نيمار وكافاني.. حرب كسر الظل
ربما يدفع عالم الكرة ولاعبوها ضريبة التطور التكنولوجي الحالي وظهور منصات التواصل الاجتماعي التي لا تفوّت شيئا، وهو ما يجعل كل حركة تحت التركيز، وفي ظل وضع تلك الآليات بيد الجماهير لم يعُد تضخيم اللقطات أو التقليل منها في يد الإعلام وحده كما كان الوضع في السابق.
في تلك الأيام تختار جماهير اللعبة ما يستحق الحديث سواء كان جديرا بذلك أو أقل شأنا مِن أن يُذكر، ولكن لا شيء من ذلك يحدث بلا سبب، ربما كان يُمكن اعتبار ما حدث بين نيمار وإدينسون كافاني نجمي باريس سان جيرمان وخلافاتهم حول تسديد الضربات الثابتة أمرا عابرا، ولكن لظروف عدة بات هذا مستحيلا. ليس فقط لكونهما من نجوم الصف الأول، ولا لكون أحدهما أغلى لاعب في التاريخ، ولا لأنهما يُمثّلان فريقا يُفترض وجوده بين كبار القارة العجوز في الوقت الحالي، وقد لا يصح اختزال الأمر في كون نيمار محاطا بأعين العالم كله عقب انتقاله من برشلونة، بل ربما أيضا لتقاطع مصير ورغبات كل منهما في نقطة واحدة ضربت بشكل أو بآخر الوتر الأكثر حساسية في حديقة الأمراء: لماذا لا يُحقّق باريس سان جيرمان أكثر من لقب الدوري الفرنسي بعد كل تلك الاستثمارات؟
ظهر النادي الذي يسهُل تقسيم تاريخه إلى مرحلتين يفصلهما استحواذ مجموعة قطر للاستثمار الرياضي على غالبية أسهمه عام 2011، أو بتعبير آخر "ما قبل ناصر الخليفي وما بعده"، في موقف استثنائي من القوة أثناء تزمته لحماية نجمه ماركو فيراتي من إغراء برشلونة، حين ارتد موجها للنادي الكتالوني ضربة قاصمة حتى ولو كلفته 222 مليون يورو لفعلها، فما يميز تلك الصفقة حقا هو أنها السابقة الأولى في العصر الحديث التي يخطف خلالها "فريق أموال كما يسموه" نجما أساسيا من عملاق أوروبي وهو لا يزال واقفا على قدميه.
الأمر لا يتعلق بتحقيقه مكاسب مادية من عدمه، وهو أمر شبه مستحيل بالفعل في ظل انخفاض جماهيرية الدوري الفرنسي مقارنة بنظرائه الكبار وبالتالي انخفاض عوائده التسويقية، ولكن كل نجم تطأ أقدامه حديقة الأمراء مهما كلَّف يأتي في النهاية بما يبحث عنه مشتريه، وهو المزيد من القوة الفنية والتسويقية لاسم باريس سان جيرمان. لهذا مثلا ارتبط اسم النادي دائما بالسعي وراء كريستيانو رونالدو نجم ريال مدريد(1)، فللحصول على المزيد من المشجعين لا توجد طريقة أسهل من شراء لاعب يأتي ومعه جماهيره.
يتقاطع ذلك الطريق مع أسطورة "مبيعات القمصان" التي شهدت انتشار مزاعم بقدرتها على تعويض الأموال الطائلة التي تُنفق لضم اللاعبين، هذا الأمر عديم الصحة والمنطق لأن النادي لا يحصل سوى على نسبة ضئيلة من تلك المبيعات بينما تذهب الحصة الأكبر لشركة الملابس التي أنفقت بالفعل مبلغا ضخما للحصول على حق تصميم وبيع القميص. هذا لا يعني أن باريس ليس مستفيدا من ارتفاع المبيعات، بل إنه خرج محققا هدفه الكامل: شعاره وقميصه يجوبان العالم أجمع مجتذبين المزيد من الأنصار. مهما كان حجم النسبة المادية التي يتلقاها النادي من قمصان نيمار، ومهما كانت زيادة النجوم والمبيعات ستعني عقدا أكبر من راعي الملابس في المرة المقبلة، مَن قال إن إدارة الخليفي تهدف إلى الربح المادي في الوقت الحالي أصلا؟
ربما أوحت الأموال القطرية بأن كل شيء يجري بسهولة، فها هو ميلان العريق يسلمه نجميه زلاتان إبراهيموفيتش وتياغو سيلفا عن طيب خاطر، وذاك نابولي لم يصمد أمام تلك الإغراءات ليُهديه إدينسون كافاني وإزيكيل لافيتزي، وهناك أنخيل دي ماريا بعد تألقه في ريال مدريد ثم فشله في مانشستر يونايتد ينتهي به المطاف في عاصمة النور، وصولا إلى سوق انتقالات ما كان ليحلم به أحد على الإطلاق جلب خلاله النادي نيمار ومبابي بـ 400 مليون يورو حتى لو كلفه هذا فتح تحقيق رسمي من الاتحاد الأوروبي للتأكد من عدم خرق قواعد اللعب المالي النظيف(2). ولكن هل من الممكن أن تكون تلك السهولة قد انتقلت إلى أرض الملعب في شكل من أشكال التساهل؟ أن الأمور تظل محسومة بفارق الجودة الخرافي بين باريس ومنافسيه، وأن هذا الفريق ليس بحاجة لتكاتف أفراده من أجل حسم المسابقة المحلية وحان الوقت ليلتفت كل شخص إلى ما يخصه؟
واحد من أهم أسرار انتشار لقطات نيمار وكافاني هو ضربها لعمق الصورة النمطية المأخوذة عن النادي أنه لا يفعل شيئا سوى ضخ الأموال لشراء اللاعبين دون تكوين شخصية قوية أو حتى حقيقية له. ففي رحلة البحث عن تلك الشخصية المفقودة نجد بعض الأندية تكتسبها من قيمتها التاريخية أو من جماهيرها أو من بعض الأفراد لاعبين أو مدربين، فمثلا إن أردت لاعبا يمثّل شخصية ليفربول ستجد جيرارد وداغليش، وإن أردت لاعبا يمثّل شخصية تشيلسي فلديك تيري ولامبارد، وإن أردت ممثّلا لشخصية مانشستر يونايتد مهما كان كم اللاعبين المميزين الذين تعاقبوا عليه سيظل سير أليكس فيرغسون هو العنوان الأبرز.
باستثناء وحيد وواضح هو زلاتان إبراهيموفيتش لا يسهل إيجاد هذه النوعية في حديقة الأمراء، فهل هي ضالّة أخرى يحاول باريس إيجادها في نيمار؟ ربما يبدو مزاجيا للغاية بالنسبة لهذا الدور ولكنه يُجيد لعبه مع منتخب بلاده حتى الآن إلى جانب قدرته على حسم المباريات الصعبة والتسجيل في شباك الكبار. إن كان الأمر كذلك فمن المُنتظر أن يوفر البرازيلي مزيدا من التقدم والاستقرار، ولكن لأنه وزن أكبر مما يمكن لمدرب الفريق أوناي إيمري أن يحمله بدأ العرض بمشاهد قتاله مع كافاني على الركلات الثابتة.
على الجانب الآخر ودّع نيمار كتالونيا وعينه على الأرجنتيني الذي تركه وهو يرى أنه لم يعُد واجبا عليه أن يُضحي لأجله بينما يستطيع أن يحمل فريقه الخاص بنفسه، وهو ما تجلى بصناعته 5 أهداف في 7 مباريات مقابل تمريرة واحدة حاسمة من ميسي في 8 مباريات، ولكن على النقيض، لم يسجل نيمار الذي انتقل إلى دوري أكثر سهولة من الليغا سوى 5 أهداف مقابل 12 في جعبة ليونيل، ومن هنا نبعت ضرورة القتال لأجل تلك الكرات. قد توحي تلك العوامل بأنها حرب لإثبات الذات أكثر منها مجرد صراع على كرة، فقد ازداد الطين بلة بتدخل داني ألفيس في أحد المشاهد لإبعاد الكرة عن كافاني ومنحها لمواطنه البرازيلي، وهو ما فسره الظهير الأيمن بنفيه وجود مشكلة(3)، مؤكدا أنه حاول أخذ الكرة ليسدد الركلة الحرة بنفسه فأخذها منه نيمار، وأن اللاعبين بوجه عام لا يتشابكون على نيل المجد، بل يحاولون تحمل المسؤولية ومساعدة الفريق. خرجت تلك الكلمات من ألفيس بمنتهى الأريحية دون أن يُراعي مدى اتساق اللقطة مع تفسيره.
إن كان حقا الأمر مجرد رغبة في تحمل المسؤولية كما قال داني فإن تدخله حوَّل المشهد من نزاع على ركلة حرة إلى اقتتال داخلي بين الجنسيات! وهو ما ينُم عن معركة غير متكافئة في فريق يضم تياغو سيلفا وماركينيوس ولوكاس مورا ناهيك عن أصول تياغو موتا البرازيلية. كل ذلك في النهاية يصب في بوتقة البحث عن ضالة باريس الحقيقية: الشخصية القادرة على احتواء تلك المهازل.
لم تكن فضيحة الثامن من (مارس/آذار) هي أول شواهد ضعف شخصية النادي الباريسي وإن كانت أقواها بالتأكيد، فلم تكن تلك هي المرة الأولى التي يفقد بها أفضليته على الخصم. في 2013 وأمام برشلونة نفسه خرج باريس بالتعادل 2-2 من حديقة الأمراء ثم تقدم 1-0 في كامب نو، نصف ساعة تفصله عن نصف النهائي قبل أن يتغير كل شيء في اللحظة التي بدأ بها ميسي إجراء عملية الإحماء، يظل ميسي بالطبع ولكنه كان مصابا! كنتيجة طبيعية تلقى الفريق الذي ارتعدت فرائصه هدف التعادل وودع المسابقة قبل أن يُدَكّ البارسا بسباعية بايرن ميونيخ الشهيرة، ويرحل أنشيلوتي إلى ريال مدريد الذي توج معه بعاشرة 2014، في تلك الأثناء وصل بلان وقاد ربع النهائي الأول أمام تشيلسي منتصرا في الذهاب 3-1، كل ما تحتاجه الآن هو ألا تخسر 2-0 في ستامفورد بريدج، وهو ما فعله باريس بالضبط.
حتى حين قابل فريق عاصمة النور نظيره المادي مانشستر سيتي عام 2016، والذي كان بالمناسبة قد بلغ لتوه ربع النهائي الأول في تاريخه، وفي ظل معاناة الإنجليز أجمعين مع دوري الأبطال في السنوات الأخيرة فاز سيتي 3-2 بمجموع المباراتين وتأهل للمربع الذهبي. هنا قرر النادي البحث عمن ينتقل به إلى ما وراء دور الثمانية، وهو ما جعله يلتفت إلى العامل القاري دون غيره ليُسند المهمة إلى صاحب ثلاثية إشبيلية المتتالية بالدوري الأوروبي.. أوناي إيمري، وبمنتهى البساطة والسطحية: خسر الرجل لقب الدوري الفرنسي لصالح معمل تفريخ موناكو، بينما أفسد ذهابه التاريخي تكتيكيا أمام برشلونة بإياب ولا أبشع.
خسر باريس حين سجل نيمار ركلته الحرة، أو حين تحصل سواريز على ركلة الجزاء، أو بالأحرى حين وضع سيرجي روبرتو قدمه في الكرة الأخيرة، ولكن في الحقيقة ربما بدأت تلك الخسارة قبل إطلاق الصافرة بيوم، حين جلس أربعة من لاعبي الفريق على مائدة البيتزا يتناقشون حول "هل سيكونون سعداء بالخسارة 5-1 أمام برشلونة ما دامت تعني التأهل؟" ليجيب الثنائي ماتويدي ودراكسلر بالإيجاب.
"ركلات الجزاء سيتم تنفيذها بواسطة اثنين من اللاعبين. واحد هو إدينسون والثاني هو نيمار. يجب أن يكون هناك اتفاق رجال (Gentleman’s agreement) داخل الملعب حين يتعلق الأمر بتلك الكرات."
(أوناي إيمري عقب مباراة ليون) (4)
برغم أنها دبلوماسية متأخرة للغاية، وبالرغم من أنه لا يوجد ما يضمن ألا يتطور اتفاق الرجال هذا إلى شجار جديد في الملعب يوما ما، وبالرغم من أن أحدهما قد لا يكون راضيا وربما الاثنين، وبصرف النظر عن التقارير التي زعمت طلب نيمار بالاستغناء عن كافاني خاصة وإن كان مصدرها صحيفة سبورت الكتالونية(5)، فإن المدرب نجح في الحفاظ على ماء وجهه بكلماته الأخيرة: "إن لم يتوصلا إلى اتفاق أنا سأقرر. لا أريد لذلك الأمر أن يصبح مشكلة لنا".
أولا من المتعارف عليه في العالم المتحضر أن مسددي الضربات الثابتة يتم تحديدهم مسبقا، بل يعتبر البعض أن هذا المُسدد المُتفق عليه لا يحق له التنازل عنها بإرادته أثناء المباراة. ثانيا معلومة أن نيمار يُجيد ويُريد لعب تلك الكرات لم يكُن من المفترض أنها جديدة، لقد كان ميسي يمنحه الكثير منها طواعية ورغم ذلك أراد الهروب من ظله كما يُقال. المشكلة أنه كان يجب أن تقرر أنت من البداية، ربما أنك في موقف لا تُحسد عليه حيث لا أحد يمكنه تحمل مسؤولية إغضاب الفتى المدلل الأغلى في التاريخ، ولكن إن كان نيمار يريد تلك الركلات فعليه أن يطلب ذلك منك وليس من كافاني في الملعب، وإن منحتها له من البداية فهو حق أصيل لك حتى لو أغضبت كافاني، بل حتى لو قلت لهما من البداية أنهما سيتقاسمان الركلات تباعا لباتت اللائمة على المُخالف.
مشهد كافاني-نيمار لم يكن إلا تجسيدا مُصغرا لتلك الأشياء التي لا يملكها النادي، فلا مرجعية ولا شخصية ولا مدرب بحجم التطلعات على ما يبدو، بل يمكن القول إن الرجل قد يجد منصبه في خطر إن لم يرضَ البرازيلي عنه. هذا وزن مشابه لوزن ميسي في برشلونة الذي تجلى خلال خلافه مع لويس إنريكي(6)، ولكن الأمر تطلب 10 سنوات قبلها لاكتسابه، كما كان هناك من يقدر على مساعدة المدرب في العبور من هذا النفق مثل تشافي هيرنانديز(7).
بينما يبقى كافاني في مواجهة حقيقة أن هذا العام قد يكون فرصته الأخيرة باجتيازه خط الثلاثين من العمر وبداية العد التنازلي لمردوده البدني، يقع على عاتق نيمار تحد أكبر حجما في ظل اتساع رقعة تطلعاته وضخامة المبالغ المدفوعة لأجله ورغبته الواضحة في فرض السيطرة، فهل يمكن أن يكون هو ميسي باريس يوما ما؟ هل يمكن له أن يقلب كل تلك المعطيات لصالحه ويكون الحلقة المفقودة في اتزان باريس وصولا إلى لقب الأبطال، أم ستصبح قوة شخصيته مجرد دليل جديد على ضعف شخصية النادي؟ وإن سلمنا بانتصاره الحتمي على كافاني عاجلا أم آجلا سواء بفعل العمر أو النفوذ، فمن يضمن ألا ينضج مبابي ويأتي مطالبا بحقه في تلك الكرات هو الآخر لتستمر تلك الدائرة المفرغة إلى الأبد؟ الأمر متروك لآرائكم وللمستقبل.