من حرائق تركيا وفيضانات الصين وألمانيا إلى موجات الحر العربية.. ما الذي يحدث للعالم؟!

خلال الأيام الأولى لشهر أغسطس/آب الحالي، التهمت حرائق(1) الغابات قرابة 250 ألف فدان على طول السواحل التركية على البحر المتوسط وبحر إيجة، في كارثة هي الأسوأ منذ عقود، حتى إنه كان من الممكن أن ترى الدخان، من شدة الحرائق، في مدن واقعة على مسافة عشرات الكيلومترات. تسبَّب الأمر في نحو عشر حالات وفاة إلى الآن، مع مئات الإصابات، واضطراب في نطاق السياحة.

هذه ليست المرة الأولى، خلال السنوات القليلة الماضية، التي تواجه فيها دولة ما حرائق غير مسبوقة بمعدلات هائلة، أشهر الأمثلة كان لا شك حرائق ولاية كاليفورنيا(2) الأميركية عام 2018 التي التهمت قرابة مليونَيْ فدان، بعدها بعام كانت حرائق الأمازون(3) التي التهمت المساحة نفسها تقريبا، بينما التهمت حرائق غابات أستراليا(4) في العام نفسه نحو 12 مليون فدان، ما جعلها مركز اهتمام إخباري عالمي لأسابيع طويلة.

هل كل تلك الحرائق لها علاقة بالتغير المناخي؟ إنه لا شك سؤال مهم، وهو يدور بالتأكيد في بالك وبال الملايين معك حول العالم، لكن الأمر لا يتعلَّق فقط بحرائق الغابات، فخلال الأسابيع القليلة الماضية ضربت فيضانات غير مسبوقة كلًّا من الصين وألمانيا وبلجيكا، في الصين فقط لقي أكثر من 300 شخص حتفهم، إلى جانب ذلك فإن العالم كله، وخاصة منطقتنا العربية، يتعرَّض لموجات حارة هي لا شك واحدة من الأعنف في تاريخ القياس كله، لم نعتد هذا من قبل، وبالتالي فإننا نلجأ للتساؤل: "ما الذي يحدث هنا؟!".

يتصاعد الدخان من حرائق الأمازون المطيرة – البرازيل

حسنا، لا توجد إجابات مؤكَّدة بالطبع، لا يمكن لنا بسهولة إيجاد رابط سببي مباشر بين حوادث بعينها والتغير المناخي، لكننا يمكن أن نُعدِّد مجموعة مهمة من النقاط التي تؤيد تلك الفرضية، أول شيء هو -لا شك- موجة الحر الشديد التي تعرَّضت(5) لها تركيا وبقية الدول الأوروبية خلال الأسابيع القليلة الفائتة، حيث تجاوزت درجات الحرارة في معظم البلاد حاجز الأربعين مئوية، وبنظرة سريعة على متوسطات درجات الحرارة في الأراضي الأوروبية عموما خلال السنوات الماضية ستجد أن العقد الأخير كان الأكثر حرارة بسبب التغير المناخي، ومع الحرارة يأتي الجفاف بالطبع.

مع الجفاف، تُخزِّن الأشجار كمية أقل من الماء، وتنمو ببطء وتُطلِق كمًّا أقل من بخار الماء إلى الجو، يؤدي ذلك إلى المزيد من تساقط الأوراق الجافة بها وموت الأشجار سريعا، ما يوفر بيئة مناسبة لانتشار الحرائق، خاصة أن الحرائق تنتشر بصورة أكبر في غياب بخار الماء في الأجواء المحيطة بها، الذي يعمل بالأساس على إخمادها حال بدأت، لهذا السبب -وبالنظر إلى أن آثار التغير المناخي تتزايد بصورة غير مسبوقة- فإن هناك توقعات أن ترتفع معدلات حرائق الغابات خلال العقود القادمة.

طبقا لورقة بحثية(6) صدرت قبل عام واحد بالدورية واسعة الشهرة "نيتشر"، فإن حرائق الغابات المطيرة في الأمازون -على سبيل المثال- ليست حدثا طبيعيا ولكنها اتحاد بين عنصرين؛ الأول هو الجفاف الشديد، الذي يتزايد يوما بعد يوم بسبب التغير المناخي، والثاني هو الأنشطة البشرية التي تؤثر بالسلب على طبيعة تلك الغابات.

الآن دعنا نتأمل حرائق غابات كاليفورنيا عام 2018. منذ الثمانينيات من القرن الفائت اتجه(7) حجم وشدة الحرائق التي تجتاح الولاية الأميركية إلى الأعلى بلا توقف، خمسة عشر من أكبر عشرين حريقا في تاريخ كاليفورنيا حدثت منذ عام 2000. ومنذ سبعينيات القرن العشرين ازدادت مساحة المنطقة المحروقة في الولاية خمسة أضعاف، في مقابل ذلك ارتفعت متوسطات درجة الحرارة في الولاية خلال الفترة نفسها ارتفاعا ملحوظا.

الأمر نفسه ينطبق على الظواهر المناخية الأخرى، في أوروبا على سبيل المثال، ترى دراسة نُشرت في شهر يونيو/حزيران الماضي(8) أن من المرجَّح أن يؤدي تغير المناخ إلى زيادة عدد العواصف الكبيرة، بطيئة الحركة، التي يمكن أن تستمر لفترة طويلة في منطقة واحدة، وتؤدي بالتبعية إلى حدوث فيضانات من النوع الذي شوهد في ألمانيا وبلجيكا خلال الشهر الماضي.

أضف إلى ذلك أن مع ارتفاع درجة الحرارة في الغلاف الجوي فإنه يحتفظ أيضا بمزيد من الرطوبة، مما يعني المزيد من الأمطار، وبالنظر إلى المستقبل، فإن من المتوقَّع أن تزداد أحداث هطول الأمطار الغزيرة بنسبة 50%(9) مع استمرار ارتفاع درجة الحرارة خلال القرن الحالي. بالطبع فإن غزارة الأمطار لا تؤدي تلقائيا إلى حدوث فيضانات، ولكنها تزيد من احتمالية حدوثها، ولكن حتى الكميات المتوسطة من الأمطار يمكن أن تُسبِّب أضرارا جسيمة في المناطق الحضرية.

يُعيد التغير المناخي تشكيل منظومة الأمطار في العالم كله، فتجد أن بعض المناطق ستتلقى كميات أمطار زائدة بصورة متطرفة في شكل موجات مطر قاسية، وقد تظن -للوهلة الأولى- أن ذلك قد يكون مفيدا للمناطق التي يحدث فيها، لكنه ليس كذلك، دعنا في تلك النقطة نتأمل اليمن، الذي قد يتعرَّض، بسبب موقعه الجغرافي، للمزيد من الأمطار نتيجة لارتفاع متوسط حرارة الكوكب. لكن تلك التطرُّفات المطيرة تتسبَّب في عواصف شديدة وسيول وفيضانات(10)، على سبيل المثال: عام 2008، تسبَّبت هذه الظواهر في خسائر قُدِّرت بنحو مليارَيْ دولار، أي ما يعادل نحو 6% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد وقتها.

كل هذا ولم نتحدَّث بعد عن تأثيرات موجات الجفاف الشديد، بسبب الاحترار العالمي، على التربة أيضا، حيث يُقلِّل الجفاف من قدرة الأرض على تحمُّل الماء وامتصاصه، ما قد يتسبَّب في جريانه بسرعة أكبر وارتفاع شدة الفيضان.

أما عن الموجات الحارة، فإنها تتبع النمط نفسه، لفهم الفكرة دعنا نتأمل دراسة نُشرت قبل نحو عامين في دورية(11) "ساينز أدفانسز" (Science Advances)، تربط بين الارتفاع السريع بمقدار 0.5 درجة مئوية في متوسط درجات الحرارة بالهند خلال الفترة بين 1960-2009 وارتفاع معدلات ضرب الموجات الحارة لها بمقدار 25-50% مقارنة بالأعوام الخمسة والعشرين السابقة لتلك الفترة. بالنسبة للوطن العربي، فإن هذا للأسف هو ما يحدث بالفعل، ويمكن أن تُراجع تقريرا سابقا للكاتب بعنوان: "هل تشعر أن الطقس مشتعل هذا الأسبوع؟ هذه هي البداية فقط"(12) لمزيد من التفصيل.

عاصفة رملية تضرب سوريا 2015

تخيَّل المنظومة البيئية والمناخية كشبكة ضخمة مربوطة بعناية شديدة عبر أسلاك أو أوتار مطاطية رفيعة، التي بدورها ترتبط بأوتار أرفع مع حياتنا اليومية نحن البشر، إذا ضربت على وتر واحد من بينها فإن كل الشبكة تهتز، وهو أمر ليس في صالحنا دائما، لفهم الأمر دعنا نسافر إلى سبتمبر/أيلول عام 2015 حينما ضربت عاصفة رملية شديدة منطقة الشرق الأوسط وصفها الجميع بأنها استثنائية، تسبَّبت العاصفة بحالات وفاة وإيقاف الحياة العامة في عدد من المناطق.

في تلك الأثناء عكف فريق بحثي من جامعة برينستون(13) على دراسة تلك العاصفة، لتكشف النتائج أن التغير المناخي، مع عوامل أخرى، كان سببا رئيسيا في تلك المفاجأة المناخية القاسية، فحالات الجفاف التي شملت مناطق عدة في الوطن العربي -خاصة أن صيف هذا العام كان حارا بصورة غير مسبوقة- رفع من كمية الغبار المتاحة وتسبَّب في طرد كميات أكبر منه إلى الغلاف الجوي. لا عجب إذن أن السنوات الـ15 الماضية شهدت ارتفاعا في معدلات العواصف الرملية في منطقة الشرق الأوسط بوضوح.

أما في عام 2018، فقد اشترت مصر الأرز من منطقة البحر الأسود وأوروبا بأعلى سعر منذ ثلاث سنوات (235.65 دولارا للطن)، وتلك ليست المرة الأولى، فخلال السنوات العشرين السابقة ارتفعت أسعار الغلال ارتفاعا واضحا، والسبب هو الجفاف الذي يضرب المناطق التي تبيع الأرز، ما يُقلِّل الإنتاجية فيزيد الطلب ويرتفع السعر.

كي يتغذَّى، كان الإنسان قديما في حاجة إلى نفسه وعائلته فقط، يزرعون الطعام أو يبحثون عنه فوق الشجر، أما الآن فنحن لا نعتمد في غذائنا على محيطنا الخاص، بل على دول أخرى قد تتعرَّض لمشكلات التغير المناخي فتؤثر في مستقبلنا وأمننا الغذائي والقومي.

ليس ذلك فحسب، بل إن مدن العالم الكبرى باتت تعتمد على نظم إنتاج واستيراد يومية(14) (Just In Time) تتطلَّب تخطيطا سابقا غاية في الدقة بحيث لا تحدث مشكلات، بالتالي فإن ارتفاع وتيرة المشكلات المناخية -كالفيضانات مثلا أو الموجات الحارة- في دولة كبنغلاديش، ولو لمدة يوم أو اثنين، قد يؤثر على أنظمة الإمداد تلك. تذكَّر ما أكَّدناه قبل قليل: العالم كله شبكة واحدة، ما إن يتأثر أحد أجزائها حتّى يتأثر الآخر، على كل الأصعدة، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، أنت فقط لا تلاحظ ذلك.

يموت وحيد قرن مسكين في كينيا، ترتفع الحرارة فيسقط أحد عُمّال البناء مغشيا عليه في إحدى القرى السورية، يهرب مجموعة من المراهقين العراقيين من القرية لمدينة البصرة لأن الجفاف حل على الأنهار ودمَّر حياتهم، يختنق رجل سبعيني العمر في مدينة تركية بسبب الدخان الشديد، يبيع الناس في ولاية كاليفورنيا مساكنهم بأسعار أقل لأن مستوى الماء يرتفع، يشتري الناس في مدينة راجشاهي البنغالية الطعام بسعر أكبر من المعتاد لأن المناخ يؤثر على كمِّ الإنتاج الزراعي، رف الفواكه خالٍ في مدينة خليجية لأن حركة الاستيراد متوقِّفة منذ أيام بسبب عاصفة جديدة غير مسبوقة، كل شيء مرتبط، كلنا -نحن البشر- نواجه شيئا جديدا تماما، نتعرَّف إليه يوما بعد يوم مع تلك الأحداث الاستثنائية ونطرح أسئلة من نوعية "ما الذي يحدث هنا؟" ونحن في دهشة وعجب، إنه التغير المناخي وقد حضر.

______________________________________________

مصادر:

  1. حرائق تركيا: ثمانية قتلى والنيران تلتهم غابات ومنتجعات سياحية
  2. 2018 Fire Season
  3. ?When will the Amazon hit a tipping point
  4. 2019-2020 Australian Bushfires
  5. Brutal heatwave scorches southern Europe as continent’s summer of extreme weather rages on
  6. 21st Century drought-related fires counteract the decline of Amazon deforestation carbon emissions
  7. Climate change is contributing to California’s fires
  8. Quasi-Stationary Intense Rainstorms Spread Across Europe Under Climate Change
  9. Flooding and Climate Change: Everything You Need to Know
  10. Climate change and floods in Yemen
  11. Increasing probability of mortality during Indian heat waves
  12. هل تشعر أن الطقس مشتعل هذا الأسبوع؟ هذه هي البداية فقط
  13. Giant Middle East dust storm caused by a changing climate, not human conflict
  14. How Climate Change is Messing with Your Supply Chain
المصدر : الجزيرة

إعلان