نوبل للكيمياء 2022.. كيف نعالج السرطان بتفاعلات "أنيقة"؟

نوبل للكيمياء

في المرحلة الإعدادية، تَعلَّمنا الكيمياء بطريقة بسيطة للغاية تقول إنه حينما نُضيف المادة "أ" مثلا إلى المادة "ب" واضعين علامة (+) بينهما، فسينطلق سهم، ربما نضع عليه مثلثا صغيرا يُشير إلى وجود الحرارة، ويؤدي هذا السهم إلى الناتج، الذي سيكون المادة "ج". ومهما اختلفت الطرق، والسياقات، ونوع الكيمياء الذي ندرسه، فإن العملية الكيميائية كانت تأخذ دائما هذا النمط البسيط؛ أضف هذا على ذاك وانتظر النتائج.

 

لكن في الحقيقة، تلك هي فقط محاولة لتبسيط الأمر للطلاب، ورغم جمالها وفاعليتها فإنها نقلت فكرة خاطئة مفادها أن هذه التفاعلات تحدث بسلاسة شديدة، لكن على أرض الواقع فإننا لا نحصل فقط على "ج" رائقة وكاملة وكأنها هدية ملفوفة في ورق ذهبي جميل، هناك دائما نواتج ثانوية لكل تفاعل، قد تزيد نسبتها فتغلب على الناتج المستهدف أصلا، هناك دائما الكثير من النفايات والبقايا، وبالنسبة للكيميائي، فإن تلك هي المشكلة الكبرى.

 

بينما نستهدف جميعا النواتج الإيجابية لكل ما نفعله في حياتنا، فإن الكيميائي يتعلَّم أن الأهم هو أن نراقب ما هو سلبي، كم النفايات وكيفية التخلص منها. ما نسبة ما حصلنا عليه من المنتج المطلوب؟ وما نسبة البقايا والنفايات؟ وكيف يمكن التخلص من هذه البقايا والنفايات؟ أسئلة كثيرة تُحيِّر الكيميائي قبل أن يهدأ باله، وأخيرا يقتنع بالنتائج، وهذا لا يحدث كثيرا.

إعلان

 

يوميات كيميائي لا يقبل بالقليل

يُعَدُّ كارل باري شاربلس (أميركي)، وكارولين آر بيرتوزي (أميركية)، ومورتن بيتر ميلدال (دنماركي)، وهم الثلاثي الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء لهذا العام 2022، من ذلك النوع من الكيميائيين الذين لم يقتنعوا بالنتائج بسهولة، أرادوا أن يصلوا إلى أفضل نتيجة ممكنة من السيد "ج"، نتيجة كانت يوما ما بالنسبة للكيميائيين في نطاقات العلوم الطبية تُمثِّل حلم شخص نائم في ليلة صيفية معتدلة.

لفهم الأمر دعنا نبدأ من شاربلس، هذه هي جائزة نوبل الثانية في حياته بعد أن حصل عليها عام 2001، كان شاربلس يرى أن الكيميائيين يخطئون بمحاولاتهم محاكاة الطريقة التي تعمل بها الطبيعة لتخليق المركبات الكيميائية الكبيرة التي عادة ما تُستخدم في نطاق تصميم الأدوية الجديدة (Drug Design)، لأن تخليق مركبات كهذه يتطلب الكثير من الخطوات، وهو ما يعني بالتبعية كثيرا من النفايات وبقايا التفاعلات الضارة، التي يكون التخلُّص منها صعبا، وأحيانا يكون مستحيلا.

epa10224747 A handout photo made available by Scripps Research shows Dr. K. Barry Sharpless after he was announced as one of three winners of the Nobel Prize in Chemistry in La Jolla, California, USA, 05 October 2022. The winners of the 2022 Nobel Prize in Chemistry are Carolyn R. Bertozzi and K. Barry Sharpless of the US and Morten Meldal of Denmark. EPA-EFE/SCRIPPS RESEARCH / HANDOUT EDITORIAL USE ONLY, NO SALES HANDOUT EDITORIAL USE ONLY/NO SALES
كارل باري شاربلس (وكالة الأنباء الأوروبية)

بدلا من ذلك، اقترح شاربلس طريقة جديدة كانت من الأهمية بحيث تحوَّلت فيما بعد إلى فلسفة في عالم الكيمياء، هذه الطريقة هي ما نعرفه الآن باسم "الكيمياء النقرية" (Click Chemistry). لفهم الأمر دعنا نبدأ من قفل الحقيبة البلاستيكي، يتكوَّن هذا القفل عادة من قطعتين، حينما تتداخلان معا تصنعان صوت "نقرة" أو "تك" (Click) للتأكيد أن عملية التداخل تمت بأمان وسلامة وفاعلية، حقيبتك الآن مغلقة ويمكن أن تذهب إلى العمل.

إنفو نوبل

كانت فكرة شاربلس أن نحصل على تفاعل كيميائي محدود يحقق هذه السمة تحديدا، مركبان يلتقيان معا فيتداخلان فورا مثل طرفَيْ قفل الحقيبة، إلى جانب ذلك يجب أن يكون التفاعل بسيطا، ذا عائد كبير وبنفايات أقل، يعمل في وجود الماء والأكسجين (لأنهما أرخص وفي الوقت نفسه صديقان للطبيعة)، بعد سنوات من البحث عن تفاعل يناسب هذه المعايير الصارمة (أو قُل الحالمة) يصل شاربلس إلى تفاعل يسمى "تفاعل هويزغن للإضافة الحلقية من النوع أزيد-ألكاين" (Azide-alkyne Huisgen cycloaddition).

إعلان

 

ليغو بين الجزيئات

 

نعرف أنك الآن تتحسس مسدسك أمام هذا الاصطلاح المخيف الذي ينبئ بأطنان من الكيمياء المُعقدة التي لم تكن على وفاق معها في المراحل الدراسية، لكن لا تقلق من الاصطلاحات ولا تهتم حتّى بتذكُّرها، ما حدث أن تركيبة كيميائية تُدعى "أزيد" عبارة عن ثلاث ذرات نيتروجين قد ارتبطت بطريقة قفل الحقيبة مع تركيبة أخرى تُدعى "ألكاين" وتتكوَّن من ذرتَيْ كربون مرتبطتين بقوة، هذا الاتحاد يُنتج مركبا ثالثا هو "تريازول"، حلقي الشكل، لكن المهم أنه يمتلك مزايا كبيرة في نطاقات الأدوية والزراعة والصبغات وبعض الصناعات الكيميائية الأخرى.

 

الحصول على هذا التفاعل، وبهذا النقاء، بدون نفايات تُحيل التفاعل جحيما، كان نقلة في تاريخ الكيمياء لدرجة جعلت اسم هذا الفرع من الكيمياء يُطلَق في كثير من الأحيان على هذا التفاعل فقط، وهو ما جعله أيضا نموذجا مثاليا لما أراده شاربلس.

 

وفي العام نفسه الذي أعلن فيه شاربلس عن إنجازه، كان ميلدال على مسافة عدة آلاف من الكيلومترات في الدنمارك، ينشر ورقته البحثية حول الأمر نفسه، وكلاهما توصل بشكل منفرد إلى هذا التفاعل البديع، إنها حادثة ليست نادرة في تاريخ العلم، تشارلز داروين وصل إلى فكرته حول التطور بالانتخاب الطبيعي في الوقت نفسه الذي طرح فيه ألفريد راسل والاس الفكرة نفسها تقريبا، وقد حصل الياباني شينيتشيرو توموناغا على جائزة نوبل للفيزياء عام 1965، مع جوليان شفينجر وريتشارد فاينان، عن إنجازاتهم في الإلكتروديناميكا الكمية، حيث تمكَّن توموناغا من تطوير آلية حسابية (الاستبدال غير المتناهي) لمعالجة بعض القضايا الكونية بشكل منفصل عن شفينجر الذي كان قد توصل إلى الآلية نفسها بالتزامن.

epa10225086 Nobel Prize in Chemistry winner Morten Meldal poses for a picture at the University of Copenhagen, Denmark, 05 October 2022. Danish professor Morten Meldal was awarded with the Nobel Prize in Chemistry together with Barry Sharpless and Carolyn Bertozzi of the US. EPA-EFE/PHILIP DAVALI DENMARK OUT
مورتن بيتر ميلدال (وكالة الأنباء الأوروبية)

حسنا، الآن حصلنا على "التفاعل النقري" (Click reaction)، كانت الخطوة القادمة أن نستخدمه، والفكرة البسيطة التي ابتكرها شاربلس كانت أن نستخدم هذا التفاعل للربط بين قطع من المركبات الكيميائية، يشبه الأمر أن تستخدم قفل الحقيبة لربط أي شيء بأي شيء، فقط تحتاج إلى أن تخيط أحد الأشياء بجانب القفل الأيسر، وأحد الأشياء بالجانب الأيمن، ثم يتداخل الجانبان.

إعلان

 

قبل هذا المُنجز، كانت الفكرة الشائعة هي أن بناء مركب كبير (وكما قلنا فإن هذه المركبات شائعة في عالم صناعة الدواء) لا بد أن يتم عبر سلسلة طويلة من التفاعلات التي تُكلِّف الكثير من الوقت والجهد، أما شاربلس فرأى أنه يمكن لنا تجميع هذا المركب الكبير عبر قطع مركبات أصغر يرتبط بعضها ببعض عن طريق القفل الذي ابتكرناه، فنربط مركبا بهذا الجانب للقفل، ومركبا آخر بالجانب الآخر، ثم نربط قطعتَيْ القفل بعضهما ببعض (تأمل التصميم السابق).

 

في تلك النقطة، يقترح شاربلس أننا أصلا لسنا بحاجة إلى عمل محاكاة تامة للمركبات الكيميائية المفيدة في الطبيعة، ويمكن فقط أن نصنع مركبات تقترب منها وتكون فعالة أيضا. وعلى بساطة الفكرة، وغرابتها في الوقت نفسه، فقد نجحت في تحقيق حلم الكيميائيين في هذا النطاق، نتائج ذات فاعلية كبيرة مقارنة بسابقاتها، مع نفايات أقل بفارق كبير، عن طريق تفاعل اقتصادي جدا وسهل التطبيق وسريع! وفي الوقت نفسه، فقد فتحت هذه الفلسفة الباب لاستكشاف مساحات كيميائية جديدة للجزيئات الشبيهة بالعقاقير المعروفة، التي تحتوي على درجة عالية من التنوع الهيكلي.

 

لهذا السبب، اكتسبت الكيمياء النقرية أهمية شديدة في نطاقات أبحاث الحمض النووي وابتكار الأدوية الجديدة، جنبا إلى جنب مع الكيمياء التوليفية أو التوافقية التي تستعين بالمحاكاة الحاسوبية، لإنتاج عدد كبير ومتنوع من المركبات الكيميائية العامة المتقاربة في تركيبتها.

 

الفتاة التي علّمت الجليكان

epa10225344 A handout file photo made available by the Stanford News Service on 05 October 2022 shows Carolyn Bertozzi Professor of Chemistry at Stanford Univesity in Stanford, California, USA, 02 June 2015. Bertozzi is one of three winners of the 2022 Nobel Prize in Chemistry. The winners of the 2022 Nobel Prize in Chemistry are Carolyn R. Bertozzi and K. Barry Sharpless of the US and Morten Meldal of Denmark. EPA-EFE/LINDA A. CICERO / STANFORD NEWS SERVICE HANDOUT HANDOUT EDITORIAL USE ONLY/NO SALES
كارولين آر بيرتوزي (وكالة الأنباء الأوروبية)

كانت كارولين آر بيرتوزي ممن تأثروا بتلك الموجة. في التسعينيات من القرن الفائت، اهتمت بمركب يسمى الجلَيكان (Glycan)، وهو نوع من الكربوهيدرات المعقدة، غالبا ما توجد على سطح الخلايا، من المعروف أن الجلَيكان يلعب دورا مهما في العديد من العمليات البيولوجية، مثلا عندما تُصيب الفيروسات الخلايا، أو عندما يتم تنشيط جهاز المناعة، وبالتالي كانت هناك حاجة إلى دراسته، لكن ذلك كان صعبا للغاية.

إعلان

 

في هذه المرحلة كانت بيرتوزي تهتم بفكرة الكيمياء النقرية وتفاعل "هويزغن للإضافة الحلقية من النوع أزيد-ألكاين" (تذكر أنه ليس عليك أن تحفظ الاسم)، لكنها واجهت مشكلة، فهذا التفاعل يحتاج إلى النحاس بوصفه عاملا مساعدا، والنحاس مادة سامة بالنسبة للخلايا البشرية، كانت فكرة بيرتوزي البسيطة هي أن تفاعلا بهذه الجودة يجب أن يُعدَّل كي يحدث بأمان داخل خلايا الأنسجة الحية، وهنا بدأ تأسيس كيمياء جديدة سُمِّيت "الكيمياء الحيوية المتعامدة" (bioorthogonal chemistry).

 

على مدى أكثر من عقد من العمل، تمكَّنت بيرتوزي من بناء تفاعل نقري يشبه ما أنتجه شاربلس وميلدال، لكنه لا يحتاج إلى النحاس ويتم بفاعلية داخل الأنسجة الحية، بعد ذلك، قررت استخدام القفل الجديد الذي ابتكرته لتعليم جزيئات الجليكان.

إنفو نوبل

في تجاربها تمكَّنت العالِمة الأميركية من إدخال جزء من القفل إلى الخلية الحية ("الأزيد" ثلاثي النيتروجين الذي تحدثنا عنه منذ قليل) وربطه بجزيئات الجليكان على سطح الخلية، بعد ذلك ربطت الجزء الآخر للقفل مع مركب مشع بالضوء (Fluorescence)، حينما نحقن الأنسجة بهذا المركب المربوط في أحد جانبي القفل، فإنه يلتقي بالجانب الآخر المكمل له والمثبت على جزيئات الجليكان الموجودة على أسطح الخلايا الحية، بالتالي حينما ننظر إلى تلك الخلايا من الميكروسكوب بالأعلى، فإننا سنرى أسطحها تشع ضوءا، وبالتالي يتمكَّن العلماء من دراسة الجليكان.

 

فلسفة النقر!

إحدى المناطق الخاصة التي اهتمت بها بيرتوزي هي الجليكانات الموجودة على سطح الخلايا السرطانية، قادت دراساتها إلى فكرة طبية جديدة مفادها أن بعض الجليكانات تحمي الأورام من جهاز المناعة في الجسم، لأنها تجعل الخلايا المناعية تتوقف عن العمل. لمنع هذه الآلية الوقائية، ابتكرت بيرتوزي وزملاؤها نوعا جديدا من الأدوية التي تستخدم إنزيمات تعمل على تكسير الجليكانات الموجودة على سطح الخلايا السرطانية. يُختَبر الآن هذا الدواء في التجارب السريرية على الأشخاص المصابين بالسرطان في المراحل المتقدمة.

إعلان

 

حاليا، توسَّع هذا النطاق العلاجي والتشخيصي لأنواع مختلفة من الأورام. على سبيل المثال، يمكن أن توضع علامات على الخلايا السرطانية بطريقة كيمياء النقر، ثم تتبعها ودراستها عبر ماسح التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني، أو ربما يمكن توجيه جرعة قاتلة من الإشعاع على الخلايا السرطانية المعلَّمة بمادة محددة عن طريق تفاعلات الكيمياء النقرية.

 

مع كل تلك المنجزات (المرشَّحة للتوسع)، أصبحت الكيمياء النقرية أكبر من مجرد تفاعلات مجردة بين مركبات كيميائية، لكنها باتت تُعبِّر عن فلسفة كاملة، بموجبها يبحث الكيميائي عن تفاعلات أنيقة، نقية، بأقل نسبة من النفايات والبقايا، ذات إنتاج عالٍ، ويمكن فيها استخدام محفزات صديقة للبيئة. يوما بعد يوم تمتلك هذه المدرسة الجديدة مكانا إلى جانب مدارس أخرى مثل الكيمياء الخضراء، وهي أيضا فرع حديث من الكيمياء يهدف إلى تقليل الانبعاثات الناتجة عن عمليات التصنيع الكيميائي إلى أقل مدى ممكن، وابتكار مواد كيميائية جديدة تعود بالخير على البيئة، وعلينا جميعا بالتبعية.

—————————————————————————————

المصادر

1- Advanced information

2- Their functional chemistry works wonders

المصدر : الجزيرة

إعلان