شعار قسم ميدان

هربا من الديون.. كيف تحوَّل بروسيا دورتموند إلى منجم مواهب أوروبا؟

لا يكاد يمر سوق انتقالات إلا ويرتبط اسم أحد لاعبيه بكبرى الأندية في أوروبا، دائما يكون الوجهة الأولى لإدارات ومدربي وكشّافي الفِرَق أثناء السعي وراء إبرام الصفقات، التي عادة ما تتميز بقدر كبير من الإثارة، عكس تلك التي يُبرمها الفريق سنويا ولا نكاد نشعر بها إلا عندما تتألق.

 

لمعرفة هوية هذا الفريق لن نحتاج إلا إلى التفكير لبضع دقائق في مَن هو اللاعب الذي نتمنى أن ينضم لفريقنا المفضل؟ بالطبع ستختلف الإجابات فيما بيننا، ولكننا نؤكد لكم أن أغلب الخيارات لن تخرج عن لاعبين يلعبون في صفوف الفريق، أو لاعبين رحلوا عنه، إنه ببساطة بوروسيا دورتموند الألماني.

 

الأمر في دورتموند لا يتوقف فقط عند بيعه لعدد كبير من لاعبيه سنويا، حيث يقابل ذلك رغبة كبيرة من الشباب والناشئين في الالتحاق بصفوف الفريق في سن مبكرة؛ رغبة منهم في التطور وضمان المشاركة المستمرة، فهو أصبح بمنزلة المنجم الذي يوفر بيئة خصبة لإنتاج المواهب في القارة العجوز.

 

عنوان ميدان

تلك الحالة التي يعيشها النادي الألماني لم تكن وليدة اللحظة ولا حتى سنوات قليلة ماضية، ولكنها تعود إلى بداية الألفية الجديدة، وتحديدا بعد فوز دورتموند ببطولة البوندسليغا للمرة الثالثة في تاريخه عام 2002، وبعد تتويج أوروبي تاريخي في عام 1997، وقتها بدأ النادي سياسة إنفاق سخية للغاية، وطالب لاعبوه بأجور أعلى، ونشط النادي في سوق الانتقالات ببذخ كبير، معتمدا على أرباح جيله الذهبي في التسعينيات.

 

ولأن مثل هذه الأوقات لا تدوم طويلا، فسرعان ما تحوَّلت تلك الأرباح إلى تراكم ديون بلغ أكثر من 100 مليون جنيه إسترليني، في هذه اللحظات أظهر الغريم بايرن ميونخ لافتة طيبة، وأقرض منافسه قرضا بقيمة مليونَيْ جنيه إسترليني، وكانت هذه الخطوة التي حوَّلت بوصلة النادي الألماني.(1)

بدأ هانز يواكيم فاتسكه مهمته الجديدة في إدارة النادي المَدِين، عاقدا العزم على سداد ديونه أولا بأول لا سيما هذا القرض الذي اقترضه من الأثرياء في ميونخ، وفي 14 مارس/آذار 2005، جمع مستثمري النادي في اجتماع تاريخي، حضره 444 مستثمرا استمعوا خلاله إلى فاتسكه الذي أخبرهم بصعوبة استرداد أموالهم في الوقت الحالي، وأن الإدارة صممت خطة إنقاذ للنادي وعليهم التحلي بالصبر، وبالفعل وافق المستثمرون على الخطة، وأعطوهم مزيدا من الوقت لتنفيذها، ونجح الرجل المنقذ في مهمته الأولى.

 

في الوقت نفسه لم يجد فاتسكه أفضل من مايكل زورك، الذي حقّق ثنائية الدوري ودوري أبطال أوروبا مع الفريق، ولم يعرف طوال تاريخه ناديا غير دورتموند، وجدّد الثقة فيه كونه مديرا رياضيا للنادي، وذلك من أجل تطبيق خطة إنقاذ النادي، الذي أدرك منذ اليوم الأول له في منصبه بأنه لن يستطيع الإبقاء على أفضل لاعبيه لأنه لا يملك الأموال التي يملكها برشلونة وريال مدريد وأندية الدوري الإنجليزي.(2)

 

عنوان ميدان

في أولى خطوات تنفيذ الخطة لم يُنفق النادي جنيها واحدا في سوق الانتقالات موسم 2004-2005، وفي المقابل بدأ يتخلص من نجوم الفريق ذوي الرواتب العالية، الذين رحلوا إلى كبار الفِرَق في أوروبا تماما مثلما يحدث الآن، ولم تتجاوز ميزانية الفريق على الانتقالات المليوني يورو.(3)

 

في أغسطس/آب عام 2009، أجرى موقع النادي مقابلة خاصة مع مايكل زورك، عنوانها: "مايكل زورك: خطونا خطوة أخرى إلى الأمام"، وقتها كان الفريق قد أنهى للتو الموسم في المركز السادس، بعدما احتل المركز الثالث عشر في العام السابق، وصام طوال هذه الفترة عن البطولات ولم يستطع سوى المشاركة في كأس الاتحاد الأوروبي (اليوروبا ليغ حاليا).(4)

"لسنا قادرين على إجراء انتقالات في نطاق أكثر من مليونَيْ يورو، لذلك هدفنا الأساسي هو الحصول على لاعبين شباب جائعين، وتطويرهم لزيادة المنافسة في الفريق".

(مايكل زورك)

في تلك المقابلة تحدّث زورك عن سياسة الانتقالات الذكية التي تتبنّاها الإدارة، التي تُقيده في التعاقدات، في الوقت نفسه كانت نظرته إلى النجاح مختلفة، فهو يعلم جيدا أن الفريق لم يحقق أي ألقاب، ولكنه إذا ما قورن بملايين الدولارات التي يصرفها باقي أندية البوندسيلغا، فإن التأهل الأوروبي يُعَدُّ إنجازا كبيرا.(5)

 

تطرّق زورك في مقابلته للحديث عن أكاديميات الشباب في النادي، الذي يُعَدُّ المشروع الإستراتيجي للنادي، حيث تريد الإدارة جلب لاعبين موهوبين للغاية، ومن ثم العمل على تطويرهم وتشكيلهم ثم تقديمهم للعب في المستوى الاحترافي، ولم يجد زورك أفضل من مدرب ماينز الشاب يورغن كلوب لتطبيق تلك الإستراتيجية بالفريق، واصفا إياه بالهدف الذي يستحق العناء حقا.(6)

 

عنوان ميدان

بدأت رحلة النادي في مرحلته الجديدة للبحث عن المواهب الشابة إذن، التي كانت بمنزلة التنقيب عن الذهب بأرخص سعر وأعلى جودة ممكنة، خلال تلك السنوات جلب دورتموند عددا مهولا من المواهب التي ما زال يسطع نجمها حتى الآن في جميع أنحاء أوروبا، وهو ليس بالأمر السهل إطلاقا.

"ظهر نوري شاهين لأول مرة في الدوري الألماني في أغسطس/آب 2005 عن عمر يناهز 16 عاما و11 شهرا ويوما واحدا، ولا يزال الرقم القياسي في الدوري".

(موقع البوندسليغا)

على سبيل المثال، في عام 2014، ذهب فريق من كشّافي دورتموند إلى تركيا لحضور بطولة دولية للناشئين تحت 17 عاما، ولديهم معلومات عن مهاجم يلعب في المنتخب الأميركي يُدعى حاجي رايت، الذي أوصى به مايكل زورك شخصيا وطلب من الكشافين مراقبته بعناية.

 

عقب انتهاء المباراة اتصل أحد الكشافين الموجودين هناك بزورك ليخبره أن اللاعب جيد، ولكن هناك لاعب آخر اسمه كريستيان بوليستش جيد للغاية، ويبلغ من العمر 15 عاما، ولقد وجد الأولاد الآخرون صعوبة كبيرة في مواجهته طوال اللقاء، لقدرته على الحركة واللعب بكلتا القدمين، ونصحه بضرورة التعاقد معه في أسرع وقت ممكن.

بالفعل بعد عامين فقط كان بوليستش أصغر لاعب يُسجِّل في البوندسليغا في عمر الـ 17، وأصغر مَن مَثَّلَ المنتخب الوطني الأميركي، ولم يُكلِّف خزينة النادي دولارا واحدا، ولكنه في المقابل، وبعد عامين فقط من التألُّق، انتقل إلى تشيلسي الإنجليزي في صفقة بلغت 58 جنيها إسترلينيا!(7)

 

ربما هي قصة لاعب واحد فقط، ولكنها تكرّرت مع هالاند الذي بدأت مراقبته في عام 2016، وعثمان ديمبلي الذي انتقل إلى برشلونة بـ 124 مليون جنيه إسترليني، ومن قبلهم خطف أوباميانغ من فرنسا وانتقاله بعد ذلك إلى أرسنال الإنجليزي بأكثر من 63 مليون يورو، وسانشو الذي لم يُكلِّف النادي سوى 8 ملايين جنيه إسترليني، وارتبط انتقاله إلى مانشستر يونايتد بأكثر من 10 أضعاف هذا الرقم، وعلينا أن نترك قوس تلك الفقرة مفتوحا لوقت لا يعلمه إلا مارك زورك وإدارة بروسيا دورتموند فقط.(3)

عنوان ميدان

منذ عام 2012 وحتى الآن، حقّق النادي أرباحا بلغت 378 جنيها إسترلينيا من بيع اللاعبين الذي وقّعوا عقودا تحت 21 عاما فقط، في المقابل حقّق بطولة وحيدة لكأس السوبر الألماني ووصل إلى نهائي دوري أبطال أوروبا وخسره أمام غريمه بايرن ميونخ، وحقّق عددا تراكميا من النقاط بلغ 149 نقطة بوصفه ثاني أكثر فريق جمعا للنقاط في ألمانيا في تلك الفترة.

 

بينما على مدار المواسم الأربعة الأخيرة فقط، لم يبدأ الفريق الموسم بأكثر من 5 لاعبين ثابتين من تشكيل أول مباراة للموسم الذي يسبقه، ففي 2016، لعب دورتموند مباراته الأولى أمام ماينز بـ 5 لاعبين فقط من موسم 2015، الأمر نفسه تكرّر في 2017 و2020، في حين كانوا 4 لاعبين فقط في عامي 2018 و2019.(8)

epa08834872 Dortmund's Erling Haaland (3-L) celebrates his 2-5 goal with his team mates during the German Bundesliga soccer match between Hertha BSC Berlin and Borussia Dortmund in Berlin, Germany, 21 November 2020. EPA-EFE/CLEMENS BILAN / POOL CONDITIONS - ATTENTION: The DFL regulations prohibit any use of photographs as image sequences and/or quasi-video.

"هناك عدد قليل من الأندية الأخرى في أوروبا التي تُركِّز على الشباب بالقدر نفسه مثل بروسيا دورتموند".

(جادون سانشو)

لو أشارت تلك الأرقام إلى شيء فهو أن بروسيا دروتموند بالفعل تحوَّل إلى "منجم مواهب في أوروبا"، وأصبح من أكبر مصدري اللاعبين في العالم، بل وبمرور الوقت أصبح الفريق هو الاختيار الأول لكثير من المواهب التي تعلم جيدا أن فلسفة النادي هنا لن تعتمد على أي شيء آخر سوى موهبته فقط، فإذا كنت موهوبا بما يكفي فأنت كبير في العمر، أو بالأحرى إذا كنت موهوبا فهم لن يهتموا بعمرك من أجل اللعب أساسيا.(9)

 

ختاما، قد تكون قصة بروسيا دورتموند وتحوُّلها عبر ما يقرب من عقدين مُلهمة للغاية، وذلك بما فيها من نجاحات وسقطات، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن في ظل لعبة أصبحت تحكمها الأموال أكثر من أي شيء آخر، كونك مشجع كرة قدم: أيهما تُفضِّل؛ الفوز بالبطولات واكتساح الأخضر واليابس في مقابل إنفاق ملايين الدولارات سنويا، أم النجاح استثماريا في المواهب الشابة وتخفيض النفقات الذي سيكون ضريبته الحتمية الصيام عن البطولات؟

——————————————————————

المصادر

  1. نظرة إلى الوراء: الانتعاش المالي الرائع لبوروسيا دورتموند
  2. كل ما يهمك عن رجل نجاح دورتموند الأول .. مايكل زورك
  3. انتقالات نادي بروسيا دورتموند – ترانسفير ماركت 
  4. بطولات نادي بروسيا دورتموند – ترانسفير ماركت
  5. حوار مايكل زورك مع موقع نادي بروسيا دورتموند
  6. يورغن كلوب يتولى تدريب بروسيا دورتموند
  7. مدرسة كرة القدم: خط إنتاج بروسيا دورتموند الرائع
  8. بوروسيا دورتموند: مصنع الأحلام أم نادٍ مصدر رائع؟
  9. لماذا يعتبر بوروسيا دورتموند الوجهة المفضلة لأفضل اللاعبين الشباب في كرة القدم؟