شعار قسم ميدان

هل تشعر أن الطقس مشتعل هذا الأسبوع؟ هذه هي البداية فقط!

حسنا، الصيف حار، نحن بالطبع نعرف ذلك ونتجهَّز له كل عام، لكن ما يحدث حاليا ليس صيفا كما اعتدنا أن نعرفه، بل هو شيء آخر مختلف! لا بد أنك تشعر بذلك، خلال الأسابيع القليلة الماضية تخطَّت درجات الحرارة، في الكثير من دول الوطن العربي، حاجز 40 و50 مئوية، والأمر مستمر يوما بعد يوم، ويبدو أنه لن يتوقف، والسؤال الذي يطل برأسه بإلحاح هنا هو: ما الذي يحدث يا رفاق؟

 

قبل عدة أسابيع، أصدرت وكالة الفضاء والطيران الأميركية خريطة(1) جديدة مبنية على نموذج نظام جودارد لرصد الأرض، "جيوس" (GEOS). تصور الخريطة درجات حرارة الهواء على ارتفاع مترين فوق سطح الأرض، ويظهر فيها الوطن العربي، في معظم مناطقه، باللون الأحمر القاتم، في إشارة إلى موجة حارة هائلة تتخطى حدود المتوسطات المعروفة للمنطقة منذ سنوات.

في السياق نفسه، سجَّلت المحطات الأرضية المحلية درجات حرارة تجاوزت 50 درجة مئوية في ثلاث دول على الأقل في الوطن العربي، الكويت وعمان والإمارات العربية المتحدة، حيث بلغت الحرارة في "سويحان" في الإمارات 51.8 درجة مئوية في 6 يونيو/حزيران 2021، وهي أعلى درجة حرارة مُسجَّلة في البلاد لشهر يونيو/حزيران في العموم، لكن الأمر ليس حصريا للوطن العربي، فالعالم كله -على ما يبدو- يشتعل حاليا.

 

أفادت التقارير الإخبارية أن مناطق عدة في وسط آسيا وجنوبها شهدت درجات حرارة عالية بشكل غير عادي خلال هذا الوقت من العام. في موسكو مثلا، يُعَدُّ يونيو/حزيران الحالي هو الأكثر سخونة منذ عام 1901، إلى درجة أن سهول سيبيريا الباردة حد الموت سجَّلت درجات حرارة وصلت إلى 47.8 درجة مئوية، أما منطقة هلسنكي بفنلندا فقد وصلت إلى 31.7 درجة مئوية، ربما يبدو لك رقما عاديا، لكنه استثنائي بالنسبة لتلك المنطقة.(2)

 

أما في الولايات المتحدة الأميركية(3) فإن موجة الحر الشديدة التي تجتاح غرب البلاد يبدو أنها لن تتوقف قريبا، ومن المتوقَّع أن يعاني أكثر من 40 مليون شخص من درجات حرارة تصل إلى 40 مئوية، مما يخلق ظروفا خطيرة وسط أسوأ جفاف في المنطقة في التاريخ الحديث. وفي كندا شمالا(4)، سُجِّلت أعلى درجة حرارة على الإطلاق بعد أن وصلت الحرارة في قرية في مقاطعة كولومبيا البريطانية إلى 46.1 درجة مئوية قبل أيام، وتجاوزت درجة الحرارة في مدن عدة أرقامها القياسية.

 

في هذا السياق، أفاد بيان صادر من وكالة الفضاء والطيران الأميركية(5) أن ما يحدث في الوطن العربي تحديدا مُتعلِّق بظاهرة تُسمى "القبة الحرارية" (heat dome)، ولها من اسمها نصيب كما يبدو، فهي تعني أن منطقة ذات ضغط جوي مرتفع تُثبِّت نفسها فوق منطقة على الأرض كما يُثبَّت الغطاء على القدر، في تلك الحالة ينحبس الهواء الدافئ أثناء ارتفاعه وتدفعه القبة مرة أخرى نحو السطح ليصبح أكثر دفئا، فترتفع درجات الحرارة شيئا فشيئا، بالضبط كما يحدث حين تُغلق القدر.

 

تُظهِر الأبحاث(6) التي أجرتها الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) أن من المرجَّح أن تتشكَّل هذه الظاهرة بكثافة خلال سنوات النينيا مثل عام 2021، إنه ما حدث في موجة حر سابقة خلال شهرَيْ يوليو/تموز وأغسطس/آب من عام 2015.

 

والنينيا (La Niña) هي ظاهرة(7) تتضمَّن تغيُّرا دوريا في أنماط الرياح ودرجات الحرارة في المحيط الهادئ، حيث تمر المناطق الجنوبية من المحيط الهادئ (قبالة سواحل أميركا الجنوبية) عادة بمرحلتين مناخيتين، المرحلة التي ترتفع فيها حرارة المياه، وتُعرف بـ "النينو"، والمرحلة التي يحدث بها التبريد، وتُعرف بـ "النينيا"، وتستمر كلتا الفترتين لعدة أشهر، وعادة ما تحدثث كل عدة سنوات مع اختلاف الشدة لكل فترة، وتؤثران على طقس العالم أجمع (في التصميم المرفق راقب حجم الرياح الحارة في حالة النينا، والمتوجهة ناحية عالمنا العربي).

 

لكن كل ما سبق يأتي في سياق أوسع. قبل عدة شهور(8) أعلن باحثون من وكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) أن تحليلا أخيرا لمتوسطات درجة الحرارة، أخذ قراءات من 26 ألف مكان حول العالم، أفاد بأن عام 2020 كان الأعلى حرارة بفارق أكبر من 1.2 درجة مئوية عن المتوسط المسجَّل منذ بدأ هذا النوع من القياسات قبل نحو قرن ونصف، الأمر الذي يُشير إلى أن الاحترار العالمي ما زال مستمرا بنمط متصاعد، ويبدو أنه لن يتوقف قريبا.

جاءت تلك النتائج لترفع 2020 بفارق طفيف جدا عن عام 2016 صاحب الرقم القياسي السابق، وبسبب صِغَر هذا الفارق، مع درجة عدم يقين في هذا النوع من القياسات، فإن هذا العام -في كل الأحوال- يقبع مع 2016 و2019 بوصفهم أعلى السنوات حرارة في تاريخ القياس، في الواقع فإن آخر سبع سنوات، في الأساس، هي السنوات الأعلى حرارة في تاريخ القياس كله.

 

أما عن نسبة ثاني أكسيد الكربون(9) في الغلاف الجوي، فكانت تتسارع بدورها خلال السنوات السبعة عشرة السابقة، وبحلول نهاية عام 2016 تخطَّت حاجز 400 جزء من المليون (ppm) لأول مرّة في تاريخنا البشري، أي منذ أربعمئة ألف سنة مضت! ثاني أكسيد الكربون هو ببساطة غاز الاحتباس الحراري الذي تنفثه سياراتنا ومصانعنا.

 

يتصوَّر البعض أن ارتفاع متوسطات درجات الحرارة بدرجة أو درجة ونصف ليست شيئا كبيرا، لا فارق مثلا بين أن تُسجِّل القاهرة أو دبي أو الرباط 36 درجة بعد أن كانت تُسجِّل 35، أليس كذلك؟ هذا الفهم لتغيُّر المناخ لا يُعبِّر بأية حال عن الحقيقة، لأن هذا الارتفاع لا يعني فقط أن ترتفع درجات الحرارة عن المعدلات، بل يعني أيضا ارتفاع معدلات وقسوة حالات التطرف والشذوذ المناخي كالموجات الحارة التي نعيشها الآن أو الموجات الباردة، أو الأعاصير شديدة القسوة.

 

لفهم الفكرة دعنا نتأمل دراسة نُشرت قبل نحو عامين في دورية(10) "ساينز أدفانسز" (Science Advances)، تربط بين الارتفاع السريع بمقدار 0.5 درجة مئوية في متوسط درجات الحرارة بالهند خلال الفترة بين 1960-2009، وارتفاع معدلات الموجات الحارة التي تضرب البلاد بمقدار 25%-50% أكثر من الأعوام الـ25 السابقة لتلك الفترة، بحسب المنطقة.

تُبيِّن هذه الخارطة من مركز المناخ بجامعة ماين الأميركية أن الوطن العربي، يوم 28 يونيو/حزيران، ما زال في مركز الموجة العالمية الحارة، مع درجات حرارة تتخطى حاجز 40 مئوية

بالنسبة للوطن العربي، فإن هذا للأسف هو ما يحدث بالفعل، تأمَّل مثلا تلك الدراسة(11) التي صدرت في مارس/آذار الماضي بدورية "نيتشر" المرموقة حول توقُّعات المناخ العالمي. تُشير الدراسة إلى تكثُّف كبير لدرجات الحرارة المرتفعة خلال فصل الصيف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتتوقَّع أنه في النصف الثاني من القرن الحالي، ستظهر موجات حر غاية في الشدة وغير مسبوقة تتضمَّن درجات حرارة تصل إلى 56 درجة مئوية أو أعلى وتستمر لمدد طويلة (عدة أسابيع)، وبشكل متكرر.

 

تتأكَّد تلك النتائج بدراسة أخرى(12) في دورية "بلوس وان"، صدرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تقول إن 80% من مدن منطقتنا ستواجه، بحلول نهاية القرن الحالي، موجات حارة في 50% على الأقل من أيام العام، تتوقَّع الدراسة أيضا -بافتراض عدم التدخُّل من خلال إستراتيجيات التكيف والتخفيف المناخي- أن هذه النتائج، إلى جانب الخصائص الخاصة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل الجفاف أو نقص هطول الأمطار، تجعل من المحتمل أن تتعرَّض المنطقة لأوبئة أو مجاعات.

 

هذا ليس جديدا على كل حال، حيث تُسجِّل البيانات الحديثة زيادة في احتمالات(13) حدوث حالات الوفاة المرتبطة بالموجات الحارة تصل إلى 146% في الدول التي تتعرَّض إلى عدد أكبر من تلك الموجات مثل الهند وباكستان، هذه المناطق دخلت بالفعل في نطاق ما نعرفه باسم "موجات الحر القاتلة"، ويعني ذلك ارتفاع حالات الوفاة بسبب الموجة الحارة لأكثر من 100 شخص.

 

من جهة أخرى، فإن قياس(14) ارتفاع معدلات الإجهاد الحراري (Heat Stress) في 44 من أصل 101 مدينة عملاقة في العالم، تلك التي يزيد عدد سكانها على 10 ملايين شخص مثل نيودلهي أو القاهرة، يُشير إلى أن ارتفاع متوسطات الحرارة فقط بمقدار 1.5 درجة يتسبَّب في تضاعف الإصابة بحالات الإجهاد الحراري سنويا، ويُعتقد أن ذلك سيُعرِّض أكثر من 350 مليون شخص إضافي لمشكلات طبية تتعلق بارتفاع درجات الحرارة بحلول عام 2050.

أضف إلى ذلك أن هناك وحشا مناخيا آخر لم يكن في الحسبان، نعاني منه هذه الأيام أيضا بينما تضربنا الموجة الحارة، وهو الرطوبة، التي ترتفع متوسطاتها بمعدلات متسارعة، ما دعا العلماء(15) إلى توقُّع أن يصل عدد أيام الرطوبة العالية بحلول العام 2070 إلى 100-250 يوما كل عام، مع توقُّعات أن تصل حدود الرطوبة في أميركا الجنوبية وأفريقيا والهند والصين إلى مستويات تؤثر بالفعل على صحة البشر مباشرة وتمنعهم من أداء وظائفهم.

 

نعرف بالفعل أن الارتفاع الشديد في درجات الحرارة يُسهم مباشرة في حدوث الوفيات التي تنجم عن الأمراض القلبية الوعائية والأمراض التنفسية. فمثلا، سُجِّلت أكثر من 70000 حالة وفاة إضافية أثناء موجة الحر التي حدثت في صيف عام 2003 في قارة أوروبا، وحسب تصريحات منظمة الصحة العالمية(16)، فمن المتوقَّع أن يتسبَّب تغيُّر المناخ في الفترة ما بين عامَيْ 2030-2050 في نحو 250000 وفاة إضافية سنويا جراء سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري.

 

يأتي ذلك جنبا إلى جنب مع نطاق بحثي يُشير إلى ارتباط واضح بين التغيُّر المناخي، خاصة ارتفاع قسوة الموجات الحارة، وانتشار العنف في العديد من الدول، إما عبر الصلة المباشرة التي تربط ارتفاع درجات الحرارة مع زيادة مقابلة في معدلات الغضب وفقدان السيطرة، وهو غير مؤكَّد بعد، وإما عبر ارتباط غير مباشر بين التغيُّر المناخي واضطراب الموارد الأساسية التي يعتمد عليها الإنسان، كالمحاصيل الزراعية أو كميات الأسماك أو المياه المتاحة، ما يتسبَّب بالضرورة في صراعات مسلحة محلية ودولية حول الموارد التي تصبح أكثر ندرة يوما بعد يوم.(17)

يؤثر ارتفاع تردد وقسوة الموجات الحارة على اقتصاد الدول بصورة فجة، بداية من الآثار الرئيسية المتعلقة بالأمن الغذائي والأمن الوطني، وصولا إلى التأثيرات المباشرة على المياه والكهرباء، دعنا مثلا نتأمَّل ارتفاع درجات الحرارة في إيران(18) خلال شهر يونيو/حزيران 2018، حين سجَّلت بعض المناطق درجات تقترب من 53 درجة مئوية (يحدث ذلك الآن أيضا)، وكيف أثَّر ذلك بشكل مباشر على استهلاك المياه والكهرباء بالبلاد، ما أدى إلى انقطاعهما.

 

يتسبَّب ارتفاع درجات الحرارة في زيادة استهلاك الكهرباء بمعدل 150-200 ميجاوات مقابل كل درجة من الارتفاع، ونتيجة لذلك، ليس من المستغرب أن إيران سجَّلت في يوم واحد فقط بشهر يونيو/حزيران من العام نفسه سحبا للطاقة الكهربائية قيمته 56672 ميجاوات، وهو رقم تاريخي!

 

كل شيء يتأثر بالحرارة وتغيُّر المناخ، ورغم ذلك، حين يخرج أحد العلماء في مؤتمر ما ليتحدَّث عن التغيُّر المناخي فإننا نشيح بوجوهنا من فرط الملل، نتصوَّر -بينما نحن جلوس في المنزل- أن ذلك الحديث مجرد علم بارد لا علاقة له بواقعنا، ونتجاهل أو نتناسى أن المناخ يؤثر في كل شيء، بداية من سعر هاتفك الذكي، وحبات الأرز التي ستتناولها على الغداء، ومرض أحد أقربائك، وجودة الهواء الذي تتنفسه، وصولا إلى فرصة وصول كوب ماء عذب إلى فمك في لحظة عطش شديد.

—————————————————————————

المصادر

  1. Heatwave Scorches the Middle East
  2. Wild High Temperatures Worldwide Show The Extent Of Record June Heat Wave
  3. Heat wave worsens across the American West, raising concerns of power outages and wildfires
  4. Canada hits record temperature of 46.1C amid heatwave
  5. Heatwave Scorches the Middle East
  6. What is a heat dome? Deadly hot weather descends on Pacific Northwest.
  7. What are El Niño and La Niña?
  8. تفصيل أكثر في "أعلى السنوات حرارة في التاريخ".. لأن 2020 لم تكن فقط سنة الجائحة!"
  9. المصدر السابق
  10. Increasing probability of mortality during Indian heat waves
  11. Business-as-usual will lead to super and ultra-extreme heatwaves in the Middle East and North Africa
  12. Persistent heat waves projected for Middle East and North Africa by the end of the 21st century
  13.  Increasing probability of mortality during Indian heat waves
  14. Communicating the deadly consequences of global warming for human heat stress
  15. Humidity may prove breaking point for some areas as temperatures rise, says study
  16. Climate change and health
  17. كيف يساهم التغيُّر المناخي في انتشار ظواهر العنف؟
  18. 53 And Counting! Heat Wave Breaks Records In Iran, Across The Caucasus
المصدر : الجزيرة