كرة القدم وعصر ما بعد الكورونا.. لماذا لم تَعُد اللعبة كما كانت؟
أهلا بك. ربما أكثر شيء حقيقي اكتشفناه خلال تلك الأشهر الماضية أنه لا شيء يعود إلى سابق عهده بسهولة، فنحن على سبيل المثال نكتب لك تلك الكلمات ونحن غير واثقين إذا كانت تلك هي الطريقة الصحيحة التي اعتدناها للكتابة، تماما كما فعلنا عندما قابلنا رفاقنا للمرة الأولى بعد أكثر من أربعة أشهر من الحجر الصحي، أو عندما عادت الدوريات الكروية من جديد إلى الحياة بعد ذلك التوقف القهري الذي عانت منه جراء ذلك الفيروس اللعين كورونا.
وقفنا للحظات ونحن نرى ما يحدث في ملعب الفيلا بارك معقل فريق أستون فيلا، وهو فارغ كالمعتاد، ويشهد على واحدة من أضخم النتائج التي سنراها بالموسم الكروي الحالي، عندما سحق الفريق اللندني بسباعيته الشهيرة ذلك الفريق الأحمر بطل الموسم المنصرم بحصنه المنيع الذي عهدناه عنه، قبلها بساعة كنا نشهد النتيجة المنطقية لكل ذلك الفشل الذي تراكم داخل جدران الأولد ترافورد. رغم أنه إذا اجتمعت كل تلك العوامل الفاسدة مع بعضها بعضا في ليلة واحدة من الليالي الطبيعية التي عاصرناها في الماضي، بقلب الأولد ترافورد، فلن تؤول النتيجة أبدا إلى هزيمة بهذا الشكل.
"لوك! لا لوك لا لوك اخلع الكمامة واركض.. ما مشكلتك؟"، هكذا سمعنا دي خيا حارس الفريق وهو يصرخ على مواطنه لوك شاو في هدف سون الثاني في تلك الليلة، والفضل يرجع إلى غياب الجمهور بالطبع الذي لولاه لما كنا علمنا شيئا عن تلك المحادثة. ربما كانت متأخرة بعض الشيء تلك الصرخات لأنها حدثت بعد أن استقبل الفريق ثلاثة أهداف بالفعل قبل هذا الهدف، وربما متأخرة جدا بعد كل تلك الأهداف التي رأيناها في أول أربع جولات من البريميرليغ حتى الآن.
144 هدفا سُجِّلوا في 38 مباراة حتى الآن بمباريات الدوري الإنجليزي، ولكي نضع الأمور ضمن سياق محدد، فهذا أكبر معدل لتسجيل الأهداف خلال تلك الفترة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ومن خلال هذه الأهداف رأينا نتائج عجيبة ذات أهداف ضخمة لا نراها بتلك الكثرة بالظروف الطبيعية، هنالك تعادلان حتى الآن سُجِّلوا بمباريات الدوري الإنجليزي مثلا، من ضمنها مباراة تشيلسي وويست بروميتش التي انتهت بثلاثة أهداف لكل فريق، أي ستة أهداف سُجِّلوا في مباراة انتهت بالتعادل، هي مباراة لا تساوي شيئا بالطبع أمام تلك المباريات التي شهدت سبعة وثمانية وتسعة أهداف، ولكن هناك تساؤل عبثي يطرحه كل ذلك، ما الذي يحدث هنا بحق السماء؟ (1)
"إذا حدث ورأينا بعض الجولات في الموسم تُقام خلف الأبواب المغلقة، فسيكون من المثير للاهتمام مشاهدتها، عبر شاشات التلفاز بالطبع وليس من مدرجات الملاعب. هل سيقوم الحكّام باتخاذ قرارات أفضل؟ هل ستنخفض شدة وحماس اللاعبين في الملعب بدون الجمهور؟".
(تيم لويس عبر مقاله في الغارديان قبل خمسة أشهر من الآن) (2)
أصبح من الواضح تماما أن كرة القدم التي نشاهدها في أيامنا تلك تفتقد شيئا ما، صحيح أنها ما زالت هي اللعبة، بكل قوانينها وبكل رجالها الذين يركلونها بين أقدامهم، لكنها تفتقد للوقود الذي كان يُحرِّكها. جميعنا واجه تلك الصدمة عندما رأينا مباريات الدوريات الأوروبية تلعب لأول مرة دون جماهير، ما هذا الذي نراه؟ رغم اعتيادنا على ذلك الأمر بعض الشيء في دورياتنا العربية، فإن ما حدث وقتها لم يكن طبيعيا. جميعنا يعرف هؤلاء الأشخاص الذين لم يستطيعوا أن يكملوا مشاهدة مباراة واحدة دون الحشود المعتادة بالملاعب. لا تقلق، فنحن كنا ضمن هؤلاء الأشخاص بدورنا، الناس الذين لم يُرضيهم صوت الجمهور الزائف الذي تبثُّه ملاعب الفِرَق تعويضا لنا عن تلك الآلاف التي اعتدنا على رؤيتهم أسبوعيا، الأمر كما لو كان أحدهم أخذ منك سيارتك ذات الدفع الرباعي وأعطاك عوضا عنها سيارة قديمة تعود للقرن الماضي مثلا، مرة أخرى؛ اللعنة على الفيروس.
لكن رغم سوداوية تلك التجربة التي نمر بها في وقتنا هذا، فإن ذلك الأمر مثير للاهتمام على حد وصف تيم لويس منذ بضعة أشهر؛ هنالك بالفعل تغير جوهري في الأُسس التي ترسّخت بأذهاننا عن اللعبة، هنالك لاعبون يذهبون كل أسبوع ليخوضوا مبارياتهم، دون إزعاج آلاف الأشخاص حولهم، وبدون القلق من أن أحدهم سيتعرّض لك بأبشع الإهانات والأوصاف ردا على إهداره لفرصة أو لقيامه بخطأ لا يُغتفر، أصبح هناك راحة نفسية يعيشها اللاعبون على أرضية الملعب أكثر من أي وقت سابق.
وتلك الراحة انعكست بشكل كبير على الكثير من أوجه اللعبة وعلى الكثير من المبادئ التي ترسّخت في أذهاننا عنها، فأصبح اللاعبون مثلا قادرين على الاستحواذ على الكرة لفترة أطول، دون أي ضغوط نفسية أو أي ظروف محيطة تُجبرهم على فعل عكس ذلك، وهذا سيُعطي فرصة أكبر للعب كرة القدم بشكل جمالي واستعراضي أكثر بسهولة، لأنه لا يوجد أحد سيضغط عليك لفعل عكس ذلك.
وهو الأمر الذي انعكس كليا على نِسَب فوز الفِرَق خارج ديارهم، التي ارتفعت بشكل جنوني خلال الجولات السابقة. أول جولتين على سبيل المثال، فاز الفريق الضيف على الفريق المضيف في 11 مباراة من أصل 18 مباراة! في الجولة الثالثة مثلا، كانت هناك ست مباريات انتهت بفوز الضيف على المضيف من أصل 10 مباريات لعبوا خلالها. الجولة الرابعة كان هناك ضيفان فقط هما مَن فازا خارج ديارهما، منهم بالطبع توتنهام عندما أذل اليونايتد في عقر داره، أي إننا نتحدث عن نسبة وصلت إلى 50% فوز للضيف على المضيف، وهي نسبة ضخمة إذا قارنّاها بالنِّسَب الكلية للمواسم الخمسة السابقة التي لم تتخطَ بأي حال من الأحوال نسبة الـ 33%!، ربما عدد المباريات التي لُعِبت أقل من أن يسمح لنا بإصدار حكم كامل عن تلك النقطة، وسنحتاج إلى مزيد من المباريات لفهم تلك الحالة وما يحدث خلالها، لكن الأمر يدعو للريبة.
"أعتقد أن هرمون التستوستيرون يعمل على تحسين الثقة بالنفس، ويساعدك في اتخاذ قرارات أفضل، ويجعلك أكثر عدوانية. أعتقد أن هرمون التستوستيرون في العموم يزداد بشكل عام في الفريق المضيف، وفي الوقت نفسه سيتكوّن هرمون الكورتيزول، وهو عنصر الخوف الذي يظهر في الكثير من الأحيان لدى الفريق الزائر، وأعتقد أن هذا الأمر له علاقة بالقبلية أكثر من أي شيء آخر وأنت تسير في منطقة جديدة وغريبة عليك. ثم تبدأ في إعادة التفكير ببعض المشاعر البدائية عن اللعب في ملعبك، إنها أرضك".
ما يفعله المشجعون أنهم ببساطة يُحفِّزون هرمون التستوستيرون بالضوضاء التي يُحْدِثونها بالملعب، لذا فإن كل ما يفعلونه يُعزِّز ذلك الهرمون ليمنحك شعورا بالقوة والأفضلية على خصمك، ويجعلك أكثر ثقة وعدوانية وتنافسية".
(مدرب مساعد بأحد فِرَق البريميرليغ متحدثا لـ "ذا أتليتيك") (3)
لذلك فكِّرْ في الأمر جيدا، تعتمد أغلب الفِرَق الآن على البناء من الخلف بداية من حارس المرمى وقلبَيْ دفاع الفريق، إذا افترضنا أننا نلعب ضيفا على ملعب الأنفيلد الآن، هل سيكون من السهل عليّ نفسيا وفنيا وذهنيا أن ألعب بذلك الأسلوب أمام كل تلك الحشود الغفيرة التي يُعرَف بها نادي ليفربول؟ بالتأكيد لا، وهذا تحديدا ما سهَّله غياب الجمهور عن الملاعب، حيث تحوَّل الأمر الآن كما لو أننا نلعب بملعب التدريبات أكثر من ملعب مباراة حقيقية. هنالك راحة باللعب يشعر بها اللاعبون الآن عن أي وقت مضى، وهذا شيء واضح للعيان أكثر من اللازم إذا أردت رأينا، لأن اللعبة خرجت عن أحد إطاراتها المرسخة بأذهاننا وتحوَّلت إلى ما يمكن وصفه بكرة قدم خالصة، غير موضوعة تحت تأثيرات بيئية محيطة أخرى.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فرغم أن غياب الجمهور يبدو الآن سببا منطقيا لتبرير كل ذلك الانفتاح التهديفي الذي تعيشه فِرَق البريميرليغ الآن، فإن هناك عدة أسباب أخرى تؤكد أن ذلك التحول أمر بديهي جدا، وأبرز تلك الأسباب المهمة بالطبع، التي سبَّبت لك كل ذلك الصداع، هو ذلك الشخص الذي قرَّر التهام الخفاش قبل عدة أشهر من الآن. هل رأيت عبثية أكثر من ذلك في حياتك؟
هناك مجموعة من الظروف التي تُحيط باللعبة في أيامنا الحالية، لم يكن لها وجود على الإطلاق قبل عام كامل من الآن، اضطررنا على سبيل المثال أن ندخل موسما كرويا جديدا، وهناك فِرَق مثل وولفرهامبتون لم يتسنَّ لها الوقت أن تلعب أية مباريات ودية نظرا لضيق الوقت، وأصبح ينبغي لهم أن يخوضوا مباريات للدوري الإنجليزي في التوقيت الذي كان من المفترض فيه أن يخوضوا مباريات ودية ليقفوا على المشكلات التي لديهم. أزمة واضحة ولكن مع الأسف أسبابها وحلولها لم تكن بأيدينا.
مشكلة من الممكن اعتبارها هيّنة إذا ما قارنّاها بهؤلاء الذين لم يسنح لهم الوقت للقيام بمعسكرات تحضيرية حقيقية للموسم الجديد بسبب ضيق الوقت، خصوصا هؤلاء الذين كانوا يشاركون بالبطولات الأوروبية في الموسم الماضي، وهو أمر وحشي أن تستقطب نجومك ليلعبوا موسمين ملتحمين بهذا الشكل دون الحصول على فترة إعداد ملائمة، وربما ذلك يعتبر تفسيرا حقيقيا لكل ما نراه.
The @premierleague needs to be very careful here. I'm lucky to go to games behind closed doors – and full respect to players for giving everything – but games soulless without fans. PL risks alienating fans with its blatant greed. When fans can return in 6 months, will they all?
— Henry Winter (@henrywinter) October 9, 2020
دعنا نُفكِّر قليلا، جميعنا رأى هؤلاء اللاعبين وهم جيدون، الجميع يعرف مستوى فان دايك الحقيقي، لكن رغم ذلك لم يجد أحد تفسيرا لكيفية إهانته كرويا بهذا الشكل على يد جاك غريليش. جميعنا يعرف أن تياغو سيلفا لم يكن أبدا بذلك السوء، سويونشو كان رائعا، حتى أدريان وماغواير لم يكونا بتلك الكارثية التي ظهرا عليها، إذن ماذا حدث؟ لا شيء، هؤلاء اللاعبون ما زالوا لم يقفوا على أرض ثابتة من حيث المستوى الفردي قبل الجماعي، ومجددا يمكننا قولها: اللعنة على فيروس كورونا.
وإذا قمنا بمد الخط على استقامته، فيجب علينا قول إن الدفاعات الحديدية التي كنا نراها في السابق أصبح من الصعب أن تتحد معا وتتكوّن فجأة من تلقاء نفسها خلال المباريات الرسمية، وهو دليل مهم على أن دخول ذلك الموسم بدون فترة إعداد حقيقية كان أمرا كارثيا، أضر بكل فِرَق البريميرليغ تقريبا، وربما ذلك يُعَدُّ سببا حقيقيا يُمكننا الوقوف عنده لتفسير ذلك المهرجان التهديفي الذي يحدث أمامنا بالبريميرليغ.
لكنّ للأمر أبعادا أخرى بالطبع، كالفحوصات الإيجابية لفيروس كورونا التي تُرغِم اللاعبين على الدخول بحجر منزلي بدلا من أن يلعبوا مباريات فِرَقهم، مما يُربك مخططات الأندية برمتها في اللحظات الأخيرة. موسم الانتقالات المضطرب الذي عاصرناه هذا العام، أضف إلى ذلك تلك التعديلات التي طرأت على التحكيم بالمباريات وحالات استخدام تقنية الفار التي لم يعتد عليها اللاعبون بعد، كل ذلك مع ملعب فارغ، أرغمنا أن نتعامل مع اللعبة كما لو أنها ترتدي كمامة بدورها بعد العودة من ذلك التوقف، فقط لم نستطع التعرف عليها، ومصحوبة بهذا الكم الهائل من الحذر والإرشادات الصحية، والقليل من الأحاسيس والمشاعر التي جعلتنا نرتبط بها ذلك الارتباط العاطفي بالأساس، وتلك صدمة لا نعلم كيف ومتى يمكننا التعامل معها بشكل كلي.
Liverpool announce that Thiago Alcantara tested positive for COVID-19 and is in self-isolation pic.twitter.com/nH1XMhZ97D
— B/R Football (@brfootball) September 29, 2020
"لقد أدّيت عملي مرات لا تُحصى، وقلت تلك الكلمات التي يجب عليّ أن أقولها قبيل كل مباراة كثيرا، لكن بعد التجربة المريرة تلك، لا يوجد هناك بديل للعاطفة الحقيقية، يمكنك الشعور بالطاقة تنطلق من الجماهير في المباراة العادية، ويمكنك أن تتغذى على ذلك وتشجعك على أن تبذل المزيد من الجهد. هذا هو الشيء الذي تفتقده اللعبة حاليا".
(مايك رانكين المذيع الداخلي لملعب كريستال بالاس) (4)
لا شك أن عواقب فيروس كورونا ألقت بظلالها على كل مجالات حياتنا تقريبا، تحديدا كرة القدم، لكن ما يحدث حاليا لا يجب اعتباره أمرا سلبيا، نعم يمكننا اعتبار أن تلك التحولات بمنزلة سلسلة من الصدمات المتتالية التي تلقّيناها خلال ذلك الوقت القصير، لكن بنظرة سوداوية للواقع الذي نعيش فيه، ومع افتراض أن "كوفيد-19" مستمر معنا لفترة طويلة من الزمن، فيجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ستكون التجربة مميزة بالفعل إذا ظلت مباريات كرة القدم تُلعَب خلف الأبواب المغلقة لفترة أطول من الزمن، بعيدا عن أننا نعرف ما سيحدث سابقا نظرا لتجربتنا المريرة مع الكرة المصرية، لكننا سنستمر في الاندهاش كوننا نرى تلك النتائج السوداوية التي أصابتنا تحدث في ذلك المناخ الأكثر تنظيما واستقرارا عن الذي نعيش فيه هنا في بلداننا العربية.
لكن ربما يستطيع الوقت إصلاح ذلك كله، كلماتنا ربما ستأخذ في التحسُّن رويدا رويدا، مقابلاتنا مع الرفاق بالمقهى، حتى كرة القدم ربما سيأتي عليها اليوم الذي ستعود فيه إلى سابق عهدها، رغم الصمت الذي أصبح مسيطرا عليها، ورغم كل التغيرات التي أرهقناك ونحن نُحدِّثك عنها، نظن أن وقت الوداع قد جاء، لكن قبل أن نرحل نريد أن نُخبرك بشيء؛ كرة القدم لعبة رائعة، وأخيرا وليس آخرا؛ اللعنة على الفيروس، وداعا.
___________________________________________________________________