شعار قسم ميدان

خطة الصين للهيمنة على عرش التكنولوجيا.. هل تنجح في التفوق على الغرب؟

China's Quantum computer 'Jiuzhang' achieves Quantum Supremacy

مقدمة الترجمة:

هل يهدد صعود الصين التفوق التكنولوجي الغربي؟ وهل بكين في طريقها إلى الهيمنة على العالم في المجالات العلمية والتقنية؟ يناقش هذا المقال من مجلة ديفينس وان الطفرة العلمية والتقنية التي حققتها الصين في السنوات الأخيرة، مُسلطا الضوء على العقبات السياسية التي تواجه التطور العلمي والتقني في بكين.

 

نص الترجمة:

إن خيال القادة شرقا وغربا ما انفكت تشغله صورة المستقبل الذي ستصير فيه الصين القوة العلمية المُهَيمنة في العالم. فقد بدأت بكين بالفعل أحدث فصول التخطيط العلمي الصيني، وهي الخطة الخمسية الرابعة عشرة، واستنادا إلى أداء الصين القوي في مؤشرات التكنولوجيا والعلوم، وتقدُّمها في مجالات تُشكِّل ذروة التطور التكنولوجي مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمِّية (أو الكمومية) والطيران فائق السرعة (العابر لسرعة الصوت)؛ فإن الصين تسعى حاليا لتحقيق قفزتين مهمتين أوجزتهما في إستراتيجيتها من أجل "التطوير المدفوع بالابتكار" عام 2016: الالتحاق برَكب الصَفِّ الأول من البلدان المبتكرة بحلول عام 2035، وأن تغدو "قوة علمية عالمية عُظمى" بحلول عام 2050.

والحال أن هذا كله حرَّك الدعوات الأميركية المُطالِبة بردٍّ أميركي يضمن مكانة الولايات المتحدة الرائدة في التقدُّم التكنولوجي والعلمي، إذ كُتِبَت مقالات وسُطِّرت تقارير لا حصر لها في الولايات المتحدة تصف هذا الأمر بأنه "لحظة سبوتنيك" جديدة (لحظة سبوتنيك الأولى حدثت حين وصل السوفييت إلى الفضاء قبل الأميركيين، مما دفع واشنطن إلى تغيير الكثير من سياساتها العلمية والبحثية من أجل اللحاق بموسكو والتغلُّب عليها في سباق الوصول إلى القمر)*. وقد وصف هؤلاء ما يجري أيضا بأنه عنصر جوهري في التنافس الأميركي-الصيني الإستراتيجي الأوسع؛ مما أدى بدوره إلى تقديم مجموعة من المقترحات الجديدة والمبادرات السياسية التي تراوحت من زيادة الإنفاق على البحوث من وزارة الدفاع إلى الجدل الأخير حول مشروع قانون المنافسة مع الصين في الكونغرس.

 

ترتكز قدرة الصين على تحقيق رؤاها على إجابتها عن سؤال لا بد لأي حكومة أن تطرحه بخصوص سياساتها العلمية والابتكارية: ما السبيل الأنجع لتنظيم ومراقبة البحث العلمي في سبيل تحقيق الأهداف القومية؟ أي كيف يستطيع النظام أن يُقدِّم الدعم الأمثل لمجتمع البحث العلمي، ويرعى المواهب العلمية، ويُسخِّر قوة العلم والتكنولوجيا لتحقيق الأهداف القومية؟

 

عقبات في طريق الصين

Media members take pictures of a dancing robot during an organised media tour to the Zhongguancun National Innovation Demonstration Zone Exhibition Center in Beijing, China February 10, 2022. REUTERS/Florence Lo

كشف تقرير حديث صدر عن مؤسسة "معامل بلو باث" (Blue Path Labs) لصالح "معهد الصين للدراسات الفضائية الجوية" بأن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست بالأمر الهيِّن كما تأمل بكين. وقد وجد القائمون على البحث حين أمعنوا النظر في نهج بكين للتخطيط والعمليات والتمويل في مجال العلوم والتكنولوجيا أن الصين حينما أحرزت بالفعل مكاسب علمية باهرة في السنوات الأخيرة، ظلَّت تعاني من مشكلات بنيوية عديدة تعوق هدفَها في أن تصبح معقلا عالميا للابتكار يعتمد على ذاته. ويشمل هذا انعدام التوازن بين البحوث العلمية الأساسية والتطوُّر التكنولوجي لصالح الأخير، علاوة على أن الأسلوب الرأسي من أعلى إلى أسفل يعطي الأولوية لسيطرة الحزب على السياسات الفعلية بمجال العلوم والتكنولوجيا، ويركز على المؤشرات الكمِّية لتقييم الأداء.

 

إبان القرن التاسع عشر، أظهرت سلسلة من الهزائم الكارثية في حروب الأفيون للقادة الصينيين ماهية العواقب الوخيمة لتجاهل تطوير العلوم والتكنولوجيا. وقد طرح الباحث والمسؤول الصيني "وَي يوان" في كتابه "الكتاب المُصوَّر للممالك البحرية" -ولعله أول كتاب مهم عن الغرب- فكرة "تعلُّم المهارات من الأجانب لأجل اكتساب القدرة على السيطرة عليهم". وأشارت "المهارات" هُنا على الأرجح إلى "السفن القتالية والأسلحة النارية وأساليب تدريب الجنود"، ومن ثمَّ تبنَّت الصين التكنولوجيا الغربية "وسيلة" من أجل "التحرير القومي".

 

لا تزال هذه الرؤية النفعية سارية إلى يومنا هذا مع ما يصاحبها من تداعيات كبرى على سياسات العلوم والتكنولوجيا في الصين. على سبيل المثال، ثمَّة تشديد قوي على شق التطوير في ثنائية البحوث والتطوير، وهو ما يأتي على حساب الإنفاق في البحوث التطبيقية والأساسية الحاسمة من أجل الابتكار والطفرات العلمية. فقد شكَّلت البحوث التطبيقية والأساسية في السنوات الأخيرة 36% من إنفاق البحوث والتطوير بالولايات المتحدة الأميركية، في حين شكَّلت 17% فقط في الصين، ووصل إنفاق البحوث والتطوير في الولايات المتحدة عام 2018 إلى 211.5 مليار دولار؛ وهو ما يعادل أربعة أضعاف ما أنفقته الصين (51 مليار دولار). والحال أن هذه المعضلة مُعترف بها من قِبَل الحزب الشيوعي الصيني؛ إذ قال الرئيس الصيني "شي جين بينغ" بنفسه إن الصين لا تولي سوى اهتمام ضئيل بالبحوث الأساسية لإنجاز طفرات علمية وتكنولوجية كبرى وأصيلة ومؤثرة. غير أن هذا الاختلال في التوازن يظل موجودا في سياسات الصين وإستراتيجيتها.

China's President Xi Jinping shown on a screen in front of logos of China's leading Internet companies during the third annual World Internet Conference in Wuzhen town of Jiaxing, Zhejiang province, China November 16, 2016. REUTERS/Aly Song

علاوة على ذلك، لا تزال الصين تُطبِّق النهج المركزي بشدة المعروف باسم "الأمة كافة" على البحث العلمي، وهو نهج متأثر بالثقافة الماركسية-اللينينية المُنصبَّة على التخطيط من أعلى إلى أسفل، ويمنح الأولوية لسيطرة الحزب الشيوعي على سياسات البحوث والتطوير. فقد قال الزعيم الصيني الراحل "جو إنلاي" إنه "لا يمكن الفصل بين العلوم والسياسة، إذ تهيمنُ السياسة على العلوم وتتحكَّم بها"، بينما أكَّد الرئيس الصيني "شي جين بينغ" مؤخرا سيطرة الحزب وقيادته على كُل جوانب نُظم العلوم والتكنولوجيا والتطوير، مُعلنا أن السيطرة الحزبية الراسخة على سياسات هذا الملف "توفِّر ضمانة سياسية أساسية لتعزيز مساعي العلوم والابتكار والتكنولوجيا في الصين".

 

وعليه؛ فإن حرية البحث، تلك السِّمة الرئيسة لمؤسسات البحث العلمي في الغرب، تبقى بمنزلة نقطة عمياء كبرى في مجال العلوم والتكنولوجيا داخل الصين. ببساطة، ثمَّة عجز نسبي لدى الصين في قدرتها على السعي وراء الحقيقة العلمية أيًّا كان الاتجاه الذي قد تُفضِي إليه، وهو ما تصاحبه وعود صينية بأن التقدُّم التكنولوجي سيجيء في نهاية المطاف (في انعكاس مرة أخرى للاهتمام بالتطبيقات التكنولوجية على حساب عملية الابتكار العلمي ذاتها)*. إن تفضيل الصين للتخطيط المركزي الرأسي من أعلى إلى أسفل في مجال العلوم والتكنولوجيا لا يخنق قنوات الابتكار فحسب، بل يفترض أيضا أن التقدُّم يمكن إملاؤه بواسطة تعبئة واسعة النطاق وبواسطة المشاريع العملاقة للبحوث والتطوير. وبالطبع يمكن للتخطيط أن يُيسِّر التقدُّم التكنولوجي، لكن التقدُّم العلمي يتَّسِم بتقبُّل الشك والنقد، في حين أن خطط التنمية طويلة الأمد في بكين عادة ما تكون متزمِّتة وعاجزة عن التأقلُم مع الطفرات العلمية غير المتوقَّعة، وهو أمر يمكنه في كثير من الأحيان أن يجعل الباحثين الصينيِّين متأخرين خطوة عن نظرائهم في شتى أنحاء العالم، الذين يسعهم أن يغيِّروا اتجاههم بسرعة في وقت أقصر مما تُتيحه خطة خمسية مدتها خمس سنوات.

 

تُفضي هذه العوامل كافة إلى نسق متمركز بصورة مفرطة على مؤشرات العلوم والتكنولوجيا الكمِّية لتقييم الأداء. وبينما توفر المؤشرات الكمِّية مقاييسَ ناجعة للتقدُّم، فإن الأرقام لا تروي دائما قصة سياسات ناجحة حقا. فمثلا، صعدت الصين سريعا إلى المرتبة الأولى عالميا في عدد براءات الاختراع، وإلى المرتبة الثانية في نشر الأبحاث بالدوريات العلمية؛ الأمر الذي يعطي انطباعا مفاده أن ثمَّة هيمنة علمية صينية تلوح في الأفق؛ ومن ثمَّ يمكن التشدُّق بها أمام قادة الحزب الشيوعي الصيني، وكذلك الاستدلال بها في أوساط المسؤولين والباحثين الغربية.

 

الأرقام وحدها لا تكفي

WUHAN, CHINA - JUNE 22: (CHINA OUT) A graduate waves a flag during a graduation ceremony at Huazhong University of Science and Technology on June 22, 2022 in Wuhan, Hubei, China. According to the Ministry of Education of China, the number of college graduates will reach 10.76 million in 2022. (Photo by Getty Images)

بيد أن التركيز الضيق على الأرقام يُخفي خلفه مجموعة واسعة من المشكلات الخطيرة. فهناك ظاهرة آخذة في الانتشار تُسمَّى "شويشو لاجي" (Xueshu Laji)، أي "القمامة الأكاديمية" المتراكمة من الأوراق البحثية عديمة الفائدة التي تُنتج بغرض اتباع القوانين فقط بدلا من إحراز تقدُّم في المجال الأكاديمي. وقد أظهر استطلاع للرأي بأن 93% من الباحثين قالوا إن دافعهم الأساسي للنشر هو تلبية متطلَّبات الترقية. والأخطر من ذلك هو ما أدى إليه ذلك من انتشار ثقافة عدم الأمانة الأكاديمية، بما فيها الانتحال وتزوير النتائج والاستفادة من العلاقات الشخصية للحصول على ترقية. ففي واحدة من الحالات الصادمة، سُحبت 107 مقالة من دورية "بيولوجيا السرطان" (Tumor Biology) حين وُجِد أن "مراجعات الأقران مُلفَّقة، وأن العديد من الأوراق أُنتِجَت من قِبَل شركات لتزوير الأوراق البحثية" (المعروفة باسم Paper" "Mills)*، وفقا لما نشرته مجلة "نيتشر" العلمية المرموقة.

 

النتيجة في الأخير هي انعدام كفاءة شديد في السياسة العلمية، فحتى وفقا لإحصاءات الحكومة الصينية نفسها، شهدت بكين عائدا منخفضا ملحوظا على استثماراتها الطائلة في البحوث والتطوير. ووفقا لأحد المعايير التي وضعتها الحكومة الصينية، فإن "مُعدَّل النقل والتحويل" (مؤشر يقيس نسبة البحوث التي ينجم عنها تطوُّر وابتكار تكنولوجي فعلي)* للتكنولوجيا الناشئة من البحوث والتطوير المُموَّل حكوميا في الصين يبلغ أقل من 10%، وهي نسبة ضئيلة بالمقارنة مع 40% و50% في الدول المتقدمة، مما يشير إلى قصور في قدرة البحوث الصينية على التحوُّل إلى مكاسب ابتكارية ملموسة.

 

لا يُقلِّل أيٌّ من هذا من أهمية المكاسب الضخمة التي حققتها الصين على مدار الجيل السابق في مجالَيْ العلوم والتكنولوجيا، وهو ما يُتوقع أن تُحقِّق مثله في الجيل القادم. وبالفعل، بدأ صانعو السياسات الصينيون مؤخرا في التعرُّف على العديد من أوجه القصور في ملف العلوم والتكنولوجيا والعمل على تحسينها، فقد أعدُّوا خططا لدعم البحوث الأساسية وتمويلها بسخاء أكبر في السنوات الخمس القادمة، كما شرعوا في معالجة الآليات الخاطئة لتقييم البحوث في الصين، سعيا للقضاء على ممارسات النشر الضار وتحسين جودة البحث عموما.

 

بيد أن الإشكالية الكبرى قد تكون كامنة في المنظومة الصينية نفسها. فقد لاقت الاقتراحات بتحرير المجتمع العلمي من تأثير الحزب الحاكم والبيروقراطية تجاهلا صريحا، ومن الصعب أن نرى كيف لهذه السياسات أن تتعايش مع البيئة السياسية الصينية التي تزيد وتيرة القمع فيها مؤخرا. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن النظام السلطوي يجعل جذب الباحثين من خارج البلاد أمرا عسيرا، فضلا عن تعيينهم والإبقاء عليهم بحيث يصبحون سعداء باتخاذ الصين موطنا لهم ويساهمون في خلق أنظمة للعلم والابتكار على مستوى عالمي تُماثل ما فعله وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا على مدار العقدين الماضيين. في نهاية المطاف، رأس المال البشري كان ولا يزال في القلب من تنافس القوى العظمى في مجال العلوم والتكنولوجيا.

——————————————————————————————————–

هذا المقال مترجم عن Defense One ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: كريم محمد.

المصدر : مواقع إلكترونية