شعار قسم ميدان

مصيدة الفقر.. لِمَ يتخذ الفقراء قرارات تبدو غبية؟!

مصيدة الفقر.. لِمَ يتخذ الفقراء قرارات تبدو غبية؟!

حسنا، لنلعب معا. الأمر بسيط، كل ما يحتاج إليه هو أن نرفع عُملة للسماء، إذا جاءت الصورة فسأحصل على مئتي دولار منك، أما إذا أتت الكتابة فستحصل على مئتي دولار منّي، إنها لعبة عادلة، لو افترضنا أنك لا تمتلك المال فسيحق لي أن أفعل ما أشاء، قد أحصل على حقيبتك، أو وجبة العشاء الخاصة بك، أو قد أُطالبك بملابسك، أو قد أتركك لتمضي رحمة منّي، أنت مَن قرَّر اللعب وهو لا يمتلك المال، أنا لم أرتكب أي جرم في حقك، أليس كذلك؟

في المسلسل الكوري "Squid game" الصادر عبر منصة "نتفليكس" في سبتمبر/أيلول 2021، يتقدَّم 465 شخصا للمشاركة في مسابقة غريبة جدا، تتضمَّن ست ألعاب، الفائز يمر للعبة التالية والخاسر يموت، هناك عدة قوانين للعبة، من ضمنها أن مَن يصل إلى النهاية يحصل على مبلغ هائل من المال، وإذا اتفقت الأغلبية على إيقاف اللعب فإن اللعبة تنتهي ويذهب كل شخص إلى منزله خاوي الوفاض.

يحدث ذلك بالفعل بعد الفزع الذي يُصيب الجميع على إثر اللعبة الأولى، لكن اختيار اللاعبين للمشاركة كان ذكيا، فهم ليسوا أي أشخاص، بل مجموعة ممَّن أثقلتهم الديون، حينما عادوا إلى حياتهم العادية وتعرَّضوا للضغط مرة أخرى، قرَّروا من جديد العودة للعب مع معرفة أنهم قد يموتون، بعض الألعاب تتضمَّن أن تتنافس مع غيرك، وبالتالي ستكون دائما مُخيَّرا بين أن تموت وأن يموت هذا الواقف أمامك، وهنا تظهر أحقر صفات الأنانية البشرية، ويتحوَّل لاعبونا إلى حيوانات تأكل بعضها بعضا، حتّى يبقى لاعب واحد أخير.

مشهد من مسلسل "Squid game"

هل الإنسان حقا ذئب أخيه، كما قال الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز قبل عدة قرون؟ هذا هو رأي صانعي اللعبة، إذا اعترضت عليهم لقالوا لك إنها لعبة عادلة، أنت لم تعد للعب مرة واحدة، بل عدت مرتين، وفي المرة الثانية كان واضحا أنك لكي تعبر إلى اللعبة القادمة فقد تضطر لقتل أخيك (زميلك)، أو على الأقل ستتركه يُقتل بدلا منك، وهو كذلك يعرف القواعد نفسها، لكنكما قرَّرتما الاستمرار ناحية الهاوية.

 

لعبة العدل

قد تتفق مع هذا الكلام، قد تتعاطف مع هؤلاء الذين يُقتلون بالأسفل، لكنَّ جانبا منك يقول إنهم يستحقون ما يحصلون عليه لأنهم -ببساطة- اختاروه، لكن الأمر أعمق من ذلك، تحديدا حينما نكون في عَوَز شديد، في تلك النقطة دعنا نتأمل ما يقوله دانيال كانيمان، عالِم النفس الحاصل على نوبل في الاقتصاد، في كتابه "التفكير بسرعة وببطء" عن نظامين يعمل بهما دماغنا، الأول هو ما نعرفه جميعا باسم "البديهة"، وهو نمط تفكير سريع، لا يحتاج إلى بذل جهد، يحدث آليا تماما، لكنه أكثر سذاجة، يميل لبناء قصص مقنعة وإن كانت غير عقلانية، أما الثاني فهو نظام تفكير بطيء، مُتحكَّم به، ويحتاج إلى بذل جهد عقلي، مثلا لو طلبت منك إيجاد حل للعملية الحسابية (6685 مقسومة على 5) فسوف يعمل النظام الثاني.

كتاب

هناك دائما فاصل واضح بين النظامين، وعادة ما يُشرِف الثاني على الأول، خاصة في الأمور التي تتطلَّب التركيز والتفكير، لكن في حالات الاضطراب تنهار قدرتنا على العمل بنظام التفكير البطيء، وتمسك البديهة بزمام الأمور ويتعامل الإنسان بصورة أكثر عشوائية، في تلك النقطة يُقدِّم كانيمان مثالا بتجربة الأرقام، إذا قرَّرت أن تشغل ذاكرة أحدهم بسبعة أرقام فسيضطر إلى حفظها وهو يفعل شيئا آخر، فإنه بحسب كانيمان، يصبح أقل لياقة في حديثه، أقل قدرة على احترام الصوابية السياسية، وأكثر أنانية.

هذا التغيُّر في سلوكنا مع الاضطراب يظهر بوضوح في حالات العَوَز المستمر، ولا مثال أوضح في حالتنا هذه من الفقراء، فخلال عقود طويلة مضت ظنَّت الأغلبية من الناس، ومن رجال السياسة أيضا، أن الفقر ليس إلا أسلوب حياة أو شخصية أناس اختاروا، دون أي عائق أو قيد، أن يصبحوا فقراء، وبالتالي بالنسبة للفقراء فإن اللعبة عادلة تماما، العمل متاح والحياة مفتوحة، لكنَّ كلًّا منهم فقط سيتخذ قرارا غبيا.

على سبيل المثال، ستجد أن الفقراء ينفقون الأموال التي حصلوا عليها للتو في شراء أشياء غير مُجدية، كهاتف ذكي أو وجبة غالية الثمن كان من الممكن تعويضها بأخرى رخيصة ومفيدة، قد تتعجَّب حينما تعطي أحدهم مبلغا من المال، وهو فقير جدا، لتجد أنه اشترى قميصا مرتفع الثمن أو تلفازا أو علبة سجائر، بينما كان من الممكن أن يدَّخره ويُقسِّمه على عدة أيام، هنا ستستاء مما فعل، وستقول إن ما حدث يُبرِّر أنه فقير من الأساس، فهو يُبدِّد ما يملك بلا حساب.

عقلية الندرة

سعت العديد من الدراسات لتفسير هذا السلوك، وبيان لماذا يتخذ الفقراء قرارات اقتصادية تبدو في ظاهرها غبية. في دراسة(1) نُشرت عام 2013 في مجلة "ساينس" المرموقة، وجد باحثون من عدة جامعات أميركية وكندية أنه بالنسبة للأفراد الواقعين تحت تأثير العَوَز، تحديدا مزارعي قصب السكر في الهند، فإن عَوَزهم ينتج عنه إجهاد معرفي يعادل عجزا بمقدار 13 نقطة في معدل الذكاء، يشبه الأمر أن تمتنع عن النوم ليلة كاملة ثم في الصباح يُطلب إليك أن تتخذ بعض القرارات المهمة، بالطبع ستكون غير قادر على اتخاذ قراراتك بشكل طبيعي.

كتاب

يمكننا تسمية هذه الظاهرة بـ "عقلية الندرة"، كما وصفها إلدار شافير، أحد باحثي الدراسة السابقة في كتابه "الندرة.. لماذا يعني امتلاك القليل كثيرا؟" (Scarcity: Why Having Too Little Means So Much). تخيَّل أنك تمتلك حاسوبا بقدرة مُحدَّدة على المعالجة، حينما ينشغل الحاسوب بعدد من العمليات المعقدة والثقيلة في الخلفية فإنه يمتلك حيزا ضئيلا لممارسة العمليات الأخرى، وبالتالي لا يؤدي أداء جيدا فيها، من جانب آخر فإن قدراته على المعالجة تضعف مع الوقت، الأمر كذلك بالنسبة لعقولنا، حيث يؤدي العَوَز إلى هدر القوة العقلية، وبالتبعية يمكن أن يؤدي الحرمان إذا استمر لزمن طويل إلى عجز إدراكي مستمر ويُعزِّز متوالية من الأفعال السلبية التي يقوم بها الشخص حتّى يصل إلى مرحلة العجز المُكتسَب، أي إنه سيرى أن كل قرار سيتخذه سيبوء بالفشل، فلا حاجة إلى الاستمرار.

في إحدى تجارب شافير ورفاقه كانت العُملة هي الوقت(2)، لعب المشاركون -وهم طلاب جامعة برينستون الأميركية- في التجارب على الحاسوب، ثم عشوائيا عُيِّنوا ليكونوا أغنياء أو فقراء في مقدار الوقت الذي كان عليهم فيه الإجابة عن الأسئلة الخاصة باللعبة، أُعطي الأغنياء 50 ثانية في كل جولة والفقراء 15 ثانية، ثم مُنح نصف المشاركين من المجموعتين خيار اقتراض الوقت، لكن كل ثانية استعاروها ستُكلِّفتهم ثانيتين من مجموع الوقت المتاح لديهم للعبة بأكملها.

هنا ظهر أنه عندما كان الناس أغنياء في الوقت كانوا حكماء للغاية، احتاجوا إليه أقل وأخذوا قرضا من حين إلى آخر فقط، ولكن فقراء الوقت المسموح لهم بالاقتراض أخذوا القروض المتاحة كلها بشكل خاطئ وانتهى بهم الأمر بجني أقل من هؤلاء الذين لم يُسمح لهم بالاقتراض، في العالم الواقعي يظهر ذلك في حالة القبول بالقرض في حالة العَوَز، تلك القروض عالية الفائدة تبدو في الوقت الحالي حلا جيدا، ولكن بعد أسبوعين أو شهر تجعلك مَدينا بفوائد عالية.

في هذه الحالة، مرة أخرى، سيقول المُقرِض لك إنه خطؤك، لقد كانت اللعبة عادلة منذ البداية، طلب إليك أن تحصل على 1000 دولار وتردها 1200 وقد قبلت، والآن لا تمتلك المال لتدفع، سيحصل المُقرِض في هذه الحالة على عرض أفضل، حيث سيستغل حاجتك ويعرض اختيارا جديدا، أو قل "لعبة جديدة"، لكن العَوَز في هذه الحالة يشغلك فلا ترى إلا النقود المعروضة، لتنخرط مجددا في اللعبة غير منتبه لما يُخطِّط له المُقرِض.

مصيدة الفقر

الفقر

الندرة، ببساطة، تُغيِّر الطريقة التي يحكم بها الناس على القيمة، تُخفِّض قدراتهم الإدراكية وبالتالي يمكن أن ينخرطوا في سلوك ضار، يزيد الأمر سوءا ما نُسميه بـ "مصيدة الفقر"(3)، لنفترض مثلا أن "بثينة" هي أمٌّ لخمسة أطفال، تُربِّي الدجاج لأجل دفع مصاريف المدارس، لكن النقود التي تخرج من تربية الدجاج تكفي فقط لدفع مصاريف المدارس، وحينما يحدث أن يمرض أيٌّ من الأطفال أو يُصاب الدجاج بمرض ما أو يتحطم زجاج البيت أو أي سبب آخر، فإن بثينة ستضطر لبيع الدجاجات والعودة إلى نقطة العَوَز.

بثينة هنا هي نموذج لمواطن في دولة نامية لا يتمكَّن من أن يخرج من مصيدة الفقر لأسباب خاصة به وبالدولة التي لا تدعمه صحيا أو اجتماعيا، وكلما حاول هذا المواطن أن يخرج من تلك المصيدة حدث شيء ما يهدم بيت الورق الذي كان قد بناه، وعاد للفقر مرة أخرى، يعني ذلك أنه مُحاصَر بالعَوَز، ونتائج العَوَز، فتجده يُدخِّن بمعدلات أكبر، ويستهلك الطعام غير الصحي أكثر، ويتخذ قرارات أسوأ بشأن تعليم أطفاله، ويستمر الورق في الانهيار.

هل يعني ذلك أن سيونج جي هان، ورفاقه في اللعبة، كانوا مُصيبين حينما اشتركوا فيها؟ أو أنهم ضحايا لا أكثر؟ بالطبع لا، والمشكلة هنا ليست تحديدا في سلوك جي هان، فهو في النهاية مُقامِر عرَّض أسرته للخطر وربما يتطلَّب الأمر تدخُّلا علاجيا، لكن المشكلة في الطرف الآخر باللعبة، وهو صانعها الذي يتصوَّر أنه يبني لعبة عادلة، فقط لأنه يربح منها.

عادل حسب الطلب

بالطبع فإن "Squid game" مُحرَّمة قانونا، لكن ماذا عن الألعاب الأخرى التي تُستغل فيها حالة العَوَز لإجبار الناس على العمل بأجر أقل لمجرد أنهم فقراء!
بالطبع فإن "Squid game" مُحرَّمة قانونا، لكن ماذا عن الألعاب الأخرى التي تُستغل فيها حالة العَوَز لإجبار الناس على العمل بأجر أقل لمجرد أنهم فقراء! (مواقع التواصل)

قبل عدة أعوام، قرَّر ماريو مولينا وموريسيو بوكا، طلاب الدكتوراه بجامعة نيويورك، تصميم لعبة واستخدامها لفحص رؤية الناس لأفكار مثل العدالة أو الاستحقاق أو الجدارة، ضمن تجربة نُشرت النتائج الخاصة بها في دورية "ساينس أدفانسس" (Science advances) الشهيرة.(4) تدور التجربة حول لعبة ورق (كوتشينة) معروفة تُوزَّع خلالها الأوراق على اللاعبين، لكن في أثناء اللعب يضع الباحثون قواعد لتمييز أحد الطرفين على الآخر، ثم يتلاعبون في نتائج اللعبة بحيث يمكن أن تكون قواعد اللعبة منحازة لصالحك لكنك تخسر في بعض الحالات، أو تكون منحازة لصالحك وتربح في الأخرى.

بعد ظهور النتيجة يُسأل كلٌّ من الطرفين عن سبب فوزه أو هزيمته، هنا تظهر النتائج لتقول إن الفائز سيُرجِع سبب فوزه للمهارة حتّى وإن كانت قواعد اللعبة منحازه له بوضوح، أما الخاسر فسوف يقول إن قواعد اللعبة كانت ظالمة حتّى لو كانت منحازة له بوضوح ثم خسر عشوائيا، الفكرة إذن أن كون اللعبة عادلة ليس حقيقة هنا، بل هو فقط رأي أحد الطرفين.

بمد الخطوط على استقامتها، وتأمُّل موقف كلا الطرفين، ستجد أن الحل ربما يكمُن في القانون، إذا كانت هناك قوانين تمنع استغلال الناس بهذا الشكل، فإن لعبة كتلك لن توجد من الأساس، بالطبع فإن "Squid game" مُحرَّمة قانونا، حتى في المسلسل نفسه، لكن ماذا عن الألعاب الأخرى التي تُستغل فيها حالة العَوَز لإجبار الناس على العمل بأجر أقل لمجرد أنهم فقراء، أو تعدي حدود العمل لمهام إضافية صعبة، أو قبول الإهانة، أو الوقوع تحت أَسْر مَن يمتلك المال بأي شكل؟ هل هناك في هذا العالم ما يكفي من القانون لضبط مثل هذه الألعاب؟

_______________________________________

المصادر

  1. The Science of Scarcity
  2. The psychology of scarcity
  3. اقتصاد الفقراء – أبهجيت بانيرجي واستر دوفلو
  4. It’s not just how the game is played, it’s whether you win or lose
المصدر : الجزيرة