إمبراطور المآسي.. هل حقا تُعَدُّ الإصابة بالسرطان حكما نهائيا بالموت؟

حسنا، لنبدأ بتجربة يمكن لك أن تُنفِّذها في محيطك، اسأل أصدقاءك أو معارفك أو أناسا في الشارع الذي تسكن فيه ولا تعرفهم عن نسب النجاة المحتملة لأحد أنواع السرطان، ليكن مثلا سرطان الثدي، كم في المئة هي نسبة النجاة من هذا المرض؟ سجِّلْ تلك النسب واحسب المتوسط بعد 20 حالة مثلا، وهنا تحديدا ستفهم المشكلة التي نود أن نُحدِّثك عنها.
إجابة غير متوقعة

يُسميه سيدهارتا موكرجي، وهو طبيب هندي أميركي حاصل على جائزة بوليتزر، بـ"إمبراطور المآسي"، وهو كذلك حقا، ليس فقط لأن الرحلة مع السرطان هي تحدٍّ يكون عادة الأكبر على الإطلاق في حياة المصاب، ولكن كذلك لأن نِسَب الإصابة به ترتفع عاما بعد عام، في الولايات المتحدة على سبيل المثال، وهي نموذج مدروس جيدا ومُعبِّر عن كل العالم تقريبا، فإن هناك فرصة مقدارها 40% تقريبا أن يصاب شخص ما بالسرطان خلال عمره كله! أعِد القراءة فالنسبة هي حرفيا ما كُتب (تقريبا واحد من كل اثنين)!
لكن في هذا السياق تسري في مجتمعاتنا أفكار عن هذا المرض تبالغ في كل شيء يتعلق به، سواء كنا نتحدث عن خرافات أسباب الإصابة (كل شيء من البطاطس إلى الشاورما)، أو نسب النجاة بعد الإصابة، في الاستفتاء الذي أجريته قبل قليل عادة ما ستكون إجابات الناس بنسب صغيرة، سيقول البعض 5%، والبعض الآخر 10%، ومتفائل ثالث ربما يقول 20%، لكن هل تعرف كم هي النسبة الحقيقية للنجاة من سرطان الثدي؟
حسنا، استعد للإجابة، في دولة متقدمة مثل الولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا، توفر أفضل إمكانيات التشخيص والعلاج، فإن نسبة النجاة وصلت مؤخرا(1) إلى 90-99% خلال خمس سنوات من تاريخ أول تشخيص بالمرض.
نقول "خمس سنوات" لأن هذا هو النظام المتبع للتعامل مع أمراض بتعقيد السرطان، ويُسمى معدل النجاة لخمس سنوات (five-year survival rate)، ويُمثِّل النسبة المئوية للأشخاص الذين لا يزالون على قيد الحياة بعد خمس سنوات من تشخيصهم أو بدء علاجهم من مرض ما، يُعَدُّ هذا المعيار مرجعا رئيسيا بالنسبة للعلماء والأطباء في تقييم النجاة من السرطان، وبالتالي تطور التدخلات الطبية للتعامل معه على مر الزمن.
خرافة عالمية

في الواقع، فإن نسب النجاة من سرطان الثدي في الوطن العربي لا تبتعد كثيرا، في مصر مثلا تصل إلى 91% بحسب دراسة نُشرت بدورية "جلوبال هيلث"(2) قبل عامين فقط، بينما تتأرجح بقية الدول العربية حول أرقام قريبة من 60% و70% و80%، وهي نسب كبيرة مقارنة بتصورات الجمهور العام عن هذا المرض، بالتالي يمكن اليوم الحديث عن سرطان الثدي تحديدا بوصفه مرضا يمكن التعامل معه بلا رعب.
لطالما اعتقدنا أن السرطان يساوي حكما نهائيا بالإعدام، السبب في هذا الاعتقاد (أو قل هذه الخرافة) هو تاريخ طويل مع هذا المرض، وأعراضه القاسية، والأعراض الجانبية لعلاجاته، حتى أصبحنا نستخدم اسمه للتعبير عن أسوأ شيء يمكن أن يحدث: "سرطان البطالة"، "سرطان الجهل"، "سرطان الفقر"، إلخ. الغريب في الأمر أنه عادة ما يقبل الواحد منا تشخيصا بارتفاع ضغط الدم أو أمراض القلب والأوعية الدموية أو مرض السكري (وهي أكثر شيوعا من السرطان) دون خوف من الموت أو البؤس أو المعاناة، رغم أن هذه الأمراض هي السبب الرئيسي(3) للوفاة حول العالم -وبالمعدلات العمرية نفسها تقريبا- قبل السرطان الذي يحل في المرتبة الثانية!
في أحد الاستفتاءات البحثية(4) على ما يقرب من ثمانية آلاف شخص في الولايات المتحدة الأميركية كانت الإجابات الثلاثة الأولى عن سؤال "لِمَ تتجنَّب رؤية الطبيب؟" هي: "لأنني أشعر بعدم الارتياح عندما يكون جسدي تحت الفحص"، و"لأنني أخشى المعاناة من مرض خطير"، و"لأنه يجعلني أُفكِّر في الموت". وحين سُئل الناس عن اعتبار السرطان حكما بالإعدام اتفق 61% على أنه كذلك، ووافق 36% تقريبا على أنهم سيتجنَّبون الذهاب إلى الطبيب لهذا السبب.
كشفت هذه الدراسة كذلك أن المساواة بين السرطان والوفاة ارتبطت بمستوى تعليم أقل، ما يعني أن الأمر يتعلق في الأساس بالتوعية بطبيعة السرطان وطبيعة التعامل معه، خاصة أنه مرض يتأثر بشكل كبير جدا بموعد التشخيص، حيث تجد التشخيصات المبكرة فرصة أكبر بفارق شاسع في العلاج مقارنة بالحالات المتقدمة.
نتحرك للأمام

قبل عدة أسابيع اشتعل الوسط الطبي فرحا بعد ظهور نتائج دراسة جديدة صدرت في دورية "نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسن" تقول إن نسبة النجاح في نتائج استخدام أحد العقاقير التي تعمل على علاج نوع محدد من سرطان القولون وصل إلى 100%! ما يعني أن كل المرضى الذين شاركوا في الدراسة، وعددهم تحت 12، شفوا من المرض تماما لمدة ستة أشهر، في سابقة مدهشة فتحت الباب للنظر في استخدام العقار نفسه مع أنواع أخرى من السرطان.
اقرأ أيضا: عقار يشفي بنسبة 100%.. هل توصل العلم إلى علاج نهائي لسرطان القولون؟
ينتمي هذا العقار، ويسمى "دوستارليماب" (Dostarlimab)، إلى عائلة "العلاج المناعي" (Immune Therapy) التي أظهرت في السنوات الأخيرة نتائج مُبشِّرة في علاج السرطان، العلاج المناعي عموما يعمل على مساعدة وتعزيز الجهاز المناعي الطبيعي ليستطيع إيجاد الخلايا السرطانية والقضاء عليها، هذا العقار تحديدا عبارة عن أجسام مضادة لبروتين يسمى (PD-1)، يستخدم السرطان هذا البروتين للتخفي من الجهاز المناعي، لذلك فإن تعطيله يكشف الخلايا السرطانية للجهاز المناعي مرة أخرى.
كما تلاحظ، فإن عدد المشاركين في الدراسة قليل، ما يتطلَّب المزيد من البحث والتقصي للتأكد من صحة تلك النتائج، لكن هدفنا من عرض هذا الكشف الجديد هو توضيح أن معدلات النجاة من السرطان ترتفع يوما بعد يوم مع ظهور عقاقير وأنظمة علاجية جديدة. في الواقع، لقد لوحظ(5) انخفاض في معدل وفيات السرطان العام بنسبة 1% سنويا في المناطق ذات الدخل المرتفع والمنخفض وفي كلا الجنسين حول العالم.
في عام 2010 فقط، تم تجنُّب نحو 79 ألف حالة وفاة بسبب السرطان على نطاق عالمي، مقارنة بمعدلات عام 2000، وفي دراسة(6) صدرت في دورية "ذا لانسيت" المرموقة، فإن هناك تحسُّنا عالميا ملحوظا في معدل النجاة لخمس سنوات، وصل إلى 5% خلال السنوات الست الماضية فقط، في الكثير من دول العالم.
لكن ببطء
بالطبع لا نود أن نرسم صورة حالمة غير حقيقية، لكن فقط نود أن نوضح الحقائق، إذا كان هناك تحسُّن كبير في نسب نجاة مرضى سرطان الثدي، فإن نسبة نجاة مرضى سرطان الرئة(7) بعد خمس سنوات من لحظة التشخيص تتراوح بين 10% إلى 20% فقط في معظم البلدان، بين أولئك الذين تم تشخيصهم خلال الفترة من 2010 إلى 2014، لكن في دول مثل اليابان وصلت تلك النسبة إلى 33%، وفي دولة الاحتلال الإسرائيلي وصلت إلى 27%، وقد وُجد أن النسب المرتفعة في هذه الدول ارتبطت بالفحص الدائم للأفراد المعرَّضين لمخاطر عالية (المدخنين الشرهين الحاليين والسابقين).
المشكلة نفسها بالنسبة لسرطانات المعدة، حيث وصلت نسب النجاة في خمس سنوات إلى أقل من 30% في الدول المتقدمة، وانحدرت إلى ما هو أسفل من 20% و10% بالدول النامية. في أفريقيا جنوبي الصحراء(8)، قلة من المرضى يعرفون حقا طبيعة مرض السرطان، إلى جانب ذلك، هناك نقص شديد في الأدوية والمعدات الطبية، بل إن العثور على أخصائي السرطان في أي مكان في أفريقيا قد يكون أمرا صعبا (إذا استثنينا دول شمال أفريقيا وجنوب أفريقيا).
يتسبَّب ذلك في أن أربعة أخماس المرضى، في دولة مثل تنزانيا، يتقدمون لطلب المساعدة في مراحل متأخرة من المرض، وللأسف فإنه مع تطور المرض تنخفض معدلات النجاة، في حالة سرطان الثدي مثلا فإن تطور المرض للمرحلة الرابعة يخفض معدلات النجاة لتصبح 25% أو أقل، وهو أحد أكثر السرطانات التي نجح الأطباء في التعامل معها.
خرافة غاية في الخطورة

يعني ما سبق أن الجهل والفقر عائقان شديدا الأهمية يقفان بوجه فرص النجاة من المرض، ويخفضانها جذريا كلما تزايدا. وعموما، يعتمد نجاح أي علاج للسرطان على العديد من المتغيرات بصرف النظر عن السمات الطبية للمرض، أهمها كما اتضح قبل قليل هو عملية الكشف المبكر، كذلك موقف المريض وأقرب الأقارب أو مُقدِّم الرعاية من المرض، من المهم جدا أن يُعطَى المريض فهما مناسبا لمرضه والعلاج الذي سيخضع له.
لكن وجود خرافة "السرطان يعني الموت" تؤثر بالسلب على كل ذلك، فقط تخيَّل أن أحدهم عانى من عَرَض ما، وبدلا من الخوف الشديد تعامل مع السرطان كمرض ممكن العلاج كلما اكتشفنا الأمر مبكرا، هنا سينظر هذا الشخص في الخضوع للفحص قبل أن تتفاقم الأمور، وإذا عممنا الفكرة على ثلاثمئة مليون إنسان على سبيل المثال، فيمكن لنا إنقاذ الكثيرين.
اقرأ أيضا: معضلة الطب المعاصر.. لماذا يعجز العلماء عن اكتشاف علاج نهائي للسرطان؟
السرطان ليس حكما نهائيا بالموت، الأرقام الحالية والتطورات العلاجية الجديدة لا تقضي عليه نهائيا، وربما لا يحدث ذلك قبل وقت طويل، لكنها تقول إننا ننتصر في معاركنا معه يوما بعد يوم، لقد تحسَّنت نسب نجاة المرضى إلى حدٍّ كبير، وفي الدول المتقدمة وصلت -في مجمل أنواع السرطان- إلى 67%، يُبشِّر ذلك بأن الأمر لا يحتاج من المرضى إلا إلى الصبر، هناك دائما فرصة للنجاة، وهي فرصة كبيرة رغم كل ما يحيط بإمبراطور المآسي من مآسٍ!
—————————————————————————–
المصادر
1- Survival Rates for Breast Cancer
3- Causes of death by Hannah Ritchie and Max Roser
4- Perceptions of cancer as a death sentence: Prevalence and consequences
5- The global decrease in cancer mortality: trends and disparities