الاجتهاد والموهبة والفرص الضائعة.. هل كرة القدم عادلة؟

ميدان - أبو تريكة

هناك قصة مألوفة لن نحكيها لك لأنك تعلمها سابقا، ولو لم تكن تعلمها فهي قصة تختلف تفاصيلها أحيانا لكنها تتفق في الفكرة نفسها دائما، قصة ولد فقير لم يكن يجد الطعام، وأمه التي عملت في تنظيف المنازل، وأبوه المزارع المعدوم، عن معاناة ذلك الولد في مساعدة أبيه وأمه، وعن رحلته مع كرة القدم، وعدم امتلاكه المال الكافي لشراء حذاء أو الذهاب للتدريب في نادٍ بعيد، وحكايته في التنقل بين النوادي حتى حصل على فرصة وأصبح لاعبَ كرة قدم محترفا، حيث تغيّر كل شيء حينها؛ تحسّنت أحوال الأسرة، واشترى لأمه منزلا فخما، وهو الآن يقف ليحكي حكايته تلك بينما يُتوَّج بطلا لكأس العالم أو هدّافا للدوري الإنجليزي.

     

تبدو حكايته في تلك اللحظة شاعرية ومؤثرة للغاية. عند انضمامه لتوتنهام، يحكي مودريتش قصته مع الحرب ورحلة الفرار من جحيم الصرب في كرواتيا، لوكاكو يحكي عن العيش بدون كهرباء، عن أمه التي كانت تخلط اللبن بالماء، وعن أبيه الذي كان يقاسمه الحذاء، يحكي هذا بعد أن صار سعره يفوق ٨٠ مليون يورو. مارسيلو يحكي عن جده بعد تحقيق دوري الأبطال، وألفيش عن أبيه كذلك، وستيرلينج عن أمه وعن طفولته البائسة، وهذه قصص عظيمة ومؤثرة، لكننا لن نقصها عليك اليوم.(1)(2)(3)(4)(5)(6)

   

نحن هنا الآن لأجل قصة أخرى، قصة مشابهة وربّما تكون أكثر شاعرية، لكنها لم تُروَ ولن تروى، هذه المرة ستكون قصة الصياد الذي ابتلعه الأسد، لا الصياد الذي اصطاد الأسد، الأخير قد حكى حكايته كثيرا، لكن الأول لم يعبأ به أحد، مع أنه سلك الطريق ذاته وواجه الأسد كما واجهه الأول تماما، لكنه لم يظفر به ليعود فيخبرنا بذلك، لهذا لم ندرِ أنه كان موجودا على وجه هذا العالم من الأصل، لم نسمع عنه ولا عن أمه، ولا عن قصة كفاحه الطويلة، ليس لأنه لا يملك واحدة مؤثرة كغيره، لكن فقط لأنه لم يملك الفرصة ليحكي عنها.

       

لأن صديقك كان يستحق
توماس بارتي (رويترز)
توماس بارتي (رويترز)

  

في قصة توماس بارتي لاعب أتلتيكو مدريد التي يتحدث فيها عن صعوده من طفل فقير في غانا إلى أن أصبح أساسيا في كتيبة سيميوني، يحكي أنه في اليوم الذي اختاره فيه أحد الكشافين للذهاب إلى إسبانيا ليلعب هناك، كان في الملعب يومها لاعب أفضل منه وسجّل أغلب الأهداف في تلك المباراة، لكنه لمّا عُرض عليه السفر رفض لأنه كان يرغب في أن يلعب في أحد الأندية الكبيرة في غانا ولذلك تم اختيار بارتي بدلا منه، فقط بهذة السهولة، لو وافق هذا اللاعب على السفر لم نكن سنرى بارتي ولم نكن لنسمع قصته تلك، لكن الواقع أننا الآن لا نعلم أين يقبع صديقه وهل ما زال يلعب كرة القدم أم تركها تماما؟ لكن المؤكد أنه لم يصل إلى ما وصل إليه بارتي رغم أنه كان أفضل منه باعتراف بارتي نفسه.(7)

   

بالطريقة نفسها ستجد الكثير من الحكايات؛ أبو تريكة يحكي عن أخيه الذي كان يتفوق عليه في المهارة لكنه لم يحظ بالفرصة التي حظي هو بمثلها، وكذلك إيدجر ديفيدز لاعب هولندا يحكي عن أخيه، وغيرهم كثيرون، وحتى لو سألت والدك غالبا سيخبرك عن حالات مماثلة في أغلب الأحياء والمدن كانوا أكثر مهارة من بعض اللاعبين المحترفين في جيلهم لكنهم فقط لم يحصلوا على فرصة لإظهار ذلك.(8)(9)

   

وحتى في يومنا هذا، ومع سهولة التنقل وتوفر الأكاديميات التي تُمكّن الكثيرين من ممارسة كرة القدم بسهولة أكثر من الماضي، فإنك مع ذلك ستجد في كل ملعب خماسي شخصا يُقسم الجميع أنه لو لعب كرة القدم لتفوّق على كثيرين ممن يلعبون كرة القدم في المستويات العليا، ومن هؤلاء مَن قطع شوطا بالفعل في قطاعات الناشئين، وعانى كثيرا في السفر والتدريب، لكنه لم يفلح في ممارسة اللعبة بشكل احترافي للأسف. وهنا يبقى السؤال الذي يسأله هؤلاء وغيرهم؛ أليس الاجتهاد والموهبة كافيين ليصبح الشخص لاعب كرة قدم؟

   

لأن الحياة ليست عادلة

  

لنترك كرة القدم الآن، العالم الذي نعيش فيه مهووس بفكرة العدالة، نحن نمتلك حكّاما في المباريات وقضاة في المحاكم وقوانين تتطوّر يوما بعد يوم، ونبتكر أنظمة وتقنيات جديدة مثل حكم الفيديو وعين الصقر فقط لإرساء هذا المفهوم، مفهوم العدل وأن يحصل كل شخص على ما يستحقه بالضبط. وهذا كله لا بأس به، لكننا بسبب هذا الهوس نمتلك تصورات طفولية حالمة حول هذا المفهوم، نحن نظن أن الحياة ينبغي أن تتبنّى الرؤية نفسها التي نتبنّاها، وأن تسير طبقا لهذا المبدأ، ونتصوّر أن بإمكان كل شيء أن يسير طبقا لمعادلة رياضية معلومة العناصر، يكون فيها الناتج معلوما طبقا لمعطيات المعادلة، مع إهمال تام لكون الكثير من العوامل لا يمكن قياسها ولا تدخل المعادلة، وإهمال لحقيقة أنه ليس هناك معادلة من الأصل.

     

وهذا التصور اليوتوبي للعالم هو تصور سطحي منبعه هو الفهم الخاطئ لمفهوم العدالة من البداية، كما أنه يتجاهل الواقع الحقيقي الموجود، ويتجاهل نسبية هذا العدل أصلا. كما أن رغبة البعض في تعزيز دوافعهم لفعل الأشياء هي ما تغريهم بالتفكير بهذه الكيفية، ويحاولون إقناع أنفسهم أن العالم يسير وفق رغباتهم، وأنهم سيشاهدون نهاية قاسية للظالمين، وأن مجهودهم المتواصل سيقودهم للنجاح حتما، وأن فريقهم لا بد أن يفوز لأنه اجتهد، أو لأنهم أناس طيبون يستحقون الفرحة، ومن الجيد تصديق هذا بالفعل، لكنه للأسف ليس صحيحا.

   

لأن كرة القدم لا تحسب الديون

حسنا؛ لنعد إلى كرة القدم، وكما يقول إدواردو جاليانو فإن كرة القدم ليست بمعزل عن الحياة، بل إنها انعكاس للعالم، لذلك تسيطر بعض تلك الأفكار الحالمة على مجتمع كرة القدم، بل إنها تظهر هناك بشكل أكبر، وتلقى رواجا كبيرا كذلك على أساس أنها جزء من إثارة كرة القدم وأن كرة القدم تسدد ديونها دائما وغير ذلك.(10)

     

هل يبدو عدلا أن يحصل كيكو كاسيا
هل يبدو عدلا أن يحصل كيكو كاسيا "يسار" على ٣ كؤوس لدوري الأبطال ولا يحصل بوفون "يمين" على واحدة؟ (رويترز)

  

بطريقة أو بأخرى يقتنع بعض المشجعين أن الحظ لا يساند إلا المجتهدين، وأن اجتهاد فريق ما يبقى مبررا كافيا ليستفيد هذا الفريق بكل شيء، الأهداف غير المنطقية وأخطاء التحكيم والفوز الخزعبلي، كل ذلك يبقى مُبررا ما دام الفريق قد اجتهد، مع أنه لا منطق إطلاقا في الربط بين الأخطاء والاجتهاد من عدمه، لأنها أخطاء في النهاية، ولأن الحكم لا يمتلك مقياسا يحدد اجتهاد كل فريق ليقرر أن يظلم أحدهما لصالح الآخر، لكن هوس البشر بالعدل كما أسلفنا هو ما يقودهم لذلك.

   

فكِّر للحظات وستكتشف أن الاعتقاد بأن كرة القدم عادلة ليس أكثر من هراء. تأمّل لدقيقة؛ هل يبدو عدلا أن يحصل كيكو كاسيا على ٣ كؤوس لدوري الأبطال ولا يحصل بوفون على واحدة؟ هل يبدو عدلا أن يفوز أوليفيه جيرو وسامي خضيرة بكأس العالم بينما لم يحصل عليه ميسي ورونالدو؟ وهل يبدو عدلا أن يصعد منتخب كوبر لكأس العالم بينما لم يفعل منتخب حسن شحاته؟

   

كرة القدم التي تلعب النرد 

ربّما لو كانت كرة القدم عادلة كما نتمنى لكانت المتعة أكبر مما تبدو عليه الآن، وربّما لو كانت كذلك ومارست كل المواهب المظلومة كرة القدم لفقدت المواهب أهميتها الحالية والقائمة على ندرتها أصلا، لا ندري، ومثلا لو احترف شقيق أبو تريكة اللعبة لكان في المنتخب المصري ثنائي تريكة وصعدا بالمنتخب لكأس العالم بينما لم يستطع أحدهما أن يفعلها منفردا، وكذلك أخو ديفيدز، ربما لو أكمل مسيرته لرأينا نسخة أفضل من ديفيدز، نسخة لم تصب بالغلوكوما، وكانت أطول عمرا في الملاعب، ربّما كان هذا سيحدث، وربّما لا، لكن الواقع أننا رأينا تريكة واحدا وديفيدز واحدا، وأي شيء غير ذلك قد حُكم عليه بالنسيان، لأننا لا نملك إلا النتائج لنحكم بها على أية حال.

   

التصور أن لاعبي كرة القدم الذين يلعبون في المستويات العليا أصبحوا كذلك لأنهم كانوا الأكثر موهبة واجتهادا هو تصوّرٌ مماثل لتصور المجتمعات الحديثة عن الفقراء الذين يستحقون الفقر لأنهم أقل من غيرهم، والأغنياء الذين يستحقون الغنى لأنهم أفضل من غيرهم، والتعامل وكأننا في سباق نزيه يبدأه الجميع من النقطة نفسها، مع تجاهل تام لفارق الظروف والأحداث والبيئات المختلفة، ولذلك التصور أن هؤلاء هم صفوة المواهب في العالم، أو أنهم كانوا الأكثر اجتهادا، تصورٌ قاصر تماما تنفيه المشاهدة والمنطق معا، لأنه لا يُعقل أبدا أن يكون محمد النني مثلا كان أفضل لاعب في شوارع المحلة في جيله، هذه إهانة كبرى للمحلة ولكرة القدم على حدٍّ سواء.

    

شئنا أم أبينا لا بد أن نعترف أن الحظ والتوفيق يُشكِّلان جزءا كبيرا من كرة القدم، وأن العشوائية تلعب بها دورا أكبر بكثير مما نتخيل
شئنا أم أبينا لا بد أن نعترف أن الحظ والتوفيق يُشكِّلان جزءا كبيرا من كرة القدم، وأن العشوائية تلعب بها دورا أكبر بكثير مما نتخيل
    

لكنك ربما حين تسمع اللاعبين يحكون قصة حياتهم ويبرزون معاناتهم يبدو لك وكأن نجاحهم كان مرتبا وأنهم استحقوا ذلك بفعل اجتهادهم وحده، لكن هذا جزء من الحكاية فقط، لأنه لو كان كذلك؛ فمَن أخبرك أنه لم يكن هناك مَن اجتهد أكثر منهم؟ رحلة صلاح اليومية التي كان يقطعها من نجريج إلى القاهرة والتي يحكيها ونتعامل معها كأنها تفسير واضح لسبب نجاحه، ما يدريك لربّما كان هناك طفل غيره يقطع ضعف تلك المسافة وربما كان أكثر منه موهبة كذلك، لكنه للأسف لم يحترف كرة القدم لسبب أو لآخر لذلك لم نسمع عنه ولا عن تلك البلد التى تبتعد عن نجريج.(11)

  

ومع ذلك، لا يعني هذا أن كرة القدم ليست سوى حظ وعشوائية مطلقة، وأن اللاعبين المحترفين وصلوا لأماكنهم بالمصادفة والتوفيق فقط، وأن ساعات التدريب والتعب تذهب هباء في مقابل ضربة حظ، لا أحد يقول ذلك بالتأكيد، بل تبدو كرة القدم أشبه بلعبة النرد؛ تقذف الحجر ولا تدري على أي رقم يستقر ولا عمل لك في ذلك، ثم بعد ذلك يكون عملك بحظك هذا.

   

والمؤكد أن اللعبة قد توسعت إلى حدٍّ غير مسبوق، وصارت صناعة ضخمة تُبذل فيها أموال طائلة، وتطورت الأمور حتى باتت أكثر تفاصيلها تُدرس بعناية فائقة، وباتت الأرقام والإحصائيات تحكم كل صغيرة وكبيرة، وهي تتجه نحو المزيد والمزيد من السيطرة على كل التفاصيل الدقيقة للمنظومة. لكننا شئنا أم أبينا لا بد أن نعترف أن الحظ والتوفيق يُشكِّلان جزءا كبيرا من هذه اللعبة، وأن العشوائية تلعب دورا أكبر بكثير مما نتخيل، والكثير من الأحداث التي تظنها مرتبة منضبطة لم تكن سوى نتيجة لهذه العشوائية، وأن كرة القدم لم تكن ولن تكون عادلة يوما ما، لأنها لا تذكر ديونها من الأصل حتى تسددها، ولأن النني لم يكن أبدا أفضل لاعب في شوارع المحلة.

المصدر : الجزيرة

إعلان