شعار قسم ميدان

علم الأعصاب يجيب.. هل نملك حقا إرادة حرة أم أن قراراتنا مقدرة سلفًا؟

مقدمة للترجمة

يستعرض هذا التقرير نحو 50 عاما من البحث العلمي حول تجربة واحدة في نطاق علوم الأعصاب تهدف للإجابة على سؤال محدد: هل نملك حقا إرادة حرة أم أن قراراتنا مُقدَّرة سلفا؟ والواقع أن إحدى المشكلات الرئيسية التي يواجهها النقاش العربي حول قضايا مثل الوعي أو حرية الإرادة هي أنه يتجاهل ما يُقدِّمه علم الأعصاب فيها، ويلجأ مباشرة إلى نطاق الفلسفة، لذلك وجدنا أن من الضروري أن نعرض، من حين إلى آخر، الكيفية التي يتناقش بها علماء الأعصاب في القضية نفسها.

نص الترجمة

بدأ مفهوم عدم امتلاك البشر لإرادة حرة لأن قراراتهم محددة سابقا في الانتشار منذ عام 1964، حينما أجرى عالِمان ألمانيان تجربة راقبا من خلالها النشاطات العصبية في أدمغة عشرات الأشخاص. استمرَّت التجربة لعدة أشهر أتى خلالها المتطوعون يوميا إلى المعمل الموجود بجامعة فرايبورغ لتركيب الأقطاب الكهربائية على فروة الرأس، وكانت مهمة المشاركين هي الجلوس وثني أحد أصابع يدهم اليمنى متى رغبوا في ذلك على فترات غير منتظمة، واستمروا بفعل ذلك مرارا وتكرارا حتى وصلوا إلى 500 مرة في الزيارة الواحدة.

كان الغرض من هذه التجربة هو البحث عن إشارات عصبية في أدمغة المشاركين تسبق كل نقرة إصبع. صحيح أن الباحثين توصَّلوا قبل ذلك إلى كيفية قياس النشاطات العصبية التي تحدث بصفتها استجابة للأحداث الخارجية -مثل أن يستمع شخص ما إلى أغنية-، لكن الشيء الذي لم يستطع أحد اكتشافه هو كيفية تحديد هذه الإشارات الدماغية التي تنشأ عندما يبدأ الشخص بالفعل في نشاط ما.

كانت هذه الموجة من النشاط العصبي التي أطلق عليها العلماء اسم "إمكانية الاستعداد أو التصرف" (Bereitschaftspotential) بمنزلة هدية للسفر عبر الزمن. (ويكيبيديا)

ظهرت نتائج التجربة على هيئة خطوط مُتعرِّجة ومُنقَّطة تُمثِّل الموجات العصبية المتغيرة. قبل تحريك المشاركين لأصابعهم بأقل من ثانية، أظهرت الخطوط ارتفاعا خافتا للغاية يصعب تبيُّنه، كان عبارة عن موجة ارتفعت لنحو ثانية، ثم سرعان ما انتهت بانخفاض مفاجئ. كانت هذه الموجة من النشاط العصبي التي أطلق عليها العلماء اسم "إمكانية الاستعداد أو التصرف" (Bereitschaftspotential) بمنزلة هدية للسفر عبر الزمن. فلأول مرة، تمكَّن العلماء من قراءة الدماغ وهو يستعد لخلق حركة إرادية.

بداية المتاعب

كان هذا الاكتشاف التاريخي بداية لإثارة الكثير من المتاعب في علم الأعصاب. فبعد عشرين عاما من هذه التجربة، استعان عالِم الفسيولوجيا الأميركي "بنيامين ليبيت" بهذا الاكتشاف لبرهنة أن الدماغ لا يقتصر فقط على إظهار علامات على اتخاذ قرار قبل أن يؤديه الشخص، بل إن قراراتنا الواعية مُقدَّرة سلفا في خلايانا العصبية قبل حتى أن ندركها. بدا فجأة أن أدمغة البشر تُسيِّر مقاليد الأمور من وراء الكواليس، حتى النقر البسيط بأصابعهم بات مُقدَّرا سلفا بمسببات خارجة عن نطاق تحكُّمنا.

بينيامين ليبيت

ظلَّ سؤال الفلسفة الأكبر "هل البشر حقا هم أسياد أفعالهم؟" يُحيِّر الفلاسفة لقرون عديدة قبل حتى أن يخطو "بينيامين ليبيت" بقدمه إلى المختبر. لكن ما ميَّز تجربة "ليبيت" ومنحها شهرة واسعة أنه قدَّم حججا ضد الإرادة الحرة مستندة إلى علم الأعصاب، وأدَّى اكتشافه إلى اندلاع موجة جديدة من الجدل في دوائر العلوم والفلسفة. وبمرور الوقت، تحوَّلت نتائج تجاربه إلى تقاليد ثقافية. أصبحت فكرة اتخاذ أدمغتنا للقرارات قبل حتى أن ندركها منتشرة اليوم بين الناس وفي الصحف والمجلات الشهيرة. وكثيرا ما يستشهد مفكرون مشهورون مثل عالِم الأعصاب الأميركي سام هاريس ويوفال هراري بتجربة "ليبيت"، زاعمين أن العلم أثبت أن البشر ليسوا أسياد أفعالهم ولا مسؤولين عن قراراتهم.

لم يكن المقصود من مصطلح "إمكانية الاستعداد" إثارة الجدل حول الإرادة الحرة، بل على العكس من ذلك، فحينما اكتشف عالِم الأعصاب الألماني هانز هيلموت كورنهوبر ومعه طالب الدكتوراه لورد ديك هذا المفهوم لأول مرة بإجراء تجربتهم التي سبق ذكرها، كان هدفهما الأساسي هو إظهار أن الدماغ لديه نوع من الإرادة، بسبب إحباطهم الشديد من سلبية الأبحاث العلمية السائدة في عصرهم التي تعاملت مع الدماغ باعتباره مجرد آلة صماء لإنتاج الأفكار والأفعال استجابة للعالم الخارجي.

لذا في عام 1964، قرَّر العالِمان الألمانيان في أحد الأيام أثناء تناولهما الغداء أن يحاولا اكتشاف كيفية عمل الدماغ لتوليد فعل ما تلقائيا، وعن هذا يقول ديك الذي يبلغ الآن 81 عاما: "كنت أنا وكورنهوبر نؤمن بالإرادة الحرة". ولإنجاز التجربة، كان على الثنائي ابتكار حِيَل للتفوق على التكنولوجيا المحدودة وقتها.

على الرغم من امتلاكهما جهاز حاسوب حديث يقيس الموجات الدماغية للمشاركين، فإنه لم يُظهِر أي نتائج إلا بعد أن حرَّك المشاركون أصابعهم. وأمام هذه المشكلة، أدرك الباحثان أنهما في حاجة إلى اكتشاف حيلة تُمكِّنهم من جمع البيانات حول ما حدث في الدماغ سابقا، لذا لجأ كلاهما إلى تسجيل النشاط العصبي بصورة منفصلة على شريط، ثم تشغيل هذا الشريط عكسيا على الحاسوب. كشفتْ هذه التقنية المبتكرة التي يُطلَق عليها اسم "المتوسط العكسي" عن إمكانية الاستعداد (أي استعداد الدماغ للعمل جيدا قبل حتى أن ندرك الرغبة في التحرك).

حاز هذا الاكتشاف على الكثير من انتباه العالم، وأشار العديد من العلماء إلى هذه الدراسة، منهم عالِم الفسيولوجيا الحائز على جائزة نوبل جون أكليس، ومعه فيلسوف العلوم الشهير كارل بوبر، اللذان قارنا براعة هذه الدراسة بتجربة عالِم الفلك الإيطالي جاليليو الذي استعان بالكرات المنزلقة للكشف عن قوانين حركة الكون. وبالمثل أجرى كورنهوبر وديك الشيء ذاته مع الدماغ بالاستعانة بحفنة من الأقطاب الكهربائية وجهاز تسجيل.

في الواقع، يمكن لأي شخص تخمين ما تعنيه "إمكانية الاستعداد"، فإن تخيَّلنا مثلا أن النشاط العصبي في الدماغ يشبه قطع الدومينو، فإن الموجات المتصاعدة للنشاط الدماغي هي سقوط قطع الدومينو واحدة تلو الأخرى نحو شخص يشرع في فعل شيء ما. أوضح العلماء أن "إمكانية الاستعداد" هي الإشارة الكهربائية أو النشاط الذي يُظهِره الدماغ عند التخطيط لحركة إرادية والبدء في القيام بها. وكما نرى، فإن هذه الفكرة تفترض ضمنيا أن إمكانية الاستعداد هي التي تُسبِّب قيامنا بالفعل. بدا حينها هذا الافتراض طبيعيا للغاية ومنطقيا، لذا لم يحاول أحد أن يطعن في صحة هذا الحديث.

نصف ثانية قبل القرار

في ثمانينيات القرن الماضي، أثار بنيامين ليبيت، الباحث في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، الجدل حول "إمكانية الاستعداد" بتساؤله لماذا يستغرق الأمر 500 مللي ثانية بين قرار تحريك المتطوعين لأصابعهم والقيام بذلك فعلا؟ لذا كرَّر تجربة كورنهوبر وديك، لكنه طلب من المشاركين مشاهدة جهاز يشبه الساعة حتى يتمكَّنوا من تذكُّر اللحظة التي اتخذوا فيها القرار. أظهرت النتائج أن النشاط الكهربائي (أو إمكانية الاستعداد) حدث قبل 500 مللي ثانية من تحريك المشاركين لأصابعهم، فضلا عن عدم دراية المشاركين بِنِيَّتهم لتحريك أصابعهم إلا قبل 150 مللي ثانية من الحركة الفعلية، الأمر الذي قاد إلى خلاصة مفادها أن المخ قرَّر ما ينبغي فعله قبل أن يعي المشاركون ذلك.

على الجانب الآخر، اعترض العديد من العلماء على ما استخلصه ليبيت من تجربته، إذ رأوا أن من غير المعقول أن يكون إدراكنا الواعي مجرد وهم، أو أن أفعالنا لا تعدو أن تكون مجرد حوادث تقع بعد أن تتخذ أدمغتنا القرار. كما شكَّك الباحثون في دقة الأدوات المستخدَمة في التجربة ومدى دقة تذكُّر المشاركين لوقت اتخاذهم القرار. ورغم كل هذه التشكيكات، كان من الصعب على الباحثين تحديد أوجه القصور بدقة.

توفي ليبيت عام 2007، تاركا عددا من الداعمين لتجربته لا يقل عن عدد النقاد، وفي العقود التي تلت دراسته، كرَّر العديد من الباحثين تجربته باستخدام تقنيات أحدث مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، لكن المثير للاهتمام أن أحدا لم يُشكِّك في احتمالية أن ما رآه ليبيت لم يكن دقيقا، لكن الجدل دار حول احتمال أن تكون استنتاجاته استندت إلى فرضية غير سليمة. ورغم أن بعض الدراسات الجديرة بالذكر تساءلت عما سيحدث إن لم تكن إمكانية الاستعداد في الأساس هي السبب وراء اتخاذنا للقرارات، فإنها مع الأسف فشلت في تقديم أي دليل يُفسِّر وظيفة هذه الإشارات العصبية. ولحسم هذا الجدل الواسع، كان على شخص ما تقديم تفسير بديل.

في عام 2010، درس آرون شورجر، الباحث في المعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية في باريس، التذبذبات في نشاط الخلايا العصبية التي تنشأ من الوميض التلقائي لمئات الآلاف من الخلايا العصبية المترابطة، واستنتج أن هذا الضجيج الناتج عن نشاط الخلايا العصبية يستمر في الارتفاع والانخفاض فيما يشبه حركات المد والجزر التي تحدث على سطح المحيط. تعليقا على ذلك يقول شورجر: "إن أي ظاهرة تخطر على بالي أجدها تتصرَّف تقريبا على هذا النحو مثل التتابع الزمني للأسهم في الأسواق المالية، أو حالة الطقس المتغيرة".

بعد ذلك، خطر ببال شورجر أنه إذا قرَّر أن يُركِّز على قمم التموجات الخاصة بأي ظاهرة (مثل العواصف الرعدية، أو سجلات السوق)، ثم عَكَس متوسطها على طريقة كورنهوبر وديك المبتكرة، فإن النتائج ستستمر في الاتجاه التصاعدي (بمعنى الوصول إلى الذروة مثل اشتداد الطقس وحدوث اضطرابات جوية، أو ارتفاع الأسهم في الأسواق المالية). من هنا نستنتج أنه لن يكون هناك أي غرض وراء هذه الاتجاهات، فلا توجد خطة سابقة لإحداث عاصفة ما أو لرفع الأسهم. كل ما هنالك أن هذه الأنماط تعكس ببساطة الطريقة التي يمكن بها أن تتزامن عوامل شتى فتجتمع مصادفة لخلق حالة ما.

استنتج شورجر أنه إذا طبَّق الطريقة نفسها على الضوضاء العصبية في الدماغ فسيحصل على إشارة "لإمكانية الاستعداد"، وأدرك أن هذا النمط المتصاعد (النشاط العصبي الذي يظهر على الشاشة) لم يكن علامة على أن الدماغ هو مَن يُسيِّر مقاليد الأمور على الإطلاق (بل ناجم عشوائيا عن التقلبات العفوية المستمرة في النشاط العصبي).

بعد ذلك بعامين، قدَّم شورجر وزميلاه الباحثان في مجال علم الأعصاب جاكوبو سيت وستانيسلاس ديهاين تفسيرا لذلك. يرى علماء الأعصاب أنه عندما يتعيَّن علينا اتخاذ قرار بناء على المدخلات المرئية، فإن مجموعات الخلايا العصبية تبدأ في تجميع الأدلة البصرية لصالح النتائج المُحتمَلة، ثم يتخذ المرء القرار في النهاية عندما يصبح الدليل المؤيد لنتيجة معينة قويا، ويعتمد هذا الدليل أحيانا على المعلومات الحسية من العالم الخارجي. فإذا كنت تشاهد تساقط الثلوج على سبيل المثال، فسيُقارن عقلك بين الكمية الكبيرة للثلوج المتساقطة إلى الأسفل والقليل منها الذي طار في مهب الريح، وسيهتدي إلى حقيقة أن الثلوج تتساقط إلى أسفل.

لكن تجربة ليبيت، كما يراها شورجر، لم توفر للمشاركين مثل هذه الإشارات الخارجية (الأدلة البصرية)، بل اعتمدت على قرار المشاركين في تحريك أصابعهم متى رغبوا في ذلك، وحدَّدوا وقت قرارهم بناء على هذه الرغبة. لذا يرى شورجر أن تلك اللحظات العفوية لا بد أنها تزامنت مع التقلبات العشوائية المستمرة للنشاط العصبي في أدمغة المشاركين، فأصبح الاحتمال الأكبر أن يُحرِّك المشاركون أصابعهم عندما يكون نظامهم الحركي على وشك الشروع في الحركة.

إن اعتقاد ليبيت بأن قرارات الناس تتحدَّد سلفا في اللاوعي قبل إدراكهم لذلك هو اعتقاد خاطئ، وذلك لأن النشاط العصبي المشوَّش في أدمغة الناس (تذبذبات الخلايا العصبية) يحدث أحيانا لترجيح كفة أحد الخيارات على الكفة الأخرى، فيُنقذنا ذلك من الترددات اللا نهائية عند مواجهة مهمات ذات خيارات عديدة وعشوائية. في هذه الحالة ستظهر "إمكانية الاستعداد" على هيئة موجة صاعدة من تقلبات عشوائية للنشاط العصبي التي تميل إلى التزامن مع اتخاذ القرارات. ما نتحدَّث عنه يُعَدُّ حالة خاصة جدا ولا يمكن تعميمها.

في دراسة أخرى أُجريت على قرود مُكلَّفة للاختيار بين خيارين متساويين، رأى فريق من الباحثين أن اختيار القردة القادم مرتبط بالنشاط الداخلي لأدمغتها قبل حتى أن تُعرَض عليها الخيارات. وفي دراسة ثانية ما زالت قيد المراجعة في الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم، كرَّر شورجر واثنان من الباحثين بجامعة برينستون تجربة ليبيت مرة أخرى، لكنهم اتخذوا إجراءات أكثر دقة واستعانوا بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي للعثور على النقطتين اللتين حدث عندهما تغيير في النشاط الدماغي (أي قبل أن يُقرِّر المشاركون وبعدما قرَّروا).

وهنا كانت المفاجأة، لم توضِّح خوارزميات الذكاء الاصطناعي حدوث أي تغيير إلا قبل نحو 150 مللي ثانية فقط من الحركة الفعلية، وهو الوقت الذي أبلغ فيه الأشخاص عن اتخاذ قرارات في تجربة ليبيت الأصلية. بعبارة أخرى، يبدو أن تجربة الناس الشخصية في اتخاذ القرارات ليست مجرد وهم كما أوضحت دراسة ليبيت، بل إنها تتطابق مع اللحظة الفعلية التي تُظهِر فيها أدمغتنا اتخاذها للقرارات.

عندما اقترح شورجر لأول مرة تفسير الضوضاء العصبية عام 2012، لم تحظَ الورقة بالكثير من الانتباه الخارجي، لكنها في المقابل أثارت ضجة في مجال علم الأعصاب، وحصل شورجر على جوائز لقدرته على دحض فكرة ظلَّت قائمة لأمد طويل. في السياق ذاته يقول أوري ماوز، عالِم برمجة الأعصاب بجامعة تشابمان بكاليفورنيا: "أظهرت الدراسات الحديثة أن إمكانية الاستعداد ليست كما كنا نظنها، بل تبدو بطريقة ما متعلقة بكيفية تحليل بياناتنا أو (مدخلاتنا المرئية)".

ومثل أي فكرة جديدة، واجهتْ دراسة شورجر في البداية بعض المقاومة والاعتراض، لكن ما يميزها عن باقي الدراسات السابقة التي كرَّرت تجربة ليبيت ولم تصل إلى شيء هو اتجاه شورجر لاختبار السببية. أما ما يتفق عليه الجميع اليوم، سواء كانوا مؤيدين لتجربة ليبيت أو معارضين لها، هو عدم الاعتماد على مفهوم "إمكانية الاستعداد" في تجاربهم. (اعترف القليل من الذين ما زالوا يحملون وجهة النظر التقليدية نفسها بأنهم لم يقرأوا بعد ورقة شورجر البحثية التي نُشرت عام 2012) في السياق ذاته، يقول باتريك هاغارد، عالِم الأعصاب بجامعة لندن، الذي تعاون مع ليبيت قديما وأعاد إنتاج التجارب الأصلية: "إن الدراسات الحديثة أعادت فتح آفاقي من جديد".

على الرغم من كل ما توصَّل إليه شورجر، فإن نسبة أن يكون مخطئا لا تزال موجودة، وذلك بسبب الطبيعة الاستنتاجية للدماغ التي تترك دائما الباب مواربا لتفسيرات مختلفة تماما في المستقبل، غير أن معظم الآراء العلمية ترى أن تجربة شورجر لم تحل مسألة الإرادة الحرة أكثر مما فعل ليبيت، لكنها عمَّقت السؤال فقط، لنتساءل مرة أخرى: هل كل ما نقوم به تُحدِّده سلفا سلسلة من الأسباب والنتائج الجينية والبيئية والخلايا التي تُشكِّل أدمغتنا؟ أم أنه يمكننا بحرية اختيار قراراتنا ونيَّاتنا التي تؤثر على أفعالنا؟ إن الإجابة عن هذا السؤال معقدة للغاية، لكن إن كان دحض شورجر الجريء لأفكار ليبيت يدل على شيء، فإنه يدل على حاجتنا إلى أسئلة أكثر دقة واستنارة.

يقول أوري ماوز، عالِم برمجة الأعصاب بجامعة تشابمان: "ظل الفلاسفة يناقشون الإرادة الحرة لآلاف السنين، وظلوا يُحرزون تقدُّما إلى أن جاء علماء الأعصاب وأقحموا أنفسهم في المسألة زاعمين أنهم حلوا الأمر بضربة واحدة". وفي مارس/آذار عام 2019، عُقد مؤتمر افتتاحي لأول تعاون بحثي مُكثَّف بين علماء الأعصاب والفلاسفة ناقش فيه الحاضرون خططا لتصميم تجارب فلسفية، واتفقوا بالإجماع على ضرورة تحديد المعاني المختلفة لـ "الإرادة الحرة".

في النهاية، علينا أن ندرك جيدا أن على الرغم من الموقف الحازم الذي تبنَّاه ليبيت إزاء تفسيره لدراسته، ظلَّ مؤمنا بأن تجربته لم تكن كافية لإثبات الحتمية الكاملة لفكرة أن كل ما نُقرِّره ليس خاضعا لإرادتنا. ففي عام 2004، صدر له كتاب يقول فيه: "بالنظر إلى أهمية المسألة ومدى تأثيرها على رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، فإن الادعاء بأن إرادتنا الحرة مجرد وهم لا بد أن يستند إلى دليل مباشر إلى حدٍّ ما، ومثل هذه الأدلة ليست متوفرة مع الأسف".

_____________________________

ترجمة: سمية زاهر

هذا التقرير مترجم The Atlanticعن ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة