شعار قسم ميدان

"تسييس العلم".. كيف يوظف الغرب العلم سلاحا في مواجهة روسيا؟

خلال الأيام الأولى من شهر مارس/آذار 2022، تلقَّى الباحث الروسي "فاديم باتيف" رسالة من مجلة "جورنال أوف موليكلار ستراكشر" (Journal of molecular structure) تُفيد بأن الورقة البحثية التي راجعها للتو، بغض النظر عن مدى صحتها أو مناسبتها للنشر، قد مُنعت من قِبَل المجلة لأنها حاليا لا تنشر أي أوراق بحثية لعلماء روس، نشر باتيف الرسالة على حسابه بمنصة فيسبوك، ما تسبَّب في حالة جدل كبيرة بين الباحثين حول العالم.

تلا ذلك توضيح من المجلة(1) لموقفها في بيان صحفي قالت فيه إنها توقَّفت عن النظر في الأبحاث التي كتبها علماء يعملون في مؤسسات الاتحاد الروسي، وليس العلماء الروس في العموم، بمعنى أن أي عالم روسي يعمل في مؤسسة غير روسية مرحَّب به للنشر في المجلة، وأضافت في بيانها: "يعتقد المُحرِّرون أن هذا القرار يحترم مبادئ "اللعب النظيف"، حيث لا يقوم على أساس العِرق أو الجنس أو التوجُّه الجنسي أو المعتقد الديني أو الأصل العِرقي أو المواطنة أو الفلسفة السياسية، بل على الاهتمامات الإنسانية فقط".

حجة القائمين على المجلة بسيطة، وهي أن المؤسسات العلمية الروسية تتلقى التمويل من الإدارة الروسية التي تُدير هذه الحرب، وبسببها تواجه الآن عقوبات اقتصادية متنوعة، وبموجب هذه العقوبات فإن رفض نشر الأبحاث من مؤسسات بحثية روسية يُعَدُّ مبرَّرا. تضيف المجلة في ختام بيانها: "ستستمر هذه السياسة إلى أن تنتهي الأعمال العدائية ويعود اللاجئون (بغض النظر عن الجنسية) بأمان إلى منازلهم وعائلاتهم".

نفي بحثي

منذ اللحظة الأولى للغزو الروسي، وجَّه العلماء الأوكرانيون نداء متكررا إلى مُحرِّري المجلات البحثية في العالم كله تقريبا لفرض عقوبات على العلماء الروسيين من خلال رفض نشر الأبحاث الخاصة بهم، لكنَّ المُحرِّرين والناشرين رفضوا الدعوة إلى حدٍّ كبير، مُستشهدين(2) بمبدأ راسخ في النشر العلمي وهو عدم التمييز ضد المؤلفين على أساس جنسيتهم أو آرائهم السياسية. ترسَّخ هذا المبدأ لعقود خلال الحرب الباردة، عندما رحَّب مُحرِّرو المجلات بأوراق من المؤلفين في الاتحاد السوفيتي.

في الوقت الحالي، تُعَدُّ مجلة "جورنال أوف موليكلار ستراكشر"، التي تصدر من شركة النشر العملاقة "إلزفير" (Elsevier)، المجلة الوحيدة التي ورد أنها تقاطع الدراسات القادمة من روسيا، لكن الأمر تخطَّى المجلات إلى المؤسسات العلمية البحثية في أكثر من حالة.

على سبيل المثال، قرَّرت مجموعة من أكبر مُموِّلي الأبحاث في ألمانيا(3)، بما في ذلك مؤسسة الأبحاث الألمانية، تجميد جميع أشكال التعاون العلمي مع روسيا. وفي بيان صدر في 25 فبراير/شباط، قالت المجموعة إن الأموال البحثية في ألمانيا لن تعود بالفائدة على روسيا، وأنها تدرك عواقب هذه الإجراءات، وفي الوقت نفسه تأسف بشدة بسبب تأثيرها على العلم.

وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، أنهى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج علاقته(4) مع مؤسسة سكولكوفو، وهي منظمة غير ربحية مقرها موسكو تُركِّز على الابتكار، بعد أكثر من 10 سنوات من العمل البحثي المتبادل، أعرب المعهد في بيانه عن أسف عميق بسبب احترامه الكبير للشعب الروسي وتقديره العميق لمساهمات العلماء الروس، لكنه أكَّد أن "الحرب في أوكرانيا وما تسبَّبت فيه من ضحايا أكبر من كل شيء".

وفي بيان صدر في 11 مارس/آذار، قالت الحكومة الكندية(5) إنها تطلب من وكالات التمويل الفيدرالية والعديد من مُتلقِّي المنح الرئيسيين "الامتناع عن الدخول في اتفاقيات مع مؤسسات بحثية روسية". في الوقت نفسه، قالت الحكومة إنها تُنشئ صندوقا خاصا لدعم مُتدرِّبي الأبحاث من أوكرانيا على غرار برنامج اللاجئين الحالي الذي تُديره المعاهد الكندية للأبحاث الصحية. بالتزامن، بدأت العديد من الجامعات الكندية بالفعل في التخطيط لاستقبال طلاب أوكرانيين جدد، بالإضافة إلى دعم الطلاب الموجودين بالفعل في البلاد.

لكن في معظم التخصصات، فإن كندا ليست من كبار المتعاونين العلميين مع روسيا، لذلك فإن هذه الضربة السياسية ربما لا تؤثر كثيرا في روسيا، لكن بجانب تلك المؤسسات البحثية، تلقَّى البحث العلمي الروسي عدة ضربات قوية أيضا خلال الأسابيع القليلة التي مضت منذ بدء الحرب من منظمات ثقيلة حقا في تخصصاتها.

ضربات قوية

أفاد مجلس المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN) في بيان(6) صدر مؤخرا أن الدول الـ 23 الأعضاء في المجلس تدين بأشد العبارات الغزو العسكري لأوكرانيا من قِبَل الاتحاد الروسي، وأن المجلس وافق على دعم المتعاونين الأوكرانيين في فيزياء الطاقة العالية، وتعليق وضع روسيا وعدم بدء تعاون جديد مع المؤسسات الروسية. يُشكِّل العلماء الروس نحو 8% من طاقم "سيرن" البالغ نحو 12.000 باحث.

"سيرن" هي أكبر مؤسسة بحثية في فيزياء الطاقة العالية في العالم، لذلك فإن هذه الإجراءات قد تمتلك أثرا سياسيا قويا، لكن على الجانب الآخر فإن الباحثين الروس (نقصد العلماء أنفسهم) من غير المشاركين في الحرب، ولا في اتخاذ قرارها، سيتضرَّرون بوضوح من قرارات كهذه، بعض هؤلاء ما زال في مقتبل العمر البحثي ويحتاج إلى البيانات من تجارب "سيرن" كي يستمر عمله البحثي.

إلى جانب ذلك، أعلنت وكالة الفضاء الأوروبية (ESA)، في بيان رسمي يوم 28 فبراير/شباط الماضي، أن بعد اجتماع الدول الأعضاء، فإن إطلاق المهمة "إكسو مارس" (ExoMars) التي تهدف إلى استكشاف كوكب المريخ هذا العام سيكون "مستبعَدا للغاية"(7)، وقالت الوكالة إنها تستنكر الخسائر البشرية والعواقب المأساوية للحرب في أوكرانيا، وإن قراراتها لا تأخذ في الحسبان قوتها العاملة فحسب، بل "القيم الأوروبية".

كانت هذه المرة الثالثة التي يُؤجَّل فيها إطلاق المهمة، فقد كان موعد إطلاقها الأصلي عام 2018، ويبدو أنها قد لا تنطلق أبدا إذا استمر الاضطراب في العلاقة بين روسيا والغرب. بلغت تكلفة "إكسو مارس" 1.4 مليار دولار إلى الآن، ويشارك فيها آلاف الباحثين، سواء بالتنفيذ أو بتقديم المقترحات البحثية.

ليست هذه أول مرة تؤثر فيها الحرب في أوكرانيا والعقوبات ضد روسيا على أشكال التعاون الأوروبي الروسي في علوم الفضاء، إذ سحبت الوكالة الروسية موظفيها من ميناء الفضاء الرئيسي التابع لوكالة الفضاء الأوروبية في كورو في غويانا الفرنسية. إلى جانب ذلك، توقَّفت عمليات الإطلاق على الصواريخ الروسية "سويوز" التي تستخدمها وكالة الفضاء الأوروبية في عمليات الإطلاق متوسطة الحجم، وتدرس الوكالة الآن بالفعل إمكانية تحويل مهامها إلى صواريخ من دول أخرى.

حرب المؤسسات البحثية

على الجانب المقابل، توجِّه روسيا ضرباتها هي الأخرى، فقد أعلنت وكالة الفضاء الروسية في 3 مارس/آذار أنها ألغت(8) التجارب العلمية المشتركة المقرَّر إجراؤها على محطة الفضاء الدولية بالتعاون مع ألمانيا، وهو بيان وصل في اليوم نفسه الذي أعلن فيه ديمتري روجوزين، المدير العام للوكالة، أن روسيا ستوقف -في الوقت الحالي على الأقل- تعاونها الفضائي مع الولايات المتحدة.

وقال المدير في كلمته إن روسيا لن تُقدِّم محركات صاروخية إلى الولايات المتحدة بعد الآن، ولن توفر الصيانة، واقترح بدلا من ذلك أن تستخدم أميركا "المكانس" لتزويد نفسها بالطاقة في الفضاء. جاء كل ذلك بعد أيام فقط من إشارة روسيا إلى أنها قد لا تستمر في المساعدة في تشغيل محطة الفضاء الدولية. قد يؤدي ذلك إلى إيقاف تشغيل المحطة قبل تاريخ انتهائها المقرَّر عام 2031.

لكن يبدو أن الأوكرانيين ينتصرون في هذه الحرب، وتنطلق مطالباتهم الرسمية من كل حدب وصوب لعزل الروس تماما عن خط السير العلمي العالمي، مُبرِّرين طلباتهم تلك بأن هذه الإجراءات قد تُسرِّع من إيقاف الحرب الروسية على أوكرانيا، فحينما يشعر الروس أن العالم يلفظهم اقتصاديا وعلميا، وحتى رياضيا، ربما يعيدون التفكير.

وعلى الجانب الآخر من هذا الموقف، يقف فريق كبير من الباحثين الروس لا ناقة له ولا جمل في هذه الحرب، لم يشارك بها أو يدعمها، ويقول إن العداء للإدارة الروسية من المفترض ألا يكون عداء للشعب الروسي، هذا الفريق يتضرَّر شخصيا مما يحدث، بل إن بعض هؤلاء الباحثين قد يكون رافضا للحرب على أوكرانيا بالأساس. في الواقع، صاغ(9) عدد من العلماء الروس خطابا مفتوحا يدين الهجوم الأحمق ويُحذِّر من تداعياته على المجتمع العلمي الروسي وتعاونهم الدولي، اقترب عدد العلماء الموقِّعين على هذه الرسالة حاليا من 5000 شخص.

وبين هؤلاء وهؤلاء، يقف فريق ثالث من العلماء أُخبروا من قبل أن عرض قضاياهم السياسية في المؤسسات البحثية غير سليم، وأُوقِفوا من قبل عن دعواتهم لتذكير العالم فقط بمشكلاتهم السياسية، بحجة أن العلم يجب ألا يختلط بالسياسة، وأنه يتجاوز الحدود الجغرافية والمشكلات الجيوسياسية إلى آفاق حرية تبادل المعرفة. هؤلاء الباحثون من دول مثل فلسطين أو غيرها من دول العالم التي عانت الأَمَرَّين مع الحرب والاحتلال يشاهدون العلم الآن وهو يختلط بالسياسة في كل مكان.

في كل الأحوال، من المُرجَّح أن ما يحدث حاليا سيُغيِّر تماما من طبيعة العلاقة بين العلم والسياسة في العالم المعاصر، بخلاف كونه سيهز صورة المؤسسات العلمية بوصفها مؤسسات محايدة سياسيا. لا يمكننا أن نتوقَّع الآن جميع النتائج المترتبة على هذا التحوُّل، لكن المؤكَّد أن آثاره ستلمس جميع الأوساط العلمية والأكاديمية والأوساط المرتبطة بها، عاجلا أو آجلا.

_______________________________________

مصادر:

  1. Statement from the Editors of the Journal of Molecular Structure
  2. Western nations cut ties with Russian science, even as some projects try to remain neutral
  3. Global research community condemns Russian invasion of Ukraine
  4. المصدر السابق
  5. Canada hits science ties with Russia, creates fund for Ukrainian students
  6. CERN pauses future research collaboration with Russia at Ukrainian scientists’ request
  7. أثر الحرب في أوكرانيا يصل إلى المهام الفضائية الروسية المشتركة مع أوروبا
  8. Russia’s Ukraine invasion could imperil international science
  9. Russian scientists publish open letter condemning the war with Ukraine
المصدر : الجزيرة