراة. أحد اللاعبين أتاني وقال لي؛ أنت الشرطي إذن؟!".
(روبن سافدرا)
ما فعله سافدرا وداغنينو هو أنهما قرّرا استخدام بيانات التتبع (Tracking Data) على مباريات كرة القدم. هذا ليس بجديد بالمناسبة، بل هي تُستخدم على مباريات كرة القدم منذ سنوات، الجديد هو أنهما قرّرا إحداث بضعة تعديلات على الأمر من خلال منصة جديدة يمكنها حساب المسافات بين اللاعبين وقراءة تحرُّكات الخصم المُتوقَّعة في كل موقف، الأمر الذي لم يكن متاحا من قبل، وكان يحتاج إلى تدخُّل بشري في كل لقطة وكل مشهد، مُسبِّبا معضلة أبدية لمُحلِّلي الفيديو بعد كل مباراة.

فلنفترض أن فريقك قد لعب مباراة يوم السبت، حينها لن يمتلك مُحلِّل الفيديو سوى يوم واحد هو الأحد لتقطيع شريط المباراة وتجميع اللقطات وتحليلها واكتشاف الأخطاء ليعرضها على اللاعبين يوم الاثنين قبل مباراة الثلاثاء مباشرة، وكل هذا كان يُعطِّل تدارك الأخطاء على المدى البعيد، بالإضافة إلى أن أخطاء التمركز كانت دائما تُثير الكثير من الجدل في غرفة المحاضرات، ففي بعض الأحيان مثلا يخبر المدرب ظهيره الأيمن أن المسافة بينه وبين قلب الدفاع لا يجب أن تزيد على 12 مترا، وحينما يعرض عليه اللقطة قائلا إن المسافة كانت أكبر من اللازم، كان اللاعبون يجادلون في الأمر باعتباره خاضعا لوجهات النظر.
الآن مع برنامج سافدرا وداغنينو كل ذلك قد انتهى. على سبيل المثال، هم يذهبون للمدرب ويسألونه عن المشكلة التي يواجهها باستمرار، فيُخبرهم مثلا أن لاعبيه لا يُجيدون التمركز في رميات التماس ويسمحون للخصم بإخراج الكرة من على الخط إلى الطرف العكسي من الملعب، الذي غالبا ما يظهر فيه لاعب معزول يمكنه استلام الكرة بأريحية والتقدُّم بها، فيسألونه بعدها عن التمركز المثالي الذي يريده لكل لاعب من فريقه؛ المسافات المناسبة ودرجة الرقابة وغيرها، ويُدخلون كل هذه البيانات على برنامجهم، ثم يمنحونه كل لقطات رميات التماس في المباراة، ويبدأ البرنامج في عملية بطريقة أوتوماتيكية تماما بحساب المسافات والمواقع والثغرات طبقا لتفضيلات المدرب، وحينها يمكن للمدرب أن يُظهِر هذه الأرقام للاعبيه على الملعب بشكل قاطع غير قابل للشك أو الجدل، وبذلك هو يجمع بين التثقيف التكتيكي وبين لقطات الفيديو الحية التي يُفضِّلها اللاعبون مقارنة باللوحات البيضاء الصماء التي تعتمد بالأساس على الخيال.
We just need a partner to join us in this project.
Let's help the analyst community thrive in their efforts to establish a new culture of analytics in football!— Rubén Saavedra (@MetricaRuben) May 20, 2020
يقول سافدرا إن المدربين في الأندية الكبرى لا يرغبون في مشاهدة الأرقام والجداول والمنحنيات، بل يريدون أن تظهر كل هذه البيانات على لقطات حية من المباراة الفعلية، وهذا هو الجديد الذي يُقدِّمه الكتالوني ورفيقه الأرجنتيني. (6)
طبعا نحن نعلم ما ستقوله الآن؛ أليس هذا ما يحدث في كل أستوديوهات التحليل حول العالم؟
والإجابة هي: نعم، ليس هذا ما يحدث.
We´ve just released an upgrade on our automatic Field Detection technology, now optimized for broadcasted games! 🚀
What does this mean?
Plot quantifiable information and field-related graphics on videos from television.pic.twitter.com/nx3oXPDhh1— Metrica Sports (@MetricaSports) October 30, 2020
في كل الأستوديوهات التحليلية يكون هناك شخص مختص برسم هذه الأسهم والخطوط على كل لقطة بعد إعداد سابق مع المُحلِّلين، وحتى في مجال البيانات الإحصائية فإن بيانات التتبع تُدْخَل بشكل "يدوي" إن جاز التعبير، ولكل لعبة بشكل منفصل، وما يُقدِّمه سافدرا وداغنينون سيختصر على مُحلِّلي الفيديو الكثير من الوقت طبقا لشون أوكالاهان مُحلِّل الفيديو في نادي ستوكبورت الإنجليزي.
ما يتبقّى لتعرفه هو أن كل ذلك حدث منذ 7 سنوات تقريبا، والآن تضم قائمة عملاء سافدرا وشركته "متريكا" أندية مثل فياريال ونيس ومنتخبات إسبانيا والبرتغال. طبعا من السهل توقُّع المشكلة مع كل تقنية جديدة من هذا النوع؛ وهي أنه، مع الوقت، سيمتلكها الجميع، من ثم سيبدأ أمثال سافدرا في ابتكار تقنيات جديدة تتفوق على القديمة، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
——————————————————————-
المصادر
- سوكرنوميكس؛ لماذا تخسر إنجلترا وتفوز البرازيل؟ – سايمون كوبر وستيفان زيمانسكي – أمازون
- السؤال؛ كيف سيتطور التكتيك على مدار العقد القادم؟ – غارديان
- مقدمة في بيانات التتبع – ستاتس برفورم
- كيف يمكنك استخدام بيانات التتبع في تحسين لاعبيك؟ – سوندا سبورتس
- ثورة تحليل الفيديو في كرة القدم.. من أغنى الأندية إلى الجماهير العريضة – سكاي سبورتس
- متريكا: تحليل فيديو وإحصائيات متطورة – الموقع الرسمي