شعار قسم ميدان

غيرت حياتنا للأبد.. التاريخ العاصف لمثلجات الفانيليا التي تعشقها

قبل أكثر من ألف عام مضى، كان العرب من أوائل الشعوب التي أنتجت المثلجات المصنوعة من اللبن واستخدموا السكّر والفواكه وماء الورد لتحليتها، ومع الطقس الحار صيفا في المنطقة ازدهرت المثلجات ووجدت قبولا على مدى مئات السنين، في تلك الأثناء كان(1) "ماركو بولو"، التاجر والمستكشف الإيطالي الشهير، عائدا من الصين بسر الخلطة نفسها، وأهداه إلى الناس في مدينة البندقية، ثم انتشرت المثلجات في أوروبا، ثم في العالم أجمع، وتزايد استخدامها يوما بعد يوم، حتى وصلنا إلى اللحظة الحالية.

تدخل المثلجات كل بيت في العالم تقريبا وتجدها في كل الأسواق، يستخدمها الفقراء والأغنياء على حدٍّ سواء، فهي تُقدَّم تجاريا بمدى سعري واسع، وتُصنع بعدد هائل من النكهات. وفي عام 2018 استهلك البشر منها ما مقداره سبعة عشر مليار كيلوجرام، وهو رقم مرشح بأن يرتفع مليارا إضافيا(2) بحلول عام 2023، يجعل ذلك من المثلجات تحلية شبه أساسية للبشر، يعدّونها شيئا طبيعيا في حياتهم، لكن هل كان الأمر هكذا دائما؟!

undefined

إنسان ما قبل الحضارة

الجواب بالطبع: "لا". لقد مارس البشر حرفة الجمع والالتقاط على مدى مئات الآلاف من السنين، عاشوا في جماعات منفصلة، وكان هدف الواحد منهم هو فقط إيجاد بضع ثمرات تفاح أو برتقال هنا أو هناك، أو ربما اصطياد أرنب بري قريب يمر بسرعة، في تلك الأثناء كان الطعام شحيحا، وقد تمر ليالٍ طويلة قبل أن يجد الإنسان أي شيء ليأكله، أما بالنسبة إلى التحلية، كأن تتناول بعض المثلجات أو أيّا من السكريات، فلقد كانت تلك رفاهية منقطعة النظير.

بناء على ذلك، تكيّفت(3) أدمغتنا مع هذا الوضع بدفع الإنسان إلى اشتهاء الطعام أينما يراه وليس فقط عند الحاجة الفسيولوجية إليه. يحدث ذلك بشكل خاص مع الأطعمة الغنية بالسكريات أو الأملاح أو الكربوهيدرات أو الدهون، وذلك لأن تخزين الطعام الزائد في أجسامنا كان يساعدنا على البقاء، فإذا شح الطعام وبدأت المجاعة أمكن لهؤلاء الذين خزّنوا الدهون بأجسامهم أن يحافظوا على صحتهم لعدد أكبر من الأيام، إذ يبدأ الجسم بحرق الدهون الزائدة في حالات الانقطاع عن الطعام.

في العالم المعاصر -على العكس تماما- تتنافس شركات الطعام على فريسة واحدة، هي أنت. تنتشر إعلانات الأطعمة في كل مكان، تجدها في التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، وتلتقي بها في ملصقات المواصلات العامة الضخمة، وفي لوحات كبيرة بالشارع، وفي أعداد كبيرة من المطاعم المتراصة على جانبيه، يُثير ذلك داخلنا إحساسا مستمرا بالشهوة تجاه الطعام على الرغم من أننا قد لا نكون في حاجة فسيولوجية إليه، يُسمى هذا الشعور في علم نفس السمنة بـ"لذة الجوع(4)" (Hedonic Hunger).

تتأكد تلك الفكرة بدراسات عدة، على سبيل المثال، أشار(5) "براين وانزيك"، الأستاذ من جامعة كورنل والذي يدرس سلوك المستهلكين وأساليب التسويق، خلال العقدين الماضيين إلى أننا -نحن البشر- نميل إلى أكل كمية أكبر من الطعام كلما كان الطبق كبيرا، أو كلما كان الطعام مُعرَّضا لنا بصورة كثيفة، أو كان في سياق مناسب، يحدث ذلك بغض النظر عن احتياجاتنا الفسيولوجية. وقد أشارت مجموعة أخرى من التجارب(6) إلى أن كونك جائعا أو غير جائع لا يعد أمرا مؤثرا حينما تُقدَّم أطعمة شهية -كالشيكولاتة- لك، ففي كلتا الحالتين ستلتهمها بنهم.

من جهة أخرى فإن تلك الشهوة نحو الطعام مُعدية. في الواقع، كان "نيكولاس كريستاكيس" و"جيمس فاولر"(7) من جامعتي هارفارد وكاليفورنيا قد أشارا في دراسة لاقت شهرة واسعة وقت صدورها وحتّى الآن إلى أن انتشار السمنة يتبع نمطا اجتماعيا، بمعنى أن شبكة التواصل الاجتماعي الخاصة بك -سواء كانت إلكترونيا أو على أرض الواقع- قد تدفعك إلى السمنة -أو الحياة الصحية- بحسب أعداد السِّمان بها، لأن ذلك يُعرِّضك بشكل أكبر للكثير من الطعام غير الصحي ولعادات غذائية سيئة، فتميل بنسبة 57% إلى الوقوع في أسرها أنت أيضا.

 

الغارقون في الكسل

كما قلنا، تتصاعد تلك المشاعر المتهيِّجة تجاه الطعام كلما كانت الوجبات غنية بالسكر أو الملح أو الدهون، ويعني ذلك ببساطة أن الأدوات التي كانت تخدمنا قديما للبقاء أصبحت الآن عبئا علينا، قديما كان من النادر جدا أن تجد تحلية بنهاية اليوم الطويل المرهق، أما في عالمنا المعاصر تصاعدت(8) أعداد المواد الغذائية سريعة التحضير وكثيفة السكريات والدهون في الأسواق من 5000 مادة غذائية سنة 1980 إلى 35000 مادة غذائية سنة 2000، وتضاعف الرقم مرة أخرى خلال العقدين الماضيين.

المثلجات والشيكولاتة بأنواعهما ملوك المنزل العصري، الحلوى والبسكويت والمخبوزات المعبأة بالكربوهيدارت البسيطة، الهامبرجر الحار والهوت دوج والشاورما السورية البديعة، لا يمر يوم واحد، بل لا تمر ساعة واحدة في بعض الأحيان، إلا وتواجه أيّا منها. حياتنا المعاصرة غارقة حدّ الثمالة في عناصر اللذة الغذائية بحيث يشبه الأمر أن يتمشّى مدمن هيروين في شارع مملوء ببائعي الهيروين، والمشكلة هي أنه لا يوجد مَن يقف ضد ذلك الشلال الهادر.

نعرف أن للسمنة أسبابا متعددة، هناك جانب جيني وراثي نراه بوضوح(9) في جذور عائلات بعينها، لكن على الرغم من ذلك لا يمكن لهذا الجانب وحده أن يُفسِّر السمنة بصفته وباء عالميا تضاعفت(10) أرقامه ثلاث مرات بشكل كارثي خلال نصف قرن مضى، أضف إلى ذلك أن أكثر من ثلث الشباب، وتقريبا نصف الأطفال، في العالم كله مصابون بالسمنة بينما نتحدث! لهذا السبب، يفترض الباحثون في هذا النطاق أن هناك أسبابا أخرى للسمنة تتعلّق بطبيعة العالم المعاصر، إذ يمكن بسهولة أن نلاحظ أن تركيبتنا الاجتماعية قد تغيّرت خلال الفترة نفسها التي انتشرت فيها السمنة بوصفها وباء، بحيث أصبح الأكل خارج المنزل عادة رائجة لدى كل الناس، المشروبات الغازية والحلوى والمثلجات والأطعمة الجاهزة في العموم أصبحت أشياء طبيعية، إلى جانب ذلك فقد أصبحنا أكثر كسلا.

لقد حوّل الإنسان المعاصر جهده للآلة، فبينما كان يستهلك الكثير من السعرات الحرارية في المشي وغسيل الأطباق والملابس وتنظيف المنزل في السبعينيات إلى الثمانينيات من القرن الفائت، أصبح يستخدم السيارات وغسالات الأطباق والغسالات الأوتوماتيكية والمكنسة الكهربائية، من جهة أخرى فإن عالمنا المعاصر -بشكل ما- يدفعنا للمزيد من الدعة. بحسب منظمة الصحة العالمية(11)، فإن ثلث البشر لا يؤدّون أنشطة بدنية كافية، ترتفع تلك النسبة إلى النصف في الوطن العربي. أسباب تلك الحالة متنوّعة وتتعلّق بنمط حياتنا المعاصر، فقد قلّص التحضّر من مساحات المشي الواسعة، ورفع من الازدحام والتلوث ودرجات التوتر لمجرد الوجود في الخارج، ففضّل الناس البقاء في المنزل، من جهة أخرى فإن توفر تكنولوجيا الاتصالات سمح بأداء الكثير من الوظائف دون الحاجة إلى بذل جهد.

 

العودة إلى الجذور

حسنا، لنتوقّف قليلا، في المقابل من كل الضجيج السابق دعنا الآن نسافر إلى اليابان، هناك يبدو الأمر كأن المواطن الياباني يعيش بعين على عمله والأخرى على جسمه، نحن أمام واحدة من أقل النسب(12) الخاصة بالسمنة في العالم بواقع 3.5% فقط، قارِنها بالوضع في الوطن العربي على سبيل المثال: الكويت بنسبة 42.8%، والسعودية بنسبة 35.2%، ومصر بنسبة 34.6%، والأردن 34.3%، والإمارات العربية المتحدة بنسبة 33.7%، وقطر بنسبة 33.1%، نحن نتحدث عن عشرة أضعاف الرقم!

المجتمع في اليابان ما زال يتبع طريقة القبائل القديمة هناك في الطعام، بل ويُقدِّسها، فتجد أن نظامهم الغذائي بسيط ومتوازن ويتألّف بشكل رئيسي من المأكولات البحرية والحبوب الكاملة والخضراوات، بينما تجد أن الأطعمة الغربية الجاهزة وسريعة التحضير غائبة إلى حدٍّ كبير في الأطباق اليابانية، إنهم شعب يأكل بلغة الماضي ويعمل بلغة المستقبل.

لا يقف الأمر عند حدّ العادات فقط، فالمدارس(13) اليابانية تلتزم بشكل قاسٍ بالإرشادات الغذائية الصحية، وتعمل الحكومة على دعم نمط حياة صحي يمزج بين العمل والرياضة والحمية المناسبة، لهذا السبب لن تتعجّب حينما تعرف أنهم أطول شعوب العالم عُمرا، إنهم كذلك الآن، وكانوا كذلك طوال قرون مضت، يرى الباحثون في النطاق الذي يربط بين الصحة العامة والأنثروبولوجيا أن شعب الأوكيناوا يمتلك أطول الأعمار في العالم بسبب حميته الغذائية.

undefined

الأوكيناوا هم مجموعة من نحو مليون ونصف مليون فرد يعيشون في بعض الجزر اليابانية وينتمون إلى ثقافة قديمة جدا، إنهم السكان الأصليون لتلك المناطق، وبسبب التركيز البحثي على نمط حياتهم المنتظم ظهر ما نسميه بحمية الأوكيناوا(14) (Okinawa diet) التي تلقى حاليا اهتماما عالميا واسعا، تعتمد بالأساس -كنشاط يومي- على الخضروات والأرز والحبوب الكاملة، بالنسبة لهؤلاء فإن المثلجات هي نشاط أسبوعي اختياري.

أكثر الشعوب صحة

الآن لنترك مُدننا المعاصرة المكدَّسة بالسيارات وأحلام ساكنيها بحياة هادئة، ونسافر إلى الجانب الآخر من العالم، تحديدا دولة بوليفيا، بشكل أكثر تحديدا نود أن نسافر إلى نهر "مانيكي" أحد روافد الأمازون، حيث الغابات المطيرة الخلّابة والطقس الرطب، إلى جواره يعيش نحو 16 ألف شخص في مجموعات صغيرة متفرقة، إنهم شعب التشيماني.(15)

في ذلك المكان، يصنعون البيوت من أعواد البامبو ويغطّونها بجريد النخل، هناك لن تمر بالتأكيد بأيٍّ من فروع بيتزا هات أو برجر كينج، لا علامات تجارية في الطريق ولا واي فاي أو صالات كبيرة بطاولات صغيرة في مجمّعات الأسواق تنتشر فيها المطاعم وشركات الحلوى بأنواعها، يشبه نمط حياة الناس هناك -إلى حدٍّ كبير- ذلك الذي مارسه البشر قبل آلاف السنين، يعملون بالزراعة والصيد، ويأكلون مما أعطتهم الطبيعة: الكربوهيدرات المركبة بشكل رئيس، تلك التي يحصلون عليها من الخضروات والفواكه، مع نسب متوازنة من البروتين.

التشيماني -مثل الكثير من الشعوب البدائية- يلفتون نظر الباحثين في نطاقَيِ الأنثروبولوجيا والصحة العامة، فهم -دون مبالغة- أحد أكثر الشعوب في العالم صحة(16). في هذا المكان، فإن نسب السمنة وأمراض الشريان التاجي وأمراض القلب وارتفاع الكوليسترول، وكذلك الضغط والسكّري من النوع الثاني، تكاد تكون معدومة، لكن الحال ربما لا يستمر هكذا لفترة طويلة. فقد أشارت دراسة صدرت في دورية(17) "أوبيسيتي" يونيو/حزيران 2019 إلى أن اقتراب أسواق المدن من المناطق التي يعيش بها شعب التشيماني -خلال عقد مضى- قد أدّى إلى رفع نسب استهلاكهم من الزيوت المكررة والسكر والأطعمة الملحية، ومن ثم بدأت حالات السمنة بالظهور بنسب صغيرة، وهو ما يُهدِّد بخطر الوقوع في أسر المرض.

الفكرة إذن واضحة، فإلى جانب الأسباب الوراثية، فإن طريقة العالم المعاصر في العيش لا تدعم حياة صحية وجسدا ذا وزن مناسب، هذه الفوضى الحديثة الغارقة في السكّر والملح تدفع بالبشر إلى حافة السمنة، ومن ثم إلى حافة المرض، ودون محاولات جادة لتوعية الناس بأهمية الوجبات الصحية، والضغط على شركات المنتجات الغذائية من أجل تعامل تسويقي أكثر اهتماما بالصحة، فإن البشرية كلها على الطريق ناحية كارثة.

نعم، كارثة، يمكن فهمها حينما نتأمل تقرير لجنة الصحة في مجلس العموم البريطاني(18) الصادر سنة 2003 الذي جاء فيه: "لو تحوّلت السيناريوهات الأسوأ الخاصة بالسمنة لتصبح حقيقة فإن منظر هؤلاء مبتوري الأطراف سيصبح مشهدا مألوفا في الشوارع، سوف يكون هناك الكثير من المكفوفين، وسوف يكون هناك طلب كبير على غسيل الكُلى، وسوف يكون هذا هو الجيل الأول الذي يموت فيه الأطفال قبل آبائهم نتيجة لسمنة الطفولة".

___________________________________________________________

مصادر:

  1. The origin of ice-cream
  2. Ice Cream
  3. An Evolutionary Explanation For Why We Crave Sugar
  4. ?Hedonic hunger: a new dimension of appetite
  5. Mindless Eating: Why We Eat More Than We Think – Brian Wansink
  6. Hunger Comes From Your Mind, Not Just Your Stomach
  7. .The spread of obesity in a large social network over 32 years
  8. قضايا السمنة بين علم الاجتماع والعلوم الأخرى – جينا تشيليا وألكساندرا جونستون
  9. The Genetics of Obesity
  10. Obesity Epidemic "Astronomical"
  11. Physical Inactivity: A Global Public Health Problem
  12. Japan Has Cut Obesity to 3.5% in a Controversial Way That Wouldn’t Fly in America
  13. ?Japanese people live longer than the rest of us – so what’s their secret
  14. A high-carb diet may explain why Okinawans live so long
  15. الحل في البدائية.. كيف أضحى الـ "تشيماني" أكثر شعوب العالم صحة؟
  16. المصدر السابق
  17. Longitudinal Changes in Measures of Body Fat and Diet Among Adult Tsimane’ Forager-Horticulturalists of Bolivia, 2002-2010
  18. Longitudinal Changes in Measures of Body Fat and Diet Among Adult Tsimane’ Forager-Horticulturalists of Bolivia, 2002-2010
المصدر : الجزيرة