شعار قسم ميدان

استثمار أم استعمار.. كيف قاد تركي آل الشيخ الكرة المصرية للجنون؟

ميدان - تركي أل الشيخ و الكرة المصرية
اضغط للاستماع

   

حقيقة لا نعلم من أين يمكننا البدء، القصة كلها أشبه بحبة خس فاسدة، ومشكلة حبات الخس الفاسدة أنها مخادعة جدا، تغري الفقراء بأن يبتاعوها بسعر بخس على أمل أن يعثروا فيها على ما يصلح للاستخدام، ولكن في ذات الوقت هي تعد بإحباط مضاعف إن لم يجدوا شيئا في النهاية، حينها يشبه الحال أن تنفق مالك ووقتك لاجتياز بضعة طبقات من العفن، فقط لا غير.

   

استثمار الاستعمار

الطبقات كثيرة، لذا فلنبدأ بالقشرة الأولى التي تغلف كل هذه "المهزلة" كما يصفها المصريون، أو ما يطلق عليه مجازا الاستثمار الرياضي، وهنا سنضطر لعرض حقيقة بديهية؛ ما فعله ويفعله تركي آل الشيخ في مصر ليس استثمارا بأي معنى من المعاني، والسبب هو أن -انتبه شاحنة بديهيات في الطريق- أول شروط الاستثمار هو أن يضمن عائدا ما يستوجب الاستثمار أصلا. نعلم أن هذا قد يكون مفاجئا للكثيرين كونه قانونا حديثا نسبيا عمره من عمر البشرية، ولكن هذه هي الطريقة التي تجري بها الأمور للأسف.

       undefined

    

الأهم -انتبه شاحنة أخرى في الطريق- أن أحد الروافد الرئيسية لهذا العائد في كرة القدم هو الجماهير، كونها المصدر الأول للأموال في اللعبة. هذه تفصيلة إجرائية معقدة لا يدركها إلا المختصون، لذا يحتمل أن تكون قد فاتت على اتحاد الكرة المصري وإدارات الأهلي والزمالك والصحفيين الرياضيين المصريين وجماهير الكرة والمهتمين بالشأن عموما. المهم أننا إذا جمعنا أسعار التذاكر لحضور المباريات وقسمناها على عدد الأندية ثم أضفنا ثابت الشعبية للمعادلة وطرحنا عدد مشاهدي المقاهي مع اعتبار معامل الخطأ ¼ لكل ألف متفرج، فسنتوصل إلى أن متوسط سعر التذكرة في مصر هو صفر، لأن الجماهير لا تحضر المباريات أساسا منذ عدة سنوات. (1)

   

على سبيل المثال، أرسنال هو أكثر أندية العالم تحقيقا للربح من تذاكر ملعبه بما يفوق 100 مليون باوند سنويا، أكثر حتى من ريال مدريد وبرشلونة، ولتدرك مدى الجهل الذي يحمله وصف تركي آل الشيخ بالمستثمر فما عليك سوى أن تعلم أن الرجل أنفق ربع هذا الرقم تقريبا في دعم الأهلي والزمالك بصفقات ومدربين وغيره، ثم ضعف هذا المبلغ على الأقل في بيراميدز، ولو فرضنا حتى أنه سيتمكن من بيع بضعة لاعبين بأسعار أعلى من التي أنفقها لجلبهم، فإن استرداد كل هذا في نهاية الموسم -بدون أرباح- لا يستوجب أن تعود الجماهير للمدرجات وحسب، بل أن يلعب ناديه الجديد كل مبارياته ذهابا وإيابا في ملعب القاهرة، وأن نكتشف له فجأة 75 ألف مشجع قادرين على ملئه على آخره في كل مباراة، وبشرط أن يكون سعر التذكرة 14 دولارا على الأقل، أي 250 جنيها مصريا تقريبا في ذات الوقت الذي يصل فيه متوسط دخل المصري إلى نصف هذا الرقم يوميا. (2) (3) (4) (5)

     

  

الطريقة الوحيدة لإتمام هذا الأمر هو أن يقوم تركي آل الشيخ بشراء كل هذه التذاكر ثم فتح الملعب بالمجان، وهو ما يعيدنا للمربع صفر كما ترى. إن كان هذا استثمارا فالشخص الوحيد القادر على إخبارك بنوعه هو مرتضى منصور. كل هذا طبعا ولم نتطرق بعد للأسئلة التي تُطرح عادة في هذه المناسبات، مثل ما إذا كان هذا هو النموذج الأصلح للاستثمار في الكرة المصرية أصلا أم لا، وما الذي سيعود عليها بالضبط من مضاعفة أسعار اللاعبين عدة مرات بلا سبب، وألم يكن الاستغلال الأفضل لهذه الموارد هو توسيع رقعة الممارسة مثلا عن طريق مراكز شباب جديدة أو ساحات للهواة تمكن مصر من الاستفادة من آلاف المواهب الملقاة على المقاهي بلا هدف، ولكن كما قلنا هذه أسئلة متخصصة ليس هذا مجالها، بالإضافة إلى أنها تقوم على فرضية ساذجة للغاية بأن الهدف الحقيقي هو الاستثمار فعلا. (6)

 

الحب.. الحب

ما سبق هو الجزء الأول من أسطورة المستثمر المحب، الأسطورة المفضلة للقطاع الأكبر من جماهير الأهلي المصري، والجزء الثاني ليس أفضل حالا بالتبعية، لأننا نتحدث عن رجل قام بتمويل محمود الخطيب في انتخابات صعبة واجه فيها منافسة شرسة من محمود طاهر، على الأقل طبقا لزعمه الشخصي والذي لم ينفه أي عضو من إدارة الأهلي بشكل رسمي، والواقع أنه إن كان هناك أكذوبة أكبر من أكذوبة الاستثمار فهي الترويج الدائم لأن ما فعله الرجل كان بدافع الحب فقط لا غير، حتى إن أتت على لسانه هو شخصيا. (7)

  

  

الأمر ليس معقدا، إن كنت ترأس ناديا بحجم الأهلي المصري فإن أي تبرعات أو مساعدات خارجية يمكن تحليلها عبر احتمالين لا ثالث لهما؛ الأول هو أن مصدر هذه التبرعات أكبر بكثير من منظومة الكرة المصرية وكيان الأهلي بالتبعية، من ثم هي مساعدة لا تنتظر مقابلا محددا، مثل تبرع الأمير عبد الله الفيصل لإنشاء الصالة المغطاة مثلا. الثاني هو العكس ببساطة، والعكس هو الأقرب للمنطق في حال كان المتبرع موظفا سعوديا مغمورا لم يكن من الوجوه المألوفة قبل تولي محمد بن سلمان الحكم. (8)

   

هنا نجد أنفسنا أمام عدة طبقات من "العفن"، أو عدة احتمالات كلها مشينة؛ أولها أن الخطيب بدا "ساذجا" كما يصفه متابعون لدرجة أن يتوقع أن الرجل الذي أوصله لمقعد الرئاسة، أو ساعد في ذلك على الأقل، لن ينتظر أي شيء في المقابل، وثانيها وهو الأكثر واقعية؛ أننا أمام حالة تقليدية من الصراع التاريخي المصري – الخليجي، والذي يمكن تلخيصه في الثنائية الشعبية الشهيرة؛ حضارة بلا مال – مال بلا حضارة، والتي ما زالت متماسكة على المستوى الشعبي رغم ابتذالها ومخالفتها لواقع العقود الأخيرة.

   

باختصار؛ يبدو أن محمود الخطيب كان يريد حبا بلا مسؤوليات؛ من جهته، سيتولى تركي آل الشيخ التجديد لفتحي وعبد الله السعيد ثم إعارة الأخير وإنفاق ما يفوق ربع مليار جنيه في دعم النادي، ومن جانبه، سيضحي الأهلي ويقبل تبرعاته، أما أن يتطور الأمر لـ"التدخل في شؤون النادي" فهذا ما لا يمكن قبوله أبدا. وكما يُقال "نحن حضارة بلا مال صحيح ولكن شرفنا فوق كل اعتبار".

  

undefined

     

العار

هنا انفتحت أبواب الجحيم، طبعا أنت تعلم ما يطلقونه على المال الذي بلا حضارة في مصر، وتعلم أن هذا المصطلح آذى الرجل بشدة على المستوى الشخصي، ومعه كل الحق، لدرجة أنه ذكره في أحد بياناته الرسمية على منصات التواصل الاجتماعي، وبعدها قرر الانتقام لنصطدم بواحدة من أكثر طبقات هذه القصة "عفنا" على الإطلاق.

   

بدأت كرة الثلج بعم عبده دربالة صاحب ورشة الإطارات، والذي أصبح عميد مشجعي بيراميدز بمجرد أن قرر تركي آل الشيخ إنشاءه على أنقاض الأسيوطي البائس. المهم أن الرجل حظي بزيارة رسمية في مقر ورشته حصل خلالها على شاشة وجهاز بلاي ستيشن لابنه جعلته يكتشف فجأة أنه يحب نادي الأهرام جدا جدا، طبعا بعد أن صرح والده بأنه سئم من تشجيع الزمالك وأنه أعاد توجيه انتمائه لتجربة الاستثمار الوليدة. (9) (10)

  

  

بعدها شق آل الشيخ طريقه من القاع صعودا تحت عناوين من طراز "غير مبادئك" و"هذي فلوسنا وإحنا حرّين فيها"، وقبل أن ندرك كان ميدو يعلن ظهور لويس فيغو وجون تيري ورونالدينيو في إستوديو بيراميدز. صحيح، لقد نسينا إخبارك أنه أصبح هناك إستوديو بيراميدز أصلا، وأن ميدو انضم للقناة ليشجع الاستثمار الرياضي في مصر، أو بالأحرى ليكون التجلي الأوضح والأكثر فجاجة على ما أراد تركي آل الشيخ إثباته بعد تجربة الأهلي؛ أنه إن كانت أمواله تكفي لإغراء بعض المشاهير العالميين بمشاهدة مباراة كاملة في الدوري المصري، بل ومحاولة تحليلها، فهي قطعا تكفي لإثبات أن كل المصريين بإمكانهم تغيير مبادئهم ما دام "حجم الشاشة والبلاي ستيشن كافيا"، ولا فرق في ذلك بين صاحب ورشة مأزوم أو طفل قاصر أو عدة رموز سابقة تنتمي لأكبر ناديين في مصر والقارة، وسواء أتى بهم من منازلهم أو من إستوديوهات واحدة من أكبر مؤسسات الإعلام الرياضي في العالم، وسواء كانوا بحاجة إلى أمواله أم لا. لا أحد يرفض المزيد من المال كما تعلم، أو هذا ما أثبته الرجل على الأقل. (11) (12) (13)

   

كان هذا أول مشاهد الجنون في القصة، لأن كل ما سبق، وكما توقعت، كان في إطار حالة من المفاخرة بقدرة المال السعودي السحرية على شراء أعتى المعارضين للتجربة، وبلا أي حاجة إلى المواربة أو التجميل، وصولا للحظة الذروة عندما كتب ياسر أيوب مقاله عن فشل بيراميدز الحتمي وانتصار أندية الشعب على طوفان المال، إلخ، وبعدها بشهرين كان يوقع عقدا مع بيراميدز كمستشار إعلامي للنادي، وكأن تركي آل الشيخ كان يصنع منه عبرة لمن يعتبر.

   

هذا ليس أحد أفلام عادل إمام، بل واقع الكرة المصرية الحالي كما هو، ولو كان أحد أفلامه لرأينا مشهد التهديد المعتاد الذي يجبر المعارض على الرضوخ ولكنه لم يحدث. لدرجة أن أحدهم أطلق مزحة عن كون الطريق الأسهل للحصول على أموال آل الشيخ هو التظاهر بمعارضته، أو هي ليست مزحة بالضبط، حقيقة نحن لا نعلم لأن صيغة الخبر كانت جادة تماما وكأن الثانية هي نتيجة حتمية للأولى، حتى عادل إمام لم يعالج المشهد بهذه السطحية في أفلامه. اقرأ من فضلك:

   

"قال الكاتب الصحفي ياسر أيوب إن تجربة نادي بيراميدز لن تبقى في المنافسة لفترة طويلة، مشيرا إلى أن دائرة المنافسة ستظل بين القوى الكروية التقليدية في مصر. وأعلن نادي بيراميدز من خلال حسابه الرسمي على تويتر تعيين ياسر أيوب مشرفا على المنظومة الإعلامية للنادي، ومستشارا للنادي، إلى جانب تقديمه برنامج على قناة بيراميدز". (17) (18)

  

  

يحدث في البريميرليغ فقط

كل هذا طبعا كان يسير بالتوازي مع محاولات مستميتة لمكايدة الأهلي وإدارته، خاصة بعد تعرض الرجل للسباب من مدرجات الأهلي بمجرد وقوع الخلاف، وطبعا لا أنسب من ذلك سوى نادي الزمالك، وبالسيناريو نفسه وذات التفاصيل وبكم أضخم من الأموال وقدر أكبر من الفجاجة والابتذال، وإذا أضفت إلى كل ذلك الفوضى الإدارية المعتادة التي أصبحت من تقاليد الكرة المصرية فستكتشف أن إزالة كل الطبقات العفنة قد يستغرق أكثر مما توقعنا.

  

بيراميدز يهدي الزمالك مدربه الحالي وعددا من المحترفين الأجانب يتصادف أنهم أفضل لاعبيه، ومرتضى منصور يدعو تركي آل الشيخ لبيع قمصان ناديه داخل مقر الزمالك، والتحكيم يلعب لعبة التوازنات المعتادة التي لا تنتج إلا المزيد من الفوضى، ولجنة المسابقات تزيد الاحتقان بترتيب مؤجلات الأهلي، أو بعدم ترتيب مؤجلات الأهلي بالأحرى، لدرجة أن هناك أسبوعا واحدا لُعبت فيه مباريات من 5 جولات مختلفة. مرحبا بك في "الإيجيبشان بريميرليغ".

    

   

طبعا لا يكتمل المشهد بدون لقطة الهدايا الخليجية المتجددة دائما وأبدا، لا بد من ساعة سويسرية أو هاتف مذهب أو عطر باهظ الثمن، أو ربما علبة فخمة مليئة بكل ما سبق مثلما حدث في 2008 وكاد أن يتكرر بعد التأهل للمونديال. المهم أنه في هذه الحالة كانت الأولى (الساعات السويسرية)، وكالعادة طالب تركي آل الشيخ مجلس إدارة الأهلي بإعادة تلك الهدايا في مشهد مهين آخر، ليتم تشكيل لجنة فحص تثبت أن الساعات ما زالت في خزانة النادي ولم يتم التصرف فيها، وكأن هذه هي المشكلة الوحيدة في الأمر. فنحن وكما يُقال "حضارة بلا مال صحيح ولكن شرفنا فوق كل اعتبار"، إلا لو كانت الهدية ساعة سويسرية طبعا! (14) (15)

     

  

على صعيد موازٍ، كانت إدارة الأهلي تعد لسوق انتقالات تاريخي بعد آخر فاشل تماما، تمكن فيه تركي آل الشيخ من حرمانهم من كل أهدافهم باستخدام طريقة الإغراق الشهيرة؛ الخطيب يفاوض لاعبا فيعرض المستثمر ضعف الرقم بلا أي محاولة للتقييم الفني حتى، المهم هو أن ينهي الأهلي صيفه بلا صفقة واحدة من التي أرادها، ولكن كل ذلك تغير في الشتاء الأخير، ربما لأن ثلاجة تركي آل الشيخ قد امتلأت، أو لأنهم أخبروه أن لكل نادٍ عددا أقصى من اللاعبين يمكن تسجيله، أو لأي سبب آخر، المهم أنه سبب لا علاقة له بالمنطق، هذا هو الشيء الوحيد المنطقي وسط كل هذا الجنون. (16)

   

أفعل التفضيل

المفاجأة أن كل ما سبق ليس أهم ما حدث في هذه "الحكاية الكريهة"، أصلا من حيث النظرية فإنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها شيء مماثل، بل في الواقع هي ليست أكثر من مجرد جولة أخرى من الصراع الثقافي المصري السعودي المستتر، فقط تصادف أنها اتخذت من الكرة ساحة لها هذه المرة، المجال الجماهيري الوحيد تقريبا الذي لم يُغلق تماما بعد، على الأقل خارج الملاعب.

   

الجديد هذه المرة كان تعاطي جمهور الناديين مع الأحداث المتتالية؛ والتي بدأت بمكايدة من جمهور الأهلي لباقي الأندية على اعتبار أن تركي آل الشيخ هو المستفيد من علاقته بالنادي، وأن المشكلة ليست في الإخلال بتكافؤ الفرص أو تحويل الكرة المصرية إلى مسرحية، بل في كون باقي الأندية المصرية ليست في حجم الأهلي، ولو كانت كذلك لوجدت ثريا خليجيا آخر يمولها، ثم بعدها اكتشفوا فجأة أن تركي آل الشيخ يريد أن يلعب دور الكفيل، وهذا مرفوض طبعا، لأن مبادئ الأهلي لا تسمح بذلك، حتى لو كانت تسمح له بالتدخل في شأن داخلي بحت كالانتخابات لتغليب كفة مرشح على آخر، أو تستخدم أمواله لعقاب لاعب أراد الرحيل للزمالك، أو تُرسل له آلاف الرسائل على صفحته لتطالبه بصفقات جديدة ومدربين بعينهم.

  

  

الخطوة التالية المتوقعة كانت أن ينتقل كل هذا الجنون إلى الضفة الأخرى من النيل بعد الخلاف، وأن تكتشف جماهير الزمالك فجأة أن الاستثمار الرياضي رائع جدا، وأن لفظة "بوابين" التي لمح لها تركي آل الشيخ في أحد بياناته ليست مهينة لهذه الدرجة، وأن إشارات الرجل الجنسية بعد هدف تراوري في مرماهم ليست أزمة كبيرة، خاصة إذا كان فرجاني ساسي يعيش فترة من التألق في وسط الملعب، وإذا كان غروس يقودهم لصدارة الدوري واللقب الثاني خلال خمس سنوات، وطبعا كلاهما ينال راتبه من الرجل نفسه الذي نعتهم بـ"البوابّين" بشكل ضمني، وكأن وضاعة المشهد كان ينقصها تلميح عنصري آخر.

   

هذا كله غيض من فيض، والحقيقة التي يجب التنويه إليها أننا لا نبحث عن قدر من التوازن في أفعال الجمهورين لكي نتجنب غضب أي منهما، ولسنا مهتمين على الإطلاق بعقد مقارنة بين درجات الإذلال التي تعرض لها الناديان على يد الرجل لنكتشف أيهما كان أكثر خضوعا، وحتى لو كان هذا واضحا ولا يحتاج إلى تصريح. هذه درجة من العفونة لا يمكننا الخوض فيها، وحتى لو قررنا فلن نجد أوصافا تسمح بها السياسة التحريرية أو الآداب العامة.

     

  

في أوروبا والدول المتقدمة

هل تعلم من الذي "لا يمانع" الخوض فيها؟ من يفترض به أن يكون المتضرر الأكبر من القصة، من لم يخض الانتخابات ولم يحصل على ساعات وبلاي ستيشن وشاشات وعطور وهواتف؛ جمهور الأهلي والزمالك نفسه. في الواقع "لا يمانع" ليس التعبير الأنسب عن الحالة، يمكنك أن تقول إنه أدمن الحالة تدريجيا منذ حل تركي على مصر، وصولا للحظة الحالية التي أصبحت فيها الجماهير غارقة فيها حتى أذنيها، اللحظة التي يسخر فيها كل منهم من الآخر لأنه أحنى ظهره للكفيل السعودي، اللحظة التي يثبتون فيها أنه مهما كانت دناءة الوصف الذي اعتادوا إطلاقه على الرجل، فإن استغراقهم في الصراع جعلهم أدنى.

     

  

جرّب أن تخبر أيا منهم أن القصة لا تستحق نصف هذا العناء، وأن الجميع خاسر أيا كانت النتيجة، وأن بيانات الرجل المتتالية أصبحت أهم من أهداف فريقهم، وأن مباريات كرة القدم ذاتها لم تعد أكثر من مبرر لحفلات منصات التواصل الاجتماعي بعدها، وأنه لو كان ما يحدث في الملعب على درجة الأهمية التي يدّعونها لما حظي ما يقع خارجه بكل هذا الزخم، وأن كل ما يحدث في العالم الافتراضي هو نتيجة الفراغ الفني والكروي والجماهيري في العالم الواقعي.

   

الإجابة؟ طوفان من الجهل والازدواجية، ستكتشف خلاله أن درجة انتمائك لمصر واعتزازك بهويتك متوقفة على مدى استعدادك للخوض في طبقات الخس العفنة، بل والتلذذ بأكلها إن تطلب الأمر. المهم أنه لا صوت يعلو فوق صوت الحرب، والمعركة لا تزال دائرة لإثبات أن ما لم يقبله الأهلي قد قبله الزمالك أو العكس، والموارد كلها مسخرة للتدليل على أن درجة الانحناء ليست واحدة، والمصيبة أن أقصى ما سيحصل عليه أي من الطرفين في النهاية هو لقب "النادي الأقل شيئا ما"، الأقل استسلاما، الأقل خضوعا، الأقل كفالة، لمهم أنه ليس "شيئا ما" يستحق القتال لأجله.

   

معركة نسبية كما ترى لأن المبرر الوحيد لوجودها هو الطرف الآخر، ورغم نسبيتها فهي قائمة على شعارات مُطلقة مثل "زمالك جميل بدون كفيل" و"الأهلي يحكم". بعد كل ما حدث، ما زال جمهور الكرة المصرية يؤمن أن هناك مكانا لتعبيرات كهذه، ومشكلة المعارك النسبية المشابهة أنها تخلق عالما موازيا ينغلق على أطرافها، ومع الوقت يعتادون تفاصيله وصراعاته ويستغرقون فيها حتى لا يتخيلون حياتهم بدونها، وهذا ما يفسر الشراسة الهيستيرية في الدفاع عن وجوده، شراسة تفوق حتى شراسة أي منهم في الدفاع عن قضيته، لأن الهدف الحقيقي ليس الانتصار فعلا، الانتصار يعني انتهاء الحرب، وهذا هو الشيء الوحيد الأسوأ من خسارتها.

     

  

لذا تسمع مبررات من نوعية أن جماهير أوروبا تقتل بعضها لأجل كرة القدم، وأن الفساد وصل لرأس الاتحاد الدولي للعبة، وأن باريس يتلاعب بقوانين اللعب النظيف، وأن مانشستر سيتي يمتلك كفيلا خليجيا هو الآخر، وأن الحكم لم يحتسب ركلة جزاء على بيكيه الأسبوع الماضي، وأن مودريتش حصل على جائزة لا يستحقها، وأن المتندرين على مستوى الكرة المصرية الإداري والفني والجماهيري ليسوا أكثر من مستغربين متنطعين عديمي الهوية لم يطأوا ملعبا حقيقيا في حياتهم ولا يعلمون حرفا عن الانتماء، وأن الأمور في الخارج لا تختلف كثيرا عن حبة الخس العفنة.

   

فصام

هذا سلوك يستحق الدراسة فعلا؛ محاولة جر العالم كله إلى الوحل بدلا من الخروج منه ببساطة، أن تأتي بنادٍ من إنجلترا وآخر من فرنسا وواقعة في إسبانيا ومثلها في إيطاليا لتقنع نفسك بأن ما يحدث في مصر يوميا هو أمر طبيعي ومعتاد، وكأنك تجمع أشلاء فرانكنشتاين من جميع أنحاء العالم في جثة واحدة مرعبة لكي تبرر بها قبحك.

   

طبعا كل هذا مألوف أكثر من اللازم، لأنه المنطق نفسه الذي تستخدمه السلطة لتبرير أي شيء تقريبا. الواقع الداخلي عامر بالكوارث في كل المجالات، والكوارث لا تبرر إلا بالكوارث، والنتيجة أننا لا نرى من "الغرب" سوى مساوئه، نشاهد البريميرليغ بتنظيمه الباهر وتسويقه الخارق فلا يعنينا سوى حالة مانشستر سيتي الاستثنائية، ثم نذهب لإسبانيا فنتجاهل الأكاديميات العريقة والتصوير الرائع والإخراج الخيالي والمواهب الفذة ونستخرج لمسات يد بيكيه وجوائز بيريز المزيفة، وهكذا. هذا هو بالضبط ما يفعله وزير النقل عندما يصرح بأن تذكرة المترو في مصر أرخص من نظيرتها في أوروبا، وأن سعر الوقود هو السعر العالمي نفسه، وأن حوادث القطارات واردة الحدوث في كل الدنيا. (19) (20) (21)

     undefined

  

في الحقيقة فإن تصرفات الخطيب ومرتضى منصور وتركي آل الشيخ والاتحاد المصري ليست مفاجئة لهذه الدرجة، بل هي نتيجة طبيعية لتفضيلاتهم وخلفياتهم وخياراتهم السابقة، ولكن المفارقة الحقيقية تكمن في جمهور الكرة المصري نفسه، والذي كان قطاع كبير منه في طليعة الفئات المعارضة لهذه المنظومة حتى وقت قريب، والآن هو يبتز كل المترفعين عن انحطاط الصراع الحالي بمزايدات فارغة بلهاء، ويعتبر أن المبرر الوحيد المقبول للنقد والاعتراض هو أن تكون مولودا في حواري كتالونيا ومدريد، أو نشأت على حضور مباريات تشيلسي ومانشستر يونايتد في الملعب، وبما أنك لست هذا ولا ذاك فلتكف عن التنظير ولتتمرغ في الوحل مثل الباقين.

   

هذا المشهد هو الأكثر جنونا وإثارة للحزن على الإطلاق، المشهد الذي تحول فيه جمهور الكرة من السعي لتغيير الواقع البائس إلى السعي لتكريسه وترسيخه وابتزاز المعترضين عليه. هذا هو ما يجعل هذه القصة بلا عبرة أو حكمة مستفادة، بلا خلاصة أو خاتمة تليق بها، مجرد طبقات متراكمة من العفن لن نعثر فيها على ما يصلح للاستخدام مهما بحثنا.

المصدر : الجزيرة