شعار قسم ميدان

الدين والتغير المناخي.. هل يغير شيخ الأزهر أحمد الطيب سير المعركة؟

أثار منشور حديث لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، يُحذِّر فيه من مخاطر التغيُّر المناخي ويؤكِّد ضرورة التحرُّك الجاد والحازم لمكافحة هذه المخاطر، انتباها واسعا على وسائل التواصل الاجتماعي العربية، يأتي ذلك في سياق(1) تلقِّي الإمام الأكبر، قبل عدة أسابيع، دعوة رسمية لحضور قمة قادة الأديان حول التغيُّر المناخي، التي ستنعقد بالعاصمة الإيطالية روما وتديرها بريطانيا، في أكتوبر/تشرين الأول القادم بحضور شخصيات دينية وسياسية بارزة من مختلف أنحاء العالم.

من النادر جدا أن نرى رجل دين يتحدَّث عن التغيُّر المناخي، ليس في المنطقة العربية فقط ولكن عالميا أيضا، بل كان ظهور الفيلم الحاصل على الجوائز "فيرست ريفورميد"(2) (First Reformed) عام 2017 صدمة بالنسبة للمتفرجين والنقاد على حدٍّ سواء، لأن أحدا منهم لم يعتد أن يتحدَّث رجل دين عن التغيُّر المناخي، الذي عادة ما يُعَدُّ قضية للعلماء أو السياسيين، في الفيلم يلعب إيثان هوك دور رجل دين بروتستانتي يُقرِّر الانقلاب بعنف على التيار السائد، وتناول قضية إفساد الإنسان في الأرض وانتقاد السكوت السياسي غير المفهوم عن معالجة مشكلة التغيُّر المناخي بغرض الوصول إلى حلول لتلك الكارثة.

في الفيلم يظهر، بصورة أو بأخرى، سؤال أساسي يُشير إليه الشيخ الطيب أيضا في سياق منشوره: هل سيُسامحنا الله لأننا أتلفنا الطبيعة التي خلقها؟ ويُعَدُّ مجرد طرح هذا التساؤل تغيُّرا مهما جدا في شكل العلاقة بين الدين وقضايا التغيُّر المناخي، في المقابل، يمكنك أن تجد في تعليقات المتابعين على منشور الإمام الأكبر سؤالا آخر مختلفا: هل ما يحدث من تغيُّر في الطبيعة هو غضب من الله لأننا كنا آثمين؟

من الواضح أن هناك مسافة بين ذلك السؤال اللاهوتي للمتابعين في التعليقات وبين ما عناه الإمام الأكبر في منشوره. ففي كلامه، لم يُشر الشيخ الطيب إلى كون التغيُّر المناخي عقابا من الله بقدر ما أظهر تصوُّرا واضحا عن حاجتنا إلى إيجاد حلول، واعترافا بدور البشر في إحداث التغيُّر المناخي يتفق مع الإجماع العلمي في هذا النطاق، حيث يقر أكثر(3) من 90% من العلماء أن النشاط البشري، عبر نفث الصناعة لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، يتسبَّب بالدرجة الأولى في احترار مناخ الأرض.

لم يستخدم الشيخ الطيب ألفاظا "ذات طابع لاهوتي" في هذا السياق، لذا يبدو التحوُّل الذي يحمله خطابه واضحا، ويمكن مقارنته بردود المتابعين الذين يتبنُّون وجهة نظر ظلَّت منتشرة لعقود تجاه التغيُّر المناخي، مفادها أن هذا التغيُّر "عقاب من الله لعباده العاصين ليعودوا إلى الطاعة، وابتلاء للملتزمين بأوامره ليختبر إيمانهم وصبرهم على المصائب والبلايا"، من هذه الجهة عادة ما تُستخدم آيات من القرآن الكريم مثل "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ" في إشارة مباشرة إلى أن ما يحدث هو اختبار من الله.

الجدير بالذكر أن هذا التحوُّل في موقف رجال الدين بات مشهودا شيئا فشيئا خلال العقد الماضي، يظهر ذلك جوهريا في الخطاب الذي يتبنَّاه البابا فرنسيس(4) مؤخرا على سبيل المثال، وهو بابا الكنيسة الكاثوليكية بالترتيب السادس والستين بعد المئتين، الذي أعلن حالة الطوارئ المناخية في 2018 قائلا: "الكثير منا يتصرَّف مثل الطغاة فيما يتعلَّق بالخليقة"، وأضاف في سياق آخر: "ما يحدث هو عمل وحشي ظالم للأجيال الفقيرة والمستقبلية، لا ينبغي أن يتحمَّل أطفالنا وأحفادنا تكلفة عدم مسؤولية جيلنا".

الغالبية العظمى من سكان هذا العالم مؤمنون، وبسبب عمق المعتقد الديني وقوته فإن موقفك من التغيُّر المناخي قد يكون متأثرا بوجهة نظرك الدينية، على سبيل المثال، ترى بعض الأعمال البحثية(5) في هذا النطاق أن الإيمان باقتراب نهاية العالم (وقدوم المُخلِّص) يتفق مع إنكار، أو إهمال، التغيُّر المناخي، على طريقة "دعها تحترق لأن تلك هي ملامح النهاية".

في دراسة نُشرت بدورية "ساينس"(6) المرموقة، أشار أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا الأميركية إلى أن بعض التوجُّهات الدينية المسيحية تُقوِّض سُبل الحفاظ على الطبيعة من خلال الدعوة إلى أخلاقيات "الهيمنة على الطبيعة"، المفهوم المذكور نصا في الكتاب المقدس.

من تلك الوجهة فإن إرادة الله تقتضي "أن يستغل الإنسان الطبيعة لتحقيق غاياته الصحيحة"، واستغلال الإنسان للطبيعة هنا يتمظهر -على سبيل المثال- في التخلُّص من الغابات مثلا لصالح زراعة بعض المحاصيل، أو دفع بعض أنواع الحيوانات ناحية الانقراض في سبيل الاستفادة بجلودها أو لحومها، أو استخراج الوقود واستخدامه بأية طريقة مناسبة، كل ذلك -بمد خطوطه على استقامتها- يسهم في الضغط الشديد على المنظومة البيئية على كوكب الأرض.

لكن على الجانب الآخر، ترى دراسة(7) من مدرسة كولومبيا للمناخ أن الدول التي يكون سكانها أقل تديُّنا تميل إلى استهلاك المزيد من الموارد وإنتاج المزيد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ولكنهم مع ذلك أكثر استعدادا للتعامل مع التحديات البيئية الناتجة لأنهم أكثر ثراء. أما الدول التي يكون سكانها أكثر تديُّنا فتميل إلى استهلاك موارد أقل، وبالتالي نفث أقل لثاني أكسيد الكربون. ومع ذلك، فإن قدرتها على مواجهة التحديات البيئية تكون أقل، فيما يكون سكانها أكثر عُرضة للنتائج السلبية المُتعلِّقة بالتغيُّر المناخي، ويرجع ذلك جزئيا إلى ارتفاع مستويات الفقر والنمو السكاني المستمر.

عموما، فإن العلاقة بين تديُّن الإنسان وموقفه من التغيُّر المناخي معقدة جدا ولا تُشير إلى اتجاه واحد يقول إن التيار المتدين أو المُحافظ دينيا يميل لأن يكون مُنكِرا، أو غير مهتم، بقضايا التغيُّر المناخي، لعدة أسباب منها تنوُّع الديانات تنوُّعا كبيرا، حتّى إنك ستجد داخل الديانة نفسها تيارات متضادة في قضايا التغيُّر المناخي، ومنها كذلك الطبيعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة، التي تؤثر على موقف سكانها من تغيُّر المناخ ومواقفهم الدينية على حدٍّ سواء.

على الجانب الآخر، من المؤكَّد أن المواقف الأخيرة التي يتخذها كبار رجال الدين تجاه التغيُّر المناخي تؤثر بشدة في موقف الجمهور العام تجاه هذه القضايا، الأمر الذي يدعم معركة التغيُّر المناخي سياسيا، أنت تسمع كثيرا عن التغيُّر المناخي هذه الأيام، أصبحت تعرف أنه يحدث بالفعل وأن لنا دورا فيه، لكن الأمر لم يكن هكذا قبل عدة عقود، فما إن بدأ العلماء في إثارة المشكلات المُتعلِّقة بالتغيُّرات المناخية، قبل ثلاثة أرباع قرن، حتّى انهالت رؤوس الأموال من شركات الطاقة في الجهة المقابلة، تلك الشركات المسؤولة عن نفث ثاني أكسيد الكربون بالغلاف الجوي.

لذلك، فإنه يمكن لأي شخص ملاحظة وجود انفصال مذهل بين ما هو ضروري لتجنُّب تغيُّر المناخ الخطير جدا، وبين ما فُعِلَ على مستوى العالم حتى الآن، وبحسب دراسة صدرت في دورية "نيتشر"(8) في مايو/أيار 2019، فإن سبب ذلك هو الضغط السياسي الشديد من أجل منع اتخاذ قرارات بيئية حاسمة في هذا الشأن.

في الواقع، يمكن تقدير حجم الإنفاق من أجل الضغط السياسي على المبادرات المناخية خلال العقدين الماضيين بنحو مليارَيْ دولار، وكانت دراسة أجرتها جامعة دريكسيل(9) قد توصَّلت، في عام 2013، إلى أن شريحة كبيرة من التبرعات للمنظمات التي تُنكِر الاحترار العالمي تُمرَّر من خلال شركات تُخفي المُموِّل الأصلي، وفي أثناء ذلك كله لم نرَ إلى الآن تحرُّكات واضحة من أجل الحد من آثار الاحترار العالمي، فقط جدل هنا هناك، والمزيد من الصراعات السياسية بين الفريقين.

هذا هو ما دفع جيمس هانسن(10) (James Hansen)، الفيزيائي السابق من وكالة ناسا وصاحب اللقب الشهير "أبو التوعية بالتغيُّر المناخي"، للتصريح قبل سنوات قليلة بأنه لا حل مباشر لهذه الكارثة إلا بمقاضاة الشركات الكبرى المسؤولة عن بث ثاني أكسيد الكربون في غلافنا الجوي، حيث -صدِّق أو لا تُصدِّق- إن هناك مئة(11) شركة فقط في العالم هي المسؤولة عن بث 71% من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.

في هذه النقطة يمكن للدين، بكل أطيافه حول العالم، والدين الإسلامي خاصة، أن يُعيد تشكيل وجه القضية تماما(12)، عبر تشجيع الاستجابة الاجتماعية لقضايا تغيُّر المناخ من خلال التأثير على وجهات نظر المؤمنين حول العالم. في هذا السياق، أظهرت دراسة أُجريت عام 2013 في إندونيسيا(13) أن دمج رسائل الحفاظ على البيئة في الخطب الإسلامية المقدَّمة للجمهور زاد من الوعي العام ومستويات القلق تجاه الطبيعة، ومنذ ذلك الحين توالت الفتاوى التي تتحدَّث عن هذا الأمر.

على جانب آخر، تتمتع المؤسسات الدينية بموارد اقتصادية كبيرة تحت تصرُّفها يمكن أن تسهم في دعم هذه القضايا. كذلك فإن الأديان قادرة على إشراك جمهور عريض في قضايا التغيُّر المناخي، كثير منهم يحترمون ويُصدِّقون رجال الدين، يمكن لذلك أن يكون أكثر وضوحا في الوطن العربي، فلو تحدَّث عالم أو سياسي ما عن قضايا التغيُّر المناخي فإن تصديق الناس له غير مُحتمَل، لكن مشاركة كبار رجال الدين، والمؤسسات الدينية، قد تؤثِّر في إثارة انتباه الجمهور.

نعيش اليوم في عالم يواجه مشكلة كارثية مع المناخ، تتفاقم يوما بعد يوم، والأسوأ من ذلك أننا لا نتمكَّن بسهولة من توقُّع المستقبل، لكن المؤشرات الأولية غير مُبشِّرة بالمرة، في هذا السياق يترك قادة الدول ورجال السياسة العلم جانبا وينخرطون في خلافات حول المصالح السياسية والاقتصادية، وتؤجِّج هذه الخلافات شركات عملاقة تتحكَّم في جزء ليس بالقليل من الاقتصاد العالمي، وفي ظروف كتلك، يبقى السؤال عن دور الدين في هذا الأمر جوهريا لا شك.

لا يوجد سبب مُحدَّد لانفصال الدين عن هذه القضايا التي تتقاطع لا شك مع اهتماماته لعقود طويلة، ربما كان الأمر مُتعلِّقا بالعلاقة المتوترة بين العلم والدين التي تصاعدت مؤخرا في سياق تطرُّف وإقصاء سياسي عالمي، لكن التغيُّرات الأخيرة في موقف الدين من قضايا التغيُّر المناخي قد تحمل تحوُّلا كبيرا، وربما تساعد في تغيير شكل عالمنا المستقبلي إلى الأفضل بكل تأكيد.

_________________________________________________________

مصادر:

  1. شيخ الأزهر يتسلم دعوة رسمية لحضور قمة قادة الأديان حول التغير المناخي بروما
  2. First Reformed
  3. Scientific Consensus: Earth’s Climate Is Warming
  4. Pope urges politicians to take ‘drastic measures’ on climate change
  5. Religion Does Matter for Climate Change Attitudes and Behavior
  6. 6The Historical Roots of Our Ecologic Crisis
  7. How Religion Influences Our Relationship With the Environment
  8. The social cost of lobbying over climate policy
  9. "Dark Money" Funds Climate Change Denial Effort
  10. Fight Climate Change by Suing Polluters, Says Scientist
  11. The Carbon Majors Database CDP Carbon Majors Report 2017
  12. Religion and climate change: varieties in viewpoints and practices
  13. Practise what you preach: a faith-based approach to conservation in Indonesia
المصدر : الجزيرة