الإبر الصينية.. لماذا تنتشر أكبر خرافة طبية في العالم العربي إلى هذا الحد؟

في عام 2020، انتشرت الأخبار عن صانعة محتوى مغربية شابة على يوتيوب تلقَّت علاجا بالإبر الصينية في كوريا، وتعرَّضت لمضاعفات خطيرة منها شلل أصاب نصف وجهها، إضافة إلى أضرار بالعمود الفقري. وفي المقطع المصور الذي نشرته على حسابها الشخصي بموقع "تويتر"، أكَّدت أن المستشفى الكوري يرفض علاجها أو حتى تسليمها تقاريرها الطبية التي تُثبت تعرضها لهذه المضاعفات.

 

تحوَّلت قضية سارة إلى قضية رأي عام في ذلك الوقت، وانتشر "هاشتاج" تحت عنوان "سارة متضررة في كوريا"، بينما ظهر آخرون يُكذِّبون مزاعمها، لكن بغض النظر عن ذلك فإنك ببحث بسيط باللغة العربية على مواقع التواصل الاجتماعي أو محرك البحث غوغل ستجد الكثير من الدعايات عن العلاج بالإبر الصينية، سواء لدعوة الناس لاستخدامها بوصفها وسيلة علاج، أو لتعلُّم استخدامها بوصفها حِرفة جديدة.

 

المفارقة هنا أن العمل معالجا بالإبر الصينية أمر لا يتطلب الكثير من الجهد، فبعض الأماكن تقدم دورات قد لا تتعدى بضعة أشهر ثم تمنح المتعلم شهادة تُمكِّنه من ممارسة هذا العمل رسميا، وهي مفارقة عجيبة بالنسبة إلى تقنية يُزعم استخدامها لأغراض علاجية وطبية في المقام الأول.

 

المفارقة الثانية أن هذا الأمر ليس جديدا كما يعتقد الكثيرون. إذا كنت ممن عاصروا فترة تسعينيات القرن الماضي بشكل واعٍ، فيمكن أن تتذكر هذا المشهد الذي رأيناه نحن العرب للمرة الأولى لذلك الشخص الذي يضع لصقات الإبر الصينية على الأذن من الخارج بغرض فقدان الوزن. ومن وقتها انتشرت ظاهرة العلاج بالإبر الصينية في بلدان (1) الوطن العربي مثل مصر وسوريا وفلسطين (2) وغيرها (3)، ولم يعد من الصعب حجز جلسة علاج بالإبر الصينية في أيٍّ من هذه البلدان.

 

بل إن الإبر التي تُغرس في الأذن وكان استخدامها من عشرات السنوات يتكلف مبالغ مادية كبيرة، أصبحت تُباع على مواقع التسوق الإلكترونية، حيث بات يمكنك شراؤها واستخدامها دون إشراف طبي. في الواقع، يمكن القول إن الانتشار الرقمي، على ما صاحبه من مزايا تواصلية ساعدت الكثيرين، فاقم أيضا انتشار هذا النوع من التقنيات العلاجية غير العلمية.

إرث ثقافي صيني

حسنا، لنعد قليلا إلى الوراء لنفهم كيف بدأ هذا الأمر. الإبر الصينية، أو "الوخز بالإبر"، هي طريقة علاج تقليدية من الطب الصيني القديم، وتعتمد على إدخال إبر رفيعة في نقاط بعينها من جسم الإنسان عادة ما يُطلق عليها "نقاط الضغط". من وجهة نظر الثقافة الصينية القديمة فإن وخز تلك النقاط في جسم الإنسان يساعد على موازنة "تدفق الطاقة"، التي تعتقد الثقافة الصينية القديمة أنها تتدفق عبر مسارات هي عبارة عن خطوط طولية في جسم الإنسان.

 

غالبا ما يُنظر عالميا إلى العلاج بالإبر الصينية على أنه نوع من أنواع الطب التكميلي أو الطب البديل، وهو مصطلح يشير إلى منتجات أو ممارسات طبية لا تُعَدُّ جزءا من الرعاية الطبية القياسية، ولا تجد تدليلا كافيا من البحث العلمي على صحتها، وبالتبعية لا يمكن أن تجدها في أي كتاب طبي يُدرَّس للطلبة أو يستخدمه الأطباء لوصف أنواع العلاج المختلفة.

 

نتيجة لذلك، ومنذ انتشار تلك الظاهرة، يبذل العلماء والأطباء جهدا في إلقاء الضوء ليس فقط على مدى مناسبة الإبر الصينية علاجيا، ولكن كذلك على المخاطر التي تصاحب استخدام العلاج بالإبر الصينية عموما، والمضاعفات الوارد حدوثها حين يُمارَس هذا النوع من العلاج دون إشراف طبي محترف (4).

 

في معظم أنواع ما يُعرف بـ"الطب البديل"، عادة ما يستخدم المدافعون حجة أن استخدامه لا يرتبط بأي مخاطر أو مضاعفات (5)، حتى لو لم تكن فوائده مثبتة، لذا لا مانع من تجربة الأمر ولو على سبيل الفضول، لكن ذلك غير صحيح بالمرة. ففي حالة الإبر الصينية تحديدا، ربما يؤدي استخدامها بشكل خاطئ إلى مضاعفات يمكن أن تُسبِّب "تشوُّها وألما وتهديدا لحياة المريض"، وفقا لدراسة نُشرت في مجلة تابعة للجمعية الطبية الأميركية تحت عنوان "مضاعفات الوخز بالإبر" (Complications of Acupuncture). (6)

آفات الحبل الشوكي

في عام 1994 بمدينة أوساكا اليابانية، أُصيب رجل ياباني في العقد الخامس من عمره باحتباس في البول، نُقل على إثره إلى المستشفى متألِّما، واستقبله الأطباء محاولين معرفة سبب الاحتباس. ذكر لهم المريض أنه قد مرَّ أسبوعان على علاجه بالإبر الصينية، فأجرى له الأطباء أشعة سينية، حيث وجدوا واحدة من الإبر مكسورة ومغروسة في الحبل الشوكي.

 

أعاقت هذه الإبرة الشاردة المسار المسؤول عن الطرد المركزي للبول في جسم الإنسان، لكن المريض لم يكن يعاني من أي اضطرابات حسية، على عكس سبع حالات مرجعية أشارت إليها دراسة نُشرت عام 1994 في دورية تابعة لـ "ناشونال ليبراري أوف ميدسين" (national library of medicine) تعرضت أيضا للوخز الخاطئ للإبر الصينية أثناء العلاج وعانت من اضطرابات حسية واضحة مثل شلل إحدى المناطق في الجسم، خاصة عضلات الوجه والقدم، أو الشعور بالخدر في إحدى الساقين (7).

 

تتوافق نتائج هذه الدراسة مع دراسة حالة لامرأة في الخمسين من العمر، نُقلت إلى المستشفى بسبب تدلي الجفن الأيمن وضعف حسي في ساقها اليسرى، وعلم الأطباء أنها قد تلقت علاجا بالإبر الصينية لشفائها من ألم في كتفها، حين غرس لها المعالجون 30 إبرة في مناطق مثل عنق الرحم والكتف، وفي اليوم نفسه ليلا، ظهرت المضاعفات في جسمها وهاجمها الصداع والدوار وازدواج الرؤية والغثيان، وتطورت المضاعفات حتى نُقلت إلى المستشفى (8).

 

من أشهر مناطق الضغط في العلاج بالإبر الصينية هي نقاط تقع على طول العمود الفقري، ويُقاس عمق إدخال الإبر بالمليمترات، ولذلك يجب أن تكون نسبة الضغط دقيقة للغاية، وهذا يتطلب أن يكون ممارس الوخز بالإبر دارسا لتشريح الجسم البشري وعلى دراية كافية به. وبسبب تلك الدقة المطلوبة من المعالج التي عادة لا تتوفر في ممارسي المهنة، أصبحت "آفات الحبل الشوكي" من المضاعفات الشائعة المرتبطة بالعلاج بالإبر الصينية (9).

والآفة الشوكية هو مصطلح طبي يصف أي أنسجة موجودة على الحبل الشوكي لا تنتمي إلى تكوينه الأصلي، وقد تكون حميدة أي غير سرطانية، أو خبيثة أي سرطانية، وبسبب هذا المكان شديد الحساسية -الحبل الشوكي- الذي تظهر الآفة فيه فإنها تُسبِّب أعراضا عصبية مختلفة على اختلاف موقعها.

 

ومن أشهر أعراض الإصابة بالآفات الشوكية هو شعور المصاب بصعوبة في إتمام المهام الجسدية الدقيقة مثل الكتابة، والإصابة بتصلب العضلات أو ضعفها، والإحساس بالألم والخدر، وصعوبة في التنفس، وفقدان السيطرة على الأمعاء أو المثانة، والشلل، إضافة إلى حدوث مشكلات في القدرة الجنسية.

 

قد "تخنقك" حرفيا

في أكثر من دراسة حالة، أكدت أبحاث المتخصصين في هذا النطاق وجود علاقة بين "استرواح الصدر" والإبر الصينية بوصفه إحدى المضاعفات الخطيرة لهذا النوع من العلاج (10) (11). استرواح الصدر هو عرض رئوي يصف انخماص الرئة، وهو الانهيار الكلي أو الجزئي لإحدى الرئتين أو بعض الأجزاء منها، ويحدث عندما ينفد الأكسجين من الحويصلات الهوائية التي تتكوَّن منها الرئتان، ليشعر المصاب باسترواح الصدر أنه "يختنق" حرفيا.

 

يشعر المصاب بصعوبة التنفس، ويُصدِر صدره صفيرا واضحا للأذن، وقد تأتي مشكلات التنفس على هيئة سرعة في التنفس تكاد تخنق صاحبها أو ضعف في التنفس يؤدي إلى النتيجة نفسها، ويُصنَّف هذا المرض إلى نوعين هما الانخماص بسبب انسداد مجرى الهواء ويطلق عليه "الانسدادي"، والانخماص بسبب الضغط من الخارج على الرئة ويسمى بـ"غير الانسدادي"، وهو النوع الذي يحدث نتيجة العلاج بالإبر الصينية.

 

المشكلة الأكبر أن تلك المضاعفات تحدث بنِسَب أكبر من المرصودة، ولكن لم تُربَط بالعلاج بالوخز أو لم يُبلَّغ عنها من الأساس، لأن المرضى عادة لا يُبلِّغون عن تلك المشكلات أو لا يربطونها بالعلاج بالإبر الصينية، وهو ما قد يفسر عدم وجود دراسات حالة عربية تُذكر في هذا الشأن، فعلى الرغم من انتشار هذا النوع من العلاج في العالم العربي، فإن الدراسات البحثية الطبية التي ترصد مضاعفات هذا النوع من العلاج ومخاطره شحيحة للغاية.

فقدان الوزن.. والسمع أيضا!

من الاستخدامات الشائعة أيضا للإبر الصينية هو غرس الإبر في الأذن بغرض فقدان المريض للوزن والتحكم في شهيته أو مساعدته في الإقلاع عن التدخين. وفي دراسة (13) نُشرت في الثمانينيات ثم أعادت جامعة كامبريدج نشرها عام 2007 في إحدى دورياتها، أكَّد الباحثون وجود علاقة قوية بين العلاج بالإبر الصينية وإصابات الأذن التي تندرج تحت بند الالتهابات الخطيرة التي تؤثر سلبا على الجهاز السمعي للمتعالج بالإبر الصينية.

 

قد يتعرض المتعالج بالإبر الصينية في الأذن لمضاعفات مثل التهاب غضروف الأذن، المكوِّن الأساسي للأذن الخارجية. وتلك المنطقة -غضروف الأذن- هي المكان الذي تُغرس به الإبر الصينية للأغراض العلاجية السابق ذكرها، ولهذا يكون الالتهاب الغضروفي من مضاعفات الوخز بالإبر في تلك المنطقة، التي قد لا يتعافى منها المصاب تعافيا كليا.

 

والتهاب غضروف الأذن، أو كما يُطلق عليه أحيانا التهاب "سمحاق الغضروف"، هو التهاب يصيب جلد وأنسجة غضروف الأذن الخارجية، وهو مرض قد يكون مدمِّرا للجهاز السمعي إذا تُرك دون علاج.

 

وفي بعض الأحيان يُستخدم الوخز بالإبر في الأذن بوصفه مُكمِّلا للعمليات الجراحية وعلاجا للألم المصاحب لها، ولكن حتى في هذه الحالة، وتحت إشراف طبي، قد تحدث مضاعفات، وهو ما حدث بالفعل في بعض الحالات التي رصدتها دراسات طبية، إحدى تلك الحالات كانت لرجل مُسِن أجرى عملية جراحية في منطقة الورك عام 2006 في ألمانيا.

 

غُرست للرجل في أذنه أربع إبر صينية قبل الجراحة بغرض تخفيف الألم، ولكن ما حدث كان عكس ذلك، وأدرك الأطباء أن الإبر الصينية تسببت في حدوث نزيف في مكان الجراحة وإصابته بالتهاب غضروف الأذن، فسحب الأطباء الإبر من أذنه على الفور، واحتاج إلى ما يقرب من أسبوع ليتعافى جرحه وتعود معدلات تخثر الدم إلى طبيعتها.

 

أشارت تلك الدراسة إلى أن الحد الأدنى من الآفات الغضروفية -التهاب غضروف الأذن- قد يكون ضارا ومُسبِّبا لتشوه أذني غير قابل للشفاء، وقد يصل ذلك الالتهاب إلى الحد الذي يكون فيه "مهدِّدا للحياة"، لذلك يجب أن يتجنب مرضى السكري أو المصابون بأمراض صمام القلب على وجه الخصوص أيَّ علاج بالإبر الصينية خاصة في الأذن، نظرا لخطورتها على صحتهم، بحسب الدراسة (14).

هل لدينا الوعي الكافي لاستخدام الإبر الصينية؟

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بالطبع فإن الجلد هو العضو الأول الذي يستقبل الإبر الصينية التي تُغرس في جسم الإنسان بغرض العلاج، ولذلك كان له نصيب أيضا من المضاعفات والأضرار المترتبة على العلاج بالوخز (15).

 

الأمراض الجلدية الأكثر شيوعا بوصفها مضاعفات للعلاج بالإبر الصينية معظمها تكون مُعدية، مثل تقيح الجلد وظهور الخراريج، كما يمكن أن يتعرض المتعالج لردود الفعل التحسُّسية أو ظهور ندوب مكان وخز الإبر، وتستمر تلك الندوب في التضخم، وعادة تتطلب الأمراض الجلدية المرتبطة بالوخز بالإبر فترة علاج طويلة نسبيا قد تصل إلى ثلاثة أشهر.

 

في دراسة نُشرت في دورية تابعة لـ "ناشونال ليبراري أوف ميدسين" (national library of medicine) عام 2016، أكَّد الأطباء المؤلفون لها ضرورة تدريب وتمرين الممارسين لهذه المهنة خاصة في الشرق، بحيث يكون هناك وعي كافٍ بخطورة الأعراض الجانبية للعلاج بالإبر الصينية على جلد المتعالج.

 

تزداد المخاطر بوضوح مع استخدام هذا النوع من العلاج دون إشراف طبي سليم. في عام 2002، نُشرت دراسة عن انتشار فيروس التهاب الكبد (B) و(C) في المناطق الريفية في كوريا الجنوبية، وألقت الدراسة الضوء على الدور الذي لعبه العلاج بالإبر الصينية في ذلك (16). كما وضعت كندا العلاج بالإبر الصينية ضمن الأسباب المؤدية إلى الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي، بعد أن رصدت أكثر من حالة مصابة بالمرض بعد أن انتقل إليها خلال العلاج بالإبر الصينية (17).

 

يحذِّر الأطباء حول العالم من أن العدوى البكتيرية والتهاب الكبد (B) و(C) وحتى فيروس نقص المناعة قد ينتقلون إلى الإنسان خلال تلقيه علاجا بالإبر الصينية في حالة استخدام إبر ملوثة (18)، وأشار علماء الأحياء المجهرية في جامعة هونغ كونغ من قبل إلى أن عدد الإصابات بفيروس التهاب الكبد الوبائي التي رُصدت، والمتعلقة بالوخز بالإبر في أنحاء العالم، كانت مجرد قمة جبل جليدي.

 

منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي 2022، تستمر الدراسات التي توثق مخاطر ومضاعفات العلاج بالإبر الصينية، وخلال العام الجاري فقط رصدت دراسة حالة (19) أن المتعالج بالإبر الصينية قد يتعرض لاضطرابات في مسالك الجيوب الأنفية ربما يستمر علاجها إلى مدة تصل إلى ثلاثة أشهر، والسؤال هنا؛ مع انتشار تلك المخاطر والمضاعفات الناتجة عن العلاج بالإبر الصينية، لماذا لا تتوافر التوعية الكافية سواء الإعلامية أو الطبية في الوطن العربي رغم انتشار هذا النوع من العلاج في أكثر من بلد عربي؟

————————————————————————

المصادر

1. الإبر الصينية في سوريا
2. الإبر الصينية ..طبٌ بديل يترقب نتائجه أهل غزة
3. Integrative oncology research in the Middle East: weaving traditional and complementary medicine in supportive care
4. Complications of Acupuncture
5. Rare But Serious Complications of Acupuncture:
6. Complications of Acupuncture
7. [Spinal cord stab injury by acupuncture needle: a case report]
8. Cervical Spinal Cord Injury Caused By Acupuncture
9. Rare But Serious Complications of Acupuncture
10. Pneumothorax after acupuncture
11.  Is pneumothorax after acupuncture so uncommon?
12. #سارا_متضرره_في_كوريا
13. Auricular complication of acupuncture
14. Hemorrhage After Auricular Acupuncture due to Postoperative Dilutional Thrombocytopenia
15. Adverse events associated with acupuncture: a clinicopathologic review
16. Hepatitis B and C virus prevalence in a rural area of South Korea: the role of acupuncture
17. Hepatitis B virus infection associated with acupuncture
18. Acupuncture can spread serious diseases: experts
19.   An Electrical Burn Resulted from Acupuncture: treatment with V-Y flap combined with Negative pressure approach: A case study