شعار قسم ميدان

نورويتش سيتي.. نسخة دانييل فاركه الخاصة من الواقعية

ميدان - دانييل فاركة

مساء الخير، طبعا أنت تعلم ما سيجري هنا؛ فريق صغير يفوز على بطل البريميرليغ فيتحول إلى "ترند" لفترة من الزمن ثم يذهب لحال سبيله، والمفترض في هذا التقرير أن يكون جزءا من هذا الـ "ترند". أن نخبرك فيه كم أن نورويتش رائع لأنه فاز على مانشستر سيتي، ونقص عليك حكايات ملحمية عن شجاعة مدربه وروح لاعبيه التي مكّنتهم من الفوز على مانشستر سيتي بملايينه ونجومه وفلسفة مدربه التي لا تنتهي.

    

هذه هي المشكلة بالمناسبة. في الواقع، كانت المباراة التي أدّاها نورويتش أمام تشيلسي أفضل من تلك التي قدّمها أمام مانشستر سيتي، وفي نصف الساعة الأول من مباراة ليفربول نجح الكناري في تعطيل الريدز تماما قبل أن يتلقى هدفا عكسيا لم يعبر عن مجريات اللعب، وفي المباراتين حظي دانييل فاركه بقدر أكبر من الاستحواذ والسيطرة والندية.

    

طبعا كان يفترض بكل ذلك أن يلفت نظرك ونظرنا حتى دون الفوز على بطل البريميرليغ، ولكن أنت تعلم ما كان سيحدث حينها؛ فريق صاعد من الدرجة الثانية يحاول اللعب بشجاعة أمام الكبار هو الفريسة المثلى لعبارات الواقعية المُعلّبة، والنظريات التي تجاهلت حقيقة أنه كان بإمكانه تحقيق نتيجة أفضل في المباراتين لولا بضعة تفاصيل بسيطة، والتي ستتجاهل حقيقة أن نتيجة مباراة مانشستر سيتي لم تكن لتختلف كثيرا لولا تفاصيل أخرى مشابهة.

    

فاركه سيطرة

داني هيغنبوثام محلل الـ "Sun" الإنجليزية وأحد لاعبي مانشستر يونايتد السابقين ذكر في مقاله صباح الفوز على سيتي أن فاركه كان قد تعرض لانتقادات واسعة من محللي الشبكات التلفزيونية عقب الخسارة أمام ليفربول وتشيلسي، انتقادات لا بد أنك تخيلتها، عن كون البريميرليغ مختلفا عن التشامبيونشيب، وحاجة فاركه وفريقه إلى التراجع بضعة أمتار إلى الخلف في مواجهة فرق المسابقة الأقوى في العالم، وضرورة تخلّيهم عن أسلوب لعبهم رغم ما يحمله من إثارة. (1)

     

   

هذا حدث فعلا أمام مانشستر سيتي، نورويتش تخلّوا عن أسلوب لعبهم أغلب أوقات المباراة وخطة فاركه الأساسية كانت تتمحور حول اصطياد المواطنين في الكرات الثابتة التي عانوا منها خلال المواسم الثلاث الماضية، بل وتلقّوا هدفا مشابها في مباراة توتنهام منذ أسابيع، وكان فاركه قد صرح أنها استحوذت على قسط كبير من التدريبات قبل المباراة، وهذا يخبرك بأول شيء تحتاج إلى معرفته عن الألماني الصاعد؛ المرونة الفائقة. (2) (3)

     

كمبادئ أساسية فإن فاركه يحبذ الاستحواذ على الكرة. في الواقع يحبذ ليست اللفظة المناسبة هنا لأنه صرّح عندما تولى مسؤولية الكناري أنه يرغب في الاحتفاظ بالكرة 90 دقيقة لو أمكن، أنه لا يُفضّل أن يضغط فريقه في بضعة أمتار ويكتفي برد الفعل، بل يريد أن يمتلك الكرة ويصنع الفرص كأي فريق كبير، ولقد كان هذا ما فعله في التشامبيونشيب العام الماضي بعد موسم أول عادي، وإلى جانب التأهل فإن الأخضر والأصفر قد أنهى الموسم الماضي وهو ثاني أقل فريق إرسالا للكرات الطويلة في المسابقة، وثالث أعلى فريق في عدد التمريرات القصيرة. (4)

   

في مقابلة للإندبندنت منذ عامين تقريبا وصف فاركه فلسفته بعبارة قصيرة مقتضبة مفادها أن الأمر كله يتمحور حول "السيطرة". طبعا هذه اللفظة تحمل عدة أوجه ومعانٍ إلى جانب ما يطرأ في ذهنك عادة. السيطرة لا تعني الهجوم والاستحواذ بالضرورة، بل أحيانا يمكنك تحقيقها بالعكس وهذا هو ما حدث أمام سيتي، في مباراة كتلك كانت السيطرة هي أن تمنحهم الاستحواذ في مناطق محددة، وللاعبين محددين، وأن تخطط لكل ذلك بشكل يجبرهم على ارتكاب الأخطاء.

    

"دانييل فاركه" مدرب فريق "نورويتش سيتي" (رويترز)

   

مصنع الفيستيفاليا

ثاني أهم شيء تحتاج إلى معرفته عن فاركه هو أن هناك شيئا يجمعه بيورغن كلوب وديفيد فاغنر الذي هو أحد أقرب أصدقاء كلوب، وهذا الشيء هو دورتموند. فاغنر تولى مسؤولية فريق الرديف في الفيستيفاليا بترشيح من كلوب، وعندما رحل ليدرب هادرسفيلد كان فاركه هو الرجل الذي حل محله، وكان نجاحه هناك هو ما دعا إدارة نورويتش للتعاقد معه على غرار تجربة فاغنر، ثم الاستعانة بمدير هادرسفيلد الرياضي ستيوارت ويبّر بعد نجاح فاغنر في قيادتهم للبريميرليغ. الأمر كله أشبه بشبكة عملاقة من العلاقات تسبّبت في نجاح ناديين عريقين من الدرجة الثانية بنسب متفاوتة. (5)

 

أصلا عدد لا بأس به من اللاعبين الذين تعاقد معهم ويبّر في الناديين أتوا من فريق رديف دورتموند الذي درّبه الثنائي قبل رحيلهم لإنجلترا، أبرزهم على الإطلاق ماركو ستيبّرمان صانع ألعاب نورويتش الحالي الذي لا يتوقف عن الركض ويلعب دورا محوريا للغاية في خطط فاركه، فللوهلة الأولى تعتقد أنه صانع ألعاب على غرار شنايدر في 4-2-3-1 مورينيو الأسطورية مع إنتر، صانع لعب بمهام دفاعية أكبر من التي توكل لأمثاله عادة، ثم تكتشف أنه عندما يتراجع الكناري إلى شكل مثل 4-4-2 المسطحة فإن ستيبّرمان يتحوّل إلى مهاجم ثانٍ والأجنحة هي مّن تعود لإكمال مربع الوسط على عكس إيتو وبانديف. مهام مُربكة للغاية وتنظيم لم نشهده كثيرا من قبل ولكن الألماني يؤديه بنجاح لافت. (6)

   

  

الأمر ذاته يمكنك أن تقوله عن إيميليانو بوينديا لاعب الوسط الموهوب الذي لم يكلف التعاقد معه من خيتافي سوى مليون باوند فقط لا غير. هو أيضا يتميز بوعي تكتيكي مدهش بالنسبة لعمره. الحقيقة أن طريقة فاركه في تغيير خطته عدة مرات خلال المباراة الواحدة تتطلب وعيا تكتيكيا من أغلب لاعبيه. على سبيل المثال، هو يعتمد على الصعود الدائم لواحد من الظهيرين على الأقل، غالبا ماكس آرونز، وهذا يُجبر الظهير الآخر، جمال لويس، على الانضمام لثنائي المحور لتكوين خط دفاع ثلاثي قادر على تغطية الفراغات على الأطراف. هذه التعديلات والترحيلات قد تبدو طبيعية في دوريات الدرجة الأولى ولكنها غير معتادة بالمرة في بطولة مثل التشامبيونشيب. (7)

   

هذا الثنائي الإنجليزي، ماكس آرونز وجمال لويس، بالإضافة إلى بن غودفري قلب الدفاع، هم ثلاثة من المواهب محلية الصنع والتي تم تطويرها على يد فاركه، والثلاثي تتراوح أعمارهم ما بين 19 و21 عاما فقط، وإن أضفت إلى ذلك حقيقة أن لاعبا مثل تيمو بوكي قد أتى في انتقال حر فهذا يخبرك عن أهم ما يميز نورويتش على الإطلاق؛ أنه مشروع متكامل تسير كل عناصره تجاه الهدف نفسه بالأفكار نفسها. أصلا فاركه كان يرغب في أن يصبح مديرا رياضيا في بداية مسيرته ثم وجد في نفسه موهبة تدريبية، وهذا قد يفسر التفاهم الرائع مع ويبّر المدير الرياضي الفعلي، ومن هنا تم بناء أسلوب التعاقدات على البحث عن الجواهر المدفونة؛ عن لاعبين لم ينجحوا لأسباب معينة مثل بوكي وكان فاركه يؤمن أن بإمكانه التغلب عليها، والكثير من هؤلاء اللاعبين قد يتحول إلى "ترند" منفصل قريبا، ويحتاج إلى تقرير منفصل بدوره. أصلا بعضهم بدأ يظهر على قوائم التعاقدات لدى عدة أندية حالية في البريميرليغ. (8) (9)

  

سر الطبخة
ديليا سميث (رويترز)
ديليا سميث (رويترز)

   

نعلم أنه كليشيه مبتذل جدا ولكننا لم نستطع مقاومته، ببساطة لأن ديليا سميث أكبر حاملة أسهم في النادي هي الطباخة الشهيرة من برامج التلفزيون في السبعينيات والثمانينيات، والحقيقة أن أسلوب إدارتها الحالي للنادي مثير للإعجاب؛ دعك من حقيقة أنها أنقذته من الإفلاس عندما استحوذت عليه منذ 23 عاما، ودعك من تصريحها الشهير عن كونها "مليونيرة فقيرة"، ولكن إيمانها بإسناد الأمور للمتخصصين مثل ويبّر وفاركه، وإصرارها على استمرار التجربة حتى بعد موسم أول محبط كان هو السبب في النجاح الحالي. ربما في المستقبل عليك أن تفكر عدة مرات قبل أن تربط بين الطبخ وانعدام الفهم في كرة القدم. (10) (11)

   

في الواقع، موقف ديليا سميث يقودنا للمعضلة نفسها التي بدأت حديثنا عن نورويتش وفاركه أصلا. في موسمه الأول خسر الألماني 3 مباريات من أول 5، وهو ما حدث ذاته هذا الموسم بالمناسبة، ولولا الثقة في طريقة عمله وقتها والآن لانتهت التجربة قبل أن تبدأ. لسبب ما لم تقتنع ديليا سميث بالعبارات المعلبة عن الواقعية، ربما لأنها لم تملك خيارا أفضل من الثنائي الألماني لإدارة النادي رياضيا، وربما لأنها تفهم في كرة القدم فعلا، لا نعلم بالتحديد ولا نملك طريقة لنتأكد، ولكن المهم أن هذا هو ما حدث، وما حدث يقودنا لسؤال مهم؛ ما تعريف الواقعية أصلا؟

     

   

من ناحية الموارد فإن نورويتش نادٍ مُعدم عمليا، ولولا تمكّنهم من بيع أفضل لاعبيهم خلال موسم فاركه الأول، والذين كان من ضمنهم جيمس ماديسون الذي انتقل لليستر ويلعب بقميص المنتخب حاليا، لما تمكّنوا من الاستمرار في التشامبيونشيب أصلا ناهيك بالترقي للبريميرليغ. هذه هي الظروف المثالية فعلا للتحلي بالواقعية بمعناها الجماهيري الدارج، أي التوقف عن الحلم بأي إنجاز ممكن والاكتفاء بمحاولة البقاء على قيد الحياة.

   

المشكلة أن هذا هو ما فعله هادرسفيلد بالضبط مع فاغنر؛ كرة قدم بدائية ومنفرة للغاية قادتهم للبقاء في الموسم الأول ثم الهبوط مجددا في الثاني. هل يعني ذلك أن الواقعية قد فشلت؟ بالطبع لا، لأن هذا هو ما يفعله شون دايتش مع بيرنلي منذ صعوده وأوصله للمركز السابع في الموسم قبل الماضي. هل يعني ذلك أن الواقعية قد نجحت؟ حقيقة، لا نعلم.

   

الشيء الوحيد الذي نعلمه، والذي أثبتته تجربة نورويتش بما لا يدع مجالا للشك، أن طراز كرة القدم الذي يقدمه أي فريق، ومهما كانت محدودية إمكانياته، هو مسألة قرار في كثير من الحالات، ومن فضلك ضع عدة خطوط أسفل "كثير من الحالات" لأن التعميم لا يجوز هنا.

    

فريق
فريق "نورويتش سيتي" خلال مباراته ضد "مانشستر سيتي" (رويترز)

   

فريق نورويتش الحالي لم يكلف سوى 20 مليون باوند تقريبا، وهذا المبلغ توفر فقط لأن النادي تمكّن من تحصيل نحو 70 مليون باوند من بيع لاعبيه، والفارق كله ذهب لتعويض عوائد البث التي تراجعت بسبب تأخر مركزهم في الموسم الأول، ورغم ذلك تمكّن فاركه وويبّر من بناء فريق يستطيع اللعب بطريقة مغايرة عن فرق التشامبيونشيب. لماذا؟ لأن أسلوب اللعب كان هو الأساس الذي بُني عليه كل ذلك، لا العكس.

  

منطقيا، لا يوجد الكثير من الأسباب التي قد تدفع رجلا مثل فاركه وفريقا مثل نورويتش للعب بشجاعة عوضا عن تكرار تجربتي هادرسفيلد وبيرنلي رغم تباين نتائجهما. السبب الوحيد الذي يسوقه متخصصو علم النفس في حالة كتلك هو أنهم قرروا اللعب كذلك لأن هذا يمنحهم إحساسا رائعا، إحساسا بالندية والقدرة على فعل أشياء ظنوها مستحيلة، أنهم تخيلوا قدرتهم على فعل شيء ما وفعلوه رغم كل المعوقات والحسابات المنطقية. والحقيقة أنك لا تحتاج إلى متخصصي علم النفس ليخبروك بذلك لأن هذا هو ما أكّده فاركه أكثر من مرة في خضم انفعاله العاطفي أثناء المؤتمر الصحفي عقب الفوز على سيتي. (12) (13)

  

طبعا هذا لا يعني أن شون دايتش لا يشعر بشيء مشابه بعد الفوز على ليفربول أو التعادل مع تشيلسي، الفارق الوحيد هنا أن نورويتش وفاركه، ومن خلفهم ويبّر وديليا سميث، فعلوه بشجاعة أكبر، بنسختهم الخاصة جدا من الواقعية، وهذا ما يجعل نورويتش فريقا رائعا يستحق أن نقص عليك حكايات ملحمية عن شجاعة مدربه وروح لاعبيه، ولكن لأسباب أهم بكثير من مجرد الفوز على مانشستر سيتي بملايينه ونجومه وفلسفة مدربه التي لا تنتهي.

المصدر : الجزيرة