شعار قسم ميدان

ديوكوفيتش.. خبير العلاج بالصدمة

ميدان - ديوكوفيتش
المشهد الأول

"كيف أصبحتُ، رغم أنفي، طرفًا في معركة تبدو أزلية رغم آنيتها، لا أعرف كيف بدأت والأهم أنني لا أعرف متى تنتهي، تزداد حدتها كلما حاولت أنا، النسخة التي أعرفها مني، التغلب على هذا المجهول، الآخر، العطب الذي تفرع شيئا فشيء مكونا شبكة غير مرئية تكبل حركتي، تماما كدمية متحركة، ولكن الفارق الوحيد هو أن هذا الشطر الآخر مني، من نفسي هو من أمسك بالخيوط.. يا له من جنون".
 

أخذ الصربي "نوفاك ديوكوفيتش" شهيقا عميقا محاولًا طرد هذه الأفكار السخيفة من رأسه أثناء انتقاله بسلاسة كخبير بين أوضاع اليوغا، أحد ملاجئه لتصفية ذهنه، ولكنه واجه صعوبة في ذلك، إذ أنها لا تنفك تطفو على السطح من جديد، أقوى من ذي قبل، كما لو أنها تتغذى على المقاومة.
 

 
رغم ذلك، لم يكن أمامه بدّ من المقاومة، فهي معركة من أجل الهيمنة سبق وأن خاض العشرات منها ليسيطر على مقاليد الحكم في عالم الكرة الصفراء، ولكن هذه المرة الأولى التي يصبح فيها الصراع داخليا رغم علنيته، وقد وصل لذروته في ميامي حيث تجرع هزيمة ثالثة على التوالي، ليعود بالزمن إلى عام 2007، أي قبل أربع سنوات كاملة من "الانفجار الكبير" الذي أسفر عن مولد نجم "ديوكوفيتش" (1).

لكن رائحة العشب الذي امتلأ بها أنفه وهو يتخذ "وضع الطفل" الذي يشبه السجود، مع فرد الذراعين للأمام قد أوقفت تلك الرحلة عبر الزمن، في عام 2011 وتحديدا في بطولة ويمبلدون، ثالث البطولات الأربع الكبرى، عندما فاز بأول ألقابه في نادي عموم إنجلترا وارتقى لقمة التصنيف العالمي للمرة الأولى، واحتفل بصورة غير معهودة عندما "تذوق" عشب الملعب الرئيسي بعد تغلبه على غريمه الاسباني "رفائيل نادال".



تغير "مذاق" العشب في مخيلة "ديوكوفيتش" مع تبخر ملامح الصورة الناصعة، وتداخلت لقطة أخرى أكثر شحوبا من نفس الملعب ولكن بعدها بخمس سنوات، عندما انسحب أمام التشيكي توماس بيرديتش في ربع النهائي. لم يحتمل البقاء في هذا الوضع طويلا وانتقل إلى الخطوة التالية وهو ينظر بعتاب إلى مرفق يده اليمنى (2).
 

المشهد الثاني
كانت السماء صافية كعادتها في مثل هذا التوقيت من العام، والشجر قد بدأ يبوح بمكنونات نفسه متبادلا الحديث مع قاطني غصونه من شتى أنواع العصافير بمختلف ألسنتها، في كرنفال سمعي يدعو الجميع بنوع من السحر لا يمكن مقاومته وكأنها النسخة المسالمة من "النداهة" أو عروس البحر. 

لم تتمكن تلك النسمات من التغلغل في شعره الكثيف، الذي يبدو كغابة استوائية مطيرة، لكنها بالتأكيد جعلته يشعر بانتعاش، والانتعاش حثه على تبادل أطراف حديث لم يكن محتواه، في الحقيقة، ذا شأن مع زوجته إيلينا التي اصطحبها في تلك النزهة برفقة ابنيهما، ولكن ربما أراد أن يسمع صوتا يذكره بتلك الحقبة الذهبية التي توج خلالها بأحد عشر لقبا في البطولات الأربع الكبرى، بعدما انفصل عن جهازه التدريبي بالكامل (3).

تعاقبت في مخيلته المشاهد، بعضها متداخل، والقاسم المشترك بينها "ماريان فيدا"، الذي كان حجر زاوية في كل ما حققه، إلى أن قرر الاستغناء عنه عندما ساءت الأمور فيما أطلق عليه "العلاج بالصدمة"، ولكن على ما يبدو لم تكن هذه الصدمة كافية لتستفيق النسخة التي يعرفها العالم من "ديوكوفيتش"، "ديوكوفيتش" الذي لا يزال خاضعا لسطوة ذلك العطب. (4)

undefined

كان لكلمة "سطوة" وقع غريب في نفسه، كأنه أدرك أن هذا الموضوع، على خطورته، يشغل حيزا كبيرا من تفكيره، فآثر أن يلعب مع ابنه الذي بدا أنه بدأ يشعر بالملل من النزهة، وفي أثناء ركضه مع ابنه تحت أنظار الأم الحانية التي آثرت الاستمتاع بمشاهدتهما يلعبان في هذه اللوحة البديعة ثلاثية الأبعاد، كانت هناك طفلة في السادسة من عمرها تقف مشدوهة، اقتربت من الثلاثي بخطوات مترددة ومدت رأسها للأمام كما لو كانت تحاول اختصار خطوة أخرى، قبل أن تعود سريعا إلى رفيقها الذي رفض الإنصات لما تقوله في البداية، لكنها لم تجد بدا من خطف الهاتف الذي استحوذ على كل تركيزه لتلفت نظره إلى حيث يشير إصبعها؛ تجاه "ديوكوفيتش".

انتفض رفيقها من مكانه، وتوجه سريعا نحو "ديوكوفيتش"، باحثا عن شيء يصلح لأن يوقع عليه لاعبه المفضل، وفي النهاية لم يجد سوى القبعة التي يعتمرها. شعر ببعض الارتباك ولكن اللاعب الصربي رسم ابتسامة متعبة على وجهه الطويل في محاولة لكسر رهبة الموقف، نفس الرهبة التي لم تمنع الفتاة من أن تقول بعفوية:

– لماذا تعمل مع هذا الأصلع؟ الأصلع الآخر قاد اللاعب الآخر للفوز أكثر منك، هذا ما يقوله أخي.

رمقها شقيقها بنظرة غاضبة لم تفهم مغزاها، فهي لم تنطق بعبارات نابية حسب فهمها، وضحك "ديوكوفيتش" من فرط براءة الفتاة التي لم تجد رابطًا بين مدربه الأميركي "أندريه أغاسي" والكرواتي "إيفان ليوبيسيتش" مدرب السويسري روجيه فيديرير سوى الصلع.

حياهما "ديوكوفيتش" بعدما التقطا معه صورا تذكارية ولكن صورة واحدة لا تفارق ذهنه، تلك التي يغطي فيها وجه "أغاسي" الكريم الواقي من أشعة الشمس خلال ظهوره معه في بطولة ويمبلدون العام الماضي، والتي شاهدها للمرة الأولى في مقابلة لم يتمالك خلالها التعبير عن دهشته.


المشهد الثالث

عاد المراهق إلى منزله ومشاعر مختلفة تتخبط في صدره، ما بين خجل مما قامت به شقيقته الحمقاء واستياء من ذهوله والجمود الذي أصابه عندما قابل "ديوكوفيتش"، وبالطبع سعادة غامرة بمقابلة لاعبه المفضل والصور التي التقطها معه.

لمعت عيناه عندما جاء على ذكر الصور، فانتقى أجمل تلك الصور وحرص على استخدام المؤثرات التي تجعلها تبدو مثالية ونشرها عبر حساباته على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، ليطغى شعوره بالفخر على أي إحساس آخر خالجه تجاه ذلك الموقف.

انهالت الإشعارات على هاتفه المحمول من مختلف التطبيقات، طالع جميعها بفارغ الصبر لكن لم يصله ذلك الإشعار الذي ينتظره من تلك الفتاة التي يسعى لإبهارها، ما أصابه بشيء من خيبة الأمل.

أنسته المفاجأة متابعة نتيجة نهائي بطولة ميامي المفتوحة، فتح هاتفه المحمول ولم يتكبد عناء كتابة الكلمة كاملة، إذ كان الهاتف ذكيا بالقدر الكافي لمتابعة اهتمام صاحبه، فطالعه بفوز الأميركي "جون إيسنر" بأول ألقابه في بطولات الأساتذة على حساب الألماني "ألكسندر زفيريف". (5)

وبينما همّ لمطالعة تفاصيل الفوز، باغته إشعار جديد ظن أنه المنتظر، لكنه كان من تلك الفتاة الأخرى التي تسعى جاهدة للفت انتباهه، ضغط على الرابط الذي وضعته في التعليق ليرفع حاجبيه عندما قرأ نبأ إنهاء علاقة العمل التي تجمع "ديوكوفيتش" بمدربه بعد أقل من عام. (6)

ظن في البداية أن الأمر مزحة، "كذبة أبريل" كتلك التي تتفنن وسائل الإعلام في تلك الفترة من كل عام فيها لتبدو واقعية، ولكن بمجرد بحث بسيط اكتشف أن النبأ قد يكون صحيحا. ترك الهاتف بجواره وهو في حالة غريبة تعذر عليه تحديد هويتها ليقول في نفسه:
– إذا هو علاج جديد بالصدمة.

المصدر : الجزيرة