شعار قسم ميدان

عصابات ودماء وكراهية.. قصة العداء التاريخي بين ليفربول ومانشستر

لم تكن إنجلترا قط هي المكان المثالي لنشوء المنافسة الودودة بين الخصوم؛ رياضية كانت أو غير ذلك، فخلف الصورة الإنجليزية المهذبة المتحفظة، هناك تاريخ طويل من الاقتتال الأهلي في هذه البلاد، وتاريخ من العداوات التي استمر بعضها لعقود طويلة. ورغم انتهاء حقبة الحروب الداخلية منذ قرون، فإن كرة القدم يمكنها أن تخبر عمّا كان في الماضي؛ فالجميع خصوم للجميع، والعداوات في ساحات الكرة وحول الملاعب تحمل الطابع القديم نفسه الباحث عن التفوق وفرض السلطة. ومن بين كل هذه العداوات يظهر ديربي "الشمال الغربي" بين ليفربول ومانشستر يونايتد كأقوى عداوة إنجليزية وواحد من الخصومات الأشهر عبر تاريخ اللعبة.

 

حكاية القناة

بدأت الحكاية[1] في عصر صناعة المنسوجات القطنية بمانشستر في نهاية القرن التاسع عشر، والتي كانت تعتمد على ميناء مدينة ليفربول في استيراد المواد الخام، ووجد التجار أنفسهم يدفعون أموالا طائلة -حسب تقديرهم- من أجل وصول هذه المواد، فاتفقوا على شراء قطعة طولية من الأرض تربط بين مانشستر وبين سالفورد، وقاموا بحفر قناة ملاحية جنوب ليفربول، بحيث تبحر فيها السفن إلى مانشستر مباشرة دون الحاجة إلى التوقف في ليفربول!

حفر القناة

واقعة حفر القناة حدثت على خلفية التنافس بين المدينتين -الفاصل بينهما 56 كيلومترا- على لقب أهم مركز اقتصادي وصناعي في غرب إنجلترا أثناء فترة الثورة الصناعية، واعتمدت مانشستر فيه على كونها مدينة صناعية مهمة، واعتمدت ليفربول على كونها مركزا بحريا، والتكامل بين المدينتين في هذين النشاطين جعل من حفر القناة -حسب ما رأى أهل ليفربول- نوعا من مخالفة الاتفاق الضمني بينهما. لذلك عارض السياسيون في ليفربول قرار الحفر، وبعد إتمام تشغيل القناة ودخولها في مرحلة العمل، تسبب الأمر في أزمة كبيرة بين عمال الموانئ وارتفعت نسبة البطالة في ليفربول، خاصة وأن بناء هذه القناة استغرق 6 سنوات وتكلف حينها 15 مليون جنيه إسترليني، وهو ما يعادل مليارا ونصف المليار إسترليني بحساب أيامنا حاليا. وبعد ثلاثة أشهر فقط من ذلك الوقت، جاءت المباراة الأولى في تاريخ ديربي شمال غرب إنجلترا، بين مدينتين ترى كل واحدة في الأخرى خصما لها، فامتزجت عداوة الكرة مع العداوة السابقة منذ اللحظة الأولى، خاصة وأن المباراة كانت الفاصلة في تحديد مصير هبوط اليونايتد (اسمه القديم نيوتن هيث) إلى دوري الدرجة الثانية!

 

رحلات الصعود والهبوط

على عكس الكثير من الدوريات الأوروبية الكبرى، لم يعرف الدوري الإنجليزي بطلا متوجا منذ الأزل لا يختلف مستواه بمرور العقود، ولذلك كان التنافس والخصومة بين مانشستر وليفربول يتصاعد ويخفت عبر الوقت. فبعد البداية المتأججة والتي تأثرت بمسألة إنشاء قناة مانشستر، فإن اليونايتد بقي لسنوات طويلة في دوري القسم الثاني في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، بينما استقر ليفربول معظم هذه السنوات في دوري القسم الأول. لكن هذه الأحداث ربما قد أوجدت شعورا بتفوق أبناء ميرسيسايد كرويًّا حتى وإن كان التفوق التجاري من نصيب مانشستر، والعكس صحيح إذا ما أردنا تخمين شعور مشجعي اليونايتد في تلك الحقبة. وبين الحرب العالمية الأولى والثانية، كان التفوق لليفربول بشكل قاطع، إذ استطاع الريدز حسم 3 ألقاب دوري قبل نهاية الحرب، بينما توقفت إنجازات اليونايتد عند لقب واحد لكأس الاتحاد.

بوب بايزلي المدرب التاريخي لليفربول (مواقع التواصل)
بوب بايزلي المدرب التاريخي لليفربول (مواقع التواصل)

مع نهاية حقبة الستينيات اقتربت المنافسة وأصبح الناديان من المنافسين دوما على لقب الدوري المحلي، لكن اليونايتد سبق للألقاب الأوروبية عندما قاد مات باسبي الفريق للحصول على اللقب الأوروبي الأول في موسم 1968. وقبل عام 70 كان الفريقان لهما الرصيد نفسه من ألقاب الدوري (7 ألقاب)، لكن اليونايتد تفوق في ألقاب كأس الاتحاد وأوروبا. ولكن مع بداية السبعينيات، وقدوم بوب بايزلي[2] مدربا لليفربول، تحول الريدز إلى عملاق أوحد لا يمكن إيقافه، وحصد كل شيء؛ وفي 20 عاما أصبح منفردا بصدارة ألقاب الدوري (18 لقبا)، والمنفرد بصدارة الأندية الإنجليزية في أوروبا (4 ألقاب دوري أبطال). وتوقفت إنجازات اليونايتد محليا وأوروبيا بدرجة كبيرة إلى أن جاء الإسكتلندي الشهير أليكس فيرغسون.

أليكس فيرغسون الأيام الأولى مع اليونايتد (مواقع التواصل)
أليكس فيرغسون الأيام الأولى مع اليونايتد (مواقع التواصل)

ومثلما كان تأثير قدوم بايزلي لمقعد تدريب ليفربول، كان تأثير قدوم فيرغسون[3]، وشرع الرجل في خطته منذ بداية التسعينيات في الصعود الواثق السريع باليونايتد إلى الزعامة الإنجليزية. وبمجموع 13 لقبا للدوري و5 ألقاب لكأس الاتحاد أصبح التفوق الرقمي المحلي لليونايتد محسوما، وضاق الفارق الأوروبي إلى لقبين فقط، بعدما استطاع أن يحقق مع الشياطين لقب ذات الأذنين مرتين.

 

السرد السابق وإن كان لا يخلو من إملال فإنه يخبرنا أننا أمام ناديين ليسا في حالة منافسة منذ البداية إلى النهاية، لكن الحال أعقد. فالناديان خصمان بحكم المكان وبحكم التاريخ وحكاية القناة، ثم اقتربا في الألقاب حتى فترة الستينيات في حالة تنافس مكررة شأنهم شأن أندية كثيرة تنافس بعضها بعضا في الوصول إلى زعامة البلد، ثم يأتي التعقيد حول حقيقة أن كل نادٍ قد منح الآخر 20 عاما من مشاعر الحقد. العشرون عاما الأولى شاهدت خلالها جماهير اليونايتد فريقهم يخسر كل تميز في صالح ليفربول الذي اكتسح كل شيء، والعشرون عاما الأخرى شاهدت جماهير ليفربول كيف نجح اليونايتد في سلب الزعامة منهم، فتكوّنت حالة من الحقد المتدرج المتمهل، ليس صارخا منذ لحظة البداية كما الحال في برشلونة وريال مدريد، ولكنه مشتعل في نهايته.

 

لقد نشأنا على كراهيتكم

اعتمد اليونايتد وليفربول على العديد من اللاعبين المحليين في فترة التسعينيات وعقد بداية الألفية؛ هؤلاء اللاعبون من أبناء مدينة ليفربول ومانشستر كانوا أكثر وعيا وتعبيرا عن الخلاف بين الناديين. يصف ديفيد جيمس الحارس المخضرم لليفربول هذه الحالة، ويقول إنه لم يعتبر لاعبي اليونايتد أعداء لمجرد وجودهم في صفوف الخصم، لكن المنافسة بين الفريقين أصبحت عادة، ففي رحلات المنتخب الإنجليزي كان لاعبو اليونايتد يأكلون على طاولة، بينما يجلس لاعبو ليفربول على طاولة أخرى.

كان واين روني وستيفين جيرارد من المعبرين الواضحين عن العلاقة بين الناديين، فالأول ابن مدينة ليفربول قد نشأ في أسرة تشجع إيفرتون، ولذلك فهو يكره ليفربول بحكم النشأة[4]، ولم يتغير الأمر عندما انتقل إلى مانشستر يونايتد بالطبع. أما جيرارد فهو إحدى أيقونات ليفربول كمدينة بمثل ما هو لاعب تاريخي للريدز، فالمدينة الساحلية الإنجليزية تشبه قرية يعرف الناس فيها بعضهم بعضا، وجيرارد هو أهم شخص في هذه المدينة. ولذلك كان شعار الأصابع الخمسة هو علامة ستيفي عقب كل هدف يسجله في مرمى اليونايتد، كي يذكر خصومه بالزعيم الحقيقي للكرة الإنجليزية والذي يحمل 5 ألقاب لدوري الأبطال!

 

هذه الكلمات التي تصف وضع جيرارد في ليفربول جاءت على لسان ابن ميرسيسايد الآخر جيمي كاراجر، والذي لم يخف أبدا كراهيته الواضحة لليونايتد. والحديث عن كارا يجلب ذكر المدافع التاريخي لمانشستر غاري نيفل، والذي عبّر عن كل شيء في كلمات[5] واضحة بسيطة تخلو من أي محاولة للتجمّل، فقال: "أنا لا أطيق ليفربول، لا أطيق الناس فيها، ولا أطيق أي شيء ينتمي إليهم!".

 

الكراهية تشبه مرضا معديا ينتقل في الهواء، فعلاقة أبناء ليفربول بأبناء مانشستر يمكن فهمها ببساطة، لكن الكراهية انتقلت أيضا لتشمل الوافدين غير الإنجليز أصلا، وحادثة السباب العنصري[6] في موسم 2012، والتي تورّط فيها الأورغواياني سواريز ضد الفرنسي باتريس إيفرا هي خير دليل على العدوى!

 

ومن المثير للتأمل أن علاقة الناديين على المستوى الرسمي على الأقل كان فيها بعض مواقف الود عبر سنوات ما قبل مرحلة السبعينيات، فيقال مثلا إن بعض لاعبي الفريقين قد اتفقوا على التلاعب بنتيجة الديربي موسم 19015 من أجل إنقاذ مانشستر من الهبوط، وهو ما دفع الاتحاد الإنجليزي إلى منع هؤلاء من ممارسة اللعبة مدى الحياة. وفي عام 1958 عقب حادثة طائرة ميونخ[7] والتي أودت بحياة معظم لاعبي فريق اليونايتد حينها، عرض ليفربول أن ينتقل بعض لاعبيه إلى مانشستر لتدعيم الفريق الذي خسر معظم نجومه، بل إن مسألة الصفقات المباشرة بين الناديين لم تكن مرفوضة رغم ندرتها، وآخر المنتقلين كان فيل تشيسنال الذي غادر مانشستر إلى ليفربول في 1964. لكن الوضع اختلف الآن، وأصبح مايكل أوين هو يهوذا الخائن، لأنه بعد رحلة ريال مدريد ونيوكاسل اختار الذهاب إلى اليوناتيد العدو!

 

ماذا حدث؟

عصابات ودماء وكراهية.. قصة العداء التاريخي بين ليفربول ومانشستر

رغم حكاية القناة الملاحية، كان يمكن لديربي الشمال الغربي الإنجليزي أن يتسم ببعض الود، لكن العديد من النقاط التاريخية التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية لم تسمح باستمرار الود، ذكرنا منها الأعوام العشرين الصعبة التي قدمها كل نادٍ للآخر، ومنها أيضا مسألة الهوليغانيزم!

 

رغم بشاعة الحروب الأخيرة في تاريخ البشرية، فإنها كانت تمنح البشر طريقا لتصريف مشاعر الانتماء لراية أو شعار، ومنحهم الإحساس بخوض صراع، وتمنحهم الشعور بوجود عدو يجب مواجهته. ومنذ نهاية الحرب أصبحت هذه المساحات الشعورية فارغة في نفوس الكثيرين، ولعبت كرة القدم دورها في الإشباع. فكرة القدم هي الصراع الذي تخوضه جماعتان مختلفتان تحت شعارين مختلفين بغرض الانتصار على الآخر. وفي السبعينيات والثمانينيات بدأ تكوّن مجموعات من مشجعي الأندية في إنجلترا، اتسمت هذه المجموعات بالعنف والتعصب الشديد في التشجيع، وبدأ عصر الهوليغانز[8].

 

أصبح تشجيع مانشستر يونايتد أو ليفربول يشبه العقيدة الدينية الجديدة التي نشأت حولها جماعات الهوليغانز، وأصبحت ساحات الملاعب وما حولها بمنزلة أرض للمعركة، والوقت الذي يتبع أي مباراة هو موعد القتال. لقد تحولت الأزقة الضيقة حول أنفيلد أو أولدترافورد إلى أشراك تحاول جماعات الألتراس أن تستدرج خصومها إليها، ورغم تدخلات الشرطة فإن حوادث الضرب والاقتتال الجماعي لم تتوقف حول وقت الديربي. وليس غريبا على حروب العصابات هذه أن يسقط فيها بعض القتلى أو المصابون بعاهات مستديمة، وليس من الغريب أيضا أن يستخدم بعضهم أسلحة مثل الغاز المسيّل للدموع مثلما حدث في الثمانينيات.

 

الحديث عن الهوليغانز سوف يستمر في "ميدان" عبر الأسابيع القادمة عبر سلسلة جديدة نقدمها، والعداوة في ديربي الشمال الغربي أيضا سوف تستمر، أو كما قال أليكس فيرغسون ذات مرة: "لا يهم إن كنّا نلعب نحن وهم في مسابقة لألعاب الأطفال، فعندما نلتقي معا يجب أن تتوقع انطلاق الشرر!".

المصدر : الجزيرة