شعار قسم ميدان

خمسة كتب تكشف لك أسرار دماغك بصورة ممتعة

حينما يتعلَّق الأمر بالعلوم العصبية، فإن الملل يطل برأسه من النافذة، الغالبية العظمى منا يُفضِّلون القراءة عن الأشياء المُثيرة في الفيزياء مثل الأكوان المتوازية أو الثقوب السوداء، لكن في المقابل يظن البعض أن نطاقات المخ والأعصاب تحمل الكثير من تعقيدات التشريح وعلوم وظائف الأعضاء التي لا تُعطيك الدفعة نفسها من الإثارة، لكن هذه الفكرة أبعد ما يكون عن الصواب، في الواقع قد يكون العكس هو الصحيح.

 

خلال عدة عقود مضت، حقَّق العلماء تقدُّما هائلا، ومُثيرا للانتباه بحق، في دراسة أدمغتنا، والواقع أن النتائج التي توصَّلوا إليها كانت كافية ليخرج جيل من علماء الأعصاب ويُقدِّم لنا روائع الدماغ البشري وأسراره، بأبسط الطرق الممكنة وأكثرها إثارة، وفي هذا التقرير فإننا سنعرض عليك خمسة كتب في هذا النطاق، تنطبق عليها عدة شروط أساسية اعتدناها في القسم العلمي بـ "ميدان"، وهي أن تكون سهلة قدر الإمكان، ومتاحة، وكذلك متنوعة في موضوعاتها.

 

لنبدأ معا من أستاذ علوم الأعصاب دين برنيت، من جامعة كارديف البريطانية، وكتابه الذي أثار الانتباه منذ ظهر عام 2016، وتُرجم للعربية مؤخرا، "المخ الأبله". في هذا الكتاب يعطي برنيت مقدمة غاية في السلاسة حول أدمغتنا وتأثيرها في كل جوانب حياتنا، مُستخدِما أسلوبا ساخرا يتوافق مع هوايته في ممارسة "كوميديا الوقوف" (Stand-up Comedy).

 

يتأرجح الكتاب، دافعا الملل، بين ثلاثة جوانب أساسية، الأول هو الوظائف الدماغية الأساسية وعلاقاتها بالذاكرة أو الذكاء أو كيفية تنظيم شؤون الجسد، والثاني هو علاقة أدمغتنا بحالتنا النفسية، سواء كنا أسوياء أو مرضى، والثالث هو علاقة أدمغتنا بالمجتمع من حولنا، وكيف بُنيت بحيث تدعم التواصل، وبالتالي فإن الكتاب -في مجمله- جرعة، دسمة حقا ومتنوعة، من علوم الأعصاب وعلم النفس، ويمتد الأمر ليصل إلى البيولوجيا وعلم النفس التطوريين والأنثروبولوجيا.

 

يتميَّز الكتاب بأنه يحوي الكثير من العناوين داخل كل فصل، بحيث يبدو الأمر وكأنك تقرأ مجموعة كبيرة من المقالات الصغيرة، وكان الكاتب بالفعل -قبل العمل على "المخ الأبله"- يكتب عمودا عن المخ والأعصاب في صحيفة الغارديان، ما أعطاه خبرة لا يُستهان بها في تقديم المعلومات للقارئ العام.

 

هذه هي المرة الثانية التي نُشير فيها إلى هذا الكتاب من تأليف ديفيد إيجلمان، عالم الأعصاب الأميركي من جامعة ستانفورد، والسبب في ذلك أنه ما زال علامة من العلامات المهمة على طريق تبسيط العلوم المُتعلِّقة بالدماغ للقارئ العام، وإذا كان برنيت في الكتاب السابق قد أشار إلى وظائف الدماغ من وجهة نظر تتعلَّق بأمورنا الحياتية اليومية، فإن إيجلمان هو رجل الأمور المدهشة والأسئلة العجيبة.

 

يدفعك إيجلمان ببساطة للتساؤل عن كل شيء حولك، هل كل ما تراه وتسمعه وتدركه حقيقي؟ هل اللون الأحمر الذي تراه في ثمرة تفاح هو اللون الأحمر ذاته الذي أراه أنا في الثمرة نفسها؟ ربما يكون ذلك غريبا بعض الشيء، لكن الإجابة هي أنه ليس كذلك، في الحقيقة فإن ما ندركه هو أقرب ما يكون لتشوُّه نتفق عليه جميعا، لكنه ليس الواقع بحقيقته.

 

هل تتخذ قراراتك بنفسك؟ هل تمتلك حرية الإرادة؟ هل هناك أشياء لا تُدركها ولكنها تؤثِّر في قراراتك؟ هل أنت فقط مجرد مجموعة من الإشارات العصبية المتفاعلة معا تفاعلا مُعقَّدا أم أنك "أنت"؟ حسنا، هذا الكتاب عن الدماغ قادر حقا على نسف عقلك بسبب قدر الإثارة الذي يُقدِّمه، خاصة مع أسلوب إيجلمان البديع في تقديم علم الأعصاب، وهو واحد من القلائل جدا الذين يمتلكون مقدرة بهذه السلاسة في هذا النطاق.

 

 

في الكتابين السابقين قدَّمنا للدماغ بصورة عامة، والآن سنبدأ معا في تفحُّص بعض الجوانب أو القضايا التي يكون الدماغ جزءا منها، وسنبدأ بكتاب سوزان بلاكمور "الوعي – مقدمة قصيرة جدا"، والكاتبة لها حكاية، فقد بدأت حياتها الجامعية مؤمنة بخرافات الهيبيز في عصرها -قبل عدة عقود- بداية من الإسقاط النجمي والعلاجات الروحية، ووصلت في النهاية لتصبح أحد أشرس المهاجمين لتلك الخرافات، وما بين حالتين مرَّت بهما، تساءلت عن إحدى أهم قضايا العصر العلمية، ما الوعي؟! ماذا يعني أن تكون أنت -أنت بالداخل الذي يشعر بنفسه وأنه يقرأ هذا الكلام الآن- واعيا بكل ذلك؟

 

حتّى السؤال، كما تلاحظ، يبدو صعبا، لأننا ببساطة نتحرَّى شيئا ما عن طريق استخدام الشيء نفسه، أما بالنسبة لسوزان بلاكمور، فإنها حاولت عرض إجابات العلماء والفلاسفة، إلى الآن، عن هذا السؤال ببساطة وسلاسة إلى حدٍّ كبير، وفي كتابها، الذي لا يتخطَّى 130 ورقة، تعرَّضت بإيجاز لأشهر الأسئلة في هذا النطاق، فمثلا: هل ما نراه ونسمعه ونتحسَّسه بأيادينا هو الواقع حقا؟ هل يمكن أن ينخدع إدراك الإنسان؟ وهل يمكن أن نعبث بوعيه؟

 

الكتاب ليس سهلا تماما، لكنه أيضا ليس بالصعب على قارئ غير مُتخصِّص. صغر حجمه، وهي طبيعة تلك السلسلة بالأساس (مقدمة قصيرة جدا) جعله دسما، لكنه لا يخلو من التجارب الذهنية الممتعة، والأمثلة المُبسَّطة قدر الإمكان، التي تُشجِّعك على الخوض به إلى آخر ورقة. ولأن موضوعات الوعي بطبعها مُعقَّدة ومتشابكة، فإن بلاكمور لا شك تأخذ مكانا مُتقدِّما في قائمة "أبسط الكتب" في هذا النطاق.

 

هيلين فيشر، مُتخصِّصة علوم الأنثروبولوجيا والسلوك البشري من جامعة روتجرز الأميركية، تذهب بالدماغ إلى نطاق آخر وهو "الحب"، وفي كتابها "لماذا نحب؟ طبيعة الحب وكيمياؤه" فإنها تضع الدماغ بوصفه واحدا من العناصر الكثيرة والمعقدة التي تشرح سبب اختبارنا لهذا الشعور الغريب. فمن ناحية، يمكن للدماغ أن يتسبَّب في شعورنا بالشوق والولع والحزن للفراق والإثارة بوجود الحبيب، كل ذلك عبارة عن دفقات من النواقل العصبية تسري عبر دماغنا.

 

لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد فقط، فالحب كما قلنا أعقد بكثير من ذلك، وفي هذا الكتاب الشامل الرائع، تُقدِّم الكاتبة فهما أنثروبولوجيًّا تطوريا لموضوع الحب، وتجيب عن أسئلة تجول ببال الجميع، مثلا: هل الحب منفصل عن الجنس، أم أنهما وجهان لعُملة الشعور نفسه؟ هل الحب يتعلَّق فقط بالانجذاب الجسدي، أم أن له جانبا مُتعلِّقا بالمسؤولية؟

 

أسلوب فيشر هادئ، وبسيط، وهي تدمج العلم بالأدب في صورة بديعة، لدرجة تجعل فصولا كاملة من كتابها أدبية الطابع، تطلَّبت بالتبعية مترجما خاصا للكتابات الأدبية، وهي بهذا الكتاب تصنع مزيجا قلما تراه بين الرومانسية كما يراها الشاعر والروائي وكما يراها عالم الأعصاب، إنها لا شك خلطة مميزة جدا.

 

في هذا الكتاب يحاول نورمان دويدج، وهو متخصص في العلاج النفسي، أن يعرض لنطاق جديد نسبيا في علوم الدماغ وهو اللدونة العصبية، وتعني مرونة الدماغ وقدرته على تغيير ذاته للتوافق مع الوضع الجديد على أثر حادث ما مثلا أو الإصابة بمرض يفسد بعضا من آليات عمله، لطالما تربينا على أن الخلايا العصبية لا يمكن أن تُعوَّض، لكن الآن بِتْنا متأكدين من خطأ ذلك، ليس لأنها تُجدِّد نفسها فقط، بل أيضا لأن هذه العملية من التغيير يمكن توجيهها.

 

في أحد عشر فصلا، يهتم دويدج بأن يحكي قصة بعض المرضى الذين عانوا كثيرا مع أمراض نفسية وعصبية، لكن تمارين اللدونة العصبية أنقذتهم، أسلوب دويدج بسيط وحكائي وغير ممل أبدا، وقصص مرضاه أخّاذة للعواطف وتساعدك على استكمال طريقك بيُسر، لذلك يمكن لك أن تنتهي من هذا الكتاب، رغم حجمه الكبير، في فترة قصيرة قد لا تتعدّى أسبوعا أو اثنين.

 

حينما يأتي الأمر للدونة العصبية تحديدا فلا بد لنا من وقفة، هذا النطاق -كما أسلفنا- جديد نسبيا وواعد، ومن الضروري أن يتعلَّم عنه القارئ العام، لكن على الرغم من ذلك فإن إحدى أهم سمات الكتب التي تناقشه هي المبالغة في تأكيد إمكانات اللدونة العصبية لدرجة قد تُصوِّر لك أنها العلاج السحري لكل شيء، وكتاب دويدج يفعل ذلك أيضا في بعض الأحيان، ولذلك عليك أن تسير في الكتاب بدرجة من الحذر تجاه هذه المبالغات.

حسنا، فقط جرِّب ولن تخسر شيئا، من الضروري أن نُوسِّع من حين لآخر نطاقات قراءاتنا خاصة في العلوم العصبية وعلوم الدماغ، وبشكل أكثر خصوصية لو كنّا من محبي فلسفة العقل. إنه لمن المثير حقا للتساؤل أن كل النقاشات الجارية عن هذا الأمر بين المتخصصين والهواة في وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى الندوات والتقارير الأكاديمية، تتجاهل -تجاهلا شبه كامل- الدور الذي لعبته علوم الأعصاب مؤخرا في فهم عقولنا ووعينا.

المصدر : الجزيرة