شعار قسم ميدان

نوبل للكيمياء 2021.. ماذا لو قرَّرنا أن نتعلَّم من الطبيعة؟

في مكالمة مع اللجنة النرويجية لجائزة نوبل صباح يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 2021، قال عالم الكيمياء الألماني "بنجامين ليست": "يصعب تصديق ذلك وقد يبدو غريبا أو ساذجا، ولكن الجزيئات أو المركبات الكيميائية تمتلك خاصية من الجمال البديع، وحينما تكون قادرا على إنتاج مركب جديد فإن الأمر أشبه بالفن، وكأنك تخلق شيئا جميلا".

 

حصل "بنجامين ليست" (Benjamin List) على جائزة نوبل في الكيمياء بالتشارك مع الأميركي "ديفيد ماكميلان" (David MacMillan) عن إنجازاتهما في التوصُّل إلى أداة كيميائية سُمِّيت "الحفز العضوي اللا مُتماثل"، ساهمت في تسهيل ورفع كفاءة تخليق العديد من المركبات الكيميائية الجديدة، التي تتنوَّع فوائدها من العلوم الدوائية، وصولا إلى صناعة البلاستيك والطاقة.

 

سحر الطبيعة

لكن اللافت للانتباه فيما قاله ليست إنه، مثل معظم الكيميائيين الفائقين بهذا النطاق، يعيش حالة اندهاش مستمر بالطبيعة، نحن البشر لدينا أعمار قصيرة على هذا الكوكب، بحسب آخر الدراسات في هذا النطاق فإن أقدمنا عاش على الأرض قبل 300 ألف سنة فقط، أما الطبيعة فموجودة على هذا الكوكب قبل نحو 4-5 مليارات سنة، طوال كل تلك المدة تمكَّنت الكائنات الحية من تطوير أدوات مذهلة لتخليق المركبات الكيميائية، الكوليسترول والهيموجلوبين في دمائنا، النواقل العصبية في أدمغتنا من سيروتونين ودوبامين، وحتى الكلوروفيل في النباتات على سبيل المثال.

 

ساعدت تلك الأدوات الطبيعية ليس فقط في إنتاج مركبات جديدة بجودة وسرعة غير مسبوقتين، لكن كفاءة العملية نفسها ساحرة، حينما يقوم الكيميائي بمحاولاته لإنتاج مركب جديد فإن مشكلته ليست فقط في صعوبة التوصُّل إلى آلية التفاعل أو كيفية إجرائه، بل نواتجه أيضا، وذلك بسبب الكثير من النفايات التي تنتج بصحبة المادة التي يتوصَّل إليها، وبالتالي فإن هناك حاجة إلى الكثير من التصفية والتنظيف لأجل الوصول إلى المركب النهائي، وهي عملية ينتج عنها العديد من الملوثات البيئية.

الكيميائي فنان أشبه ما يكون بنجار أو نحّات، يستخدم مواد موجودة بالفعل لتخليق أشياء جديدة.
الكيميائي فنان أشبه ما يكون بنجار أو نحّات، يستخدم مواد موجودة بالفعل لتخليق أشياء جديدة.

لهذا السبب طالما سكنت الإنزيمات مُخيلة الكيميائيين وطالما تساءلوا: هل يمكن أن نُحاكي هذه القطع الفنيّة العظيمة؟ الإنزيمات هي بروتينات تعمل محفزات للتفاعلات الكيميائية داخل الكائنات الحية، والعامل الحفاز ببساطة هو مادة "تُحفِّز" التفاعل، أي إنها تجعله أسرع وأكفأ، ثم تخرج هذه المادة من التفاعل كما دخلت دون تغيير، وطوال تاريخ الكيمياء اعتقد الباحثون أن هناك نوعين فقط من المحفزات؛ الإنزيمات التي تحدَّثنا عنها، والمحفزات المعدنية.

 

تلك الأخيرة هي التي يصنعها البشر لحفز التفاعلات الكيميائية منذ نحو مئتي سنة، وهي فعالة حقا وطالما ساعدتنا في الصناعة، من البلاستيك إلى الملابس ومُنكِّهات الطعام، لكنها بالطبع أقل كفاءة مقارنة بالإنزيمات، كذلك فإن بعضها يتطلَّب ظروفا ليست سهلة التحصيل، خاصة في المصانع، حيث إنها حساسة جدا للرطوبة والأكسجين، كذلك فإنها عادة ما تتضمَّن معادن ثقيلة وبالتالي قد تُنتج مواد ضارة بالبيئة.

 

"ليست" يتلاعب بالإنزيمات

في التسعينيات من القرن الفائت انضم بنجامين ليست لمجموعة عمل بحثية تحاول أن تفهم آلية عمل الإنزيمات، وربما إنتاج عوامل حفّازة قادرة على محاكاتها، عادة ما تتكوَّن الإنزيمات من بروتينات ضخمة مبنية من مئات الأحماض الأمينية، والحمض الأميني هو ببساطة وحدة بناء البروتين. هنا تساءل "ليست": هل من الضروري أن تكون كل تلك الأحماض الأمينية جزءا من الإنزيم لتحفيز تفاعل كيميائي ما؟ أم أنه يمكن لعدد قليل من الأحماض الأمينية، أو ربما حمض أميني واحد فقط داخل الإنزيم، القيام بالوظيفة نفسها؟

سأل ليست نفسه: "هل كل هذه الأحماض الأمينية في الإنزيم ضرورية لحفز التفاعل؟ أم أن بعضا منها فقط يمكن أن يؤدي الغرض؟".

كان "ليست" يعرف أن هناك بحثا من أوائل السبعينيات استخدم حمضا أمينيا يُسمى "البرولين" بوصفه عاملا حفازا، لكن لسبب ما لم يكتمل الأمر، افترض ليست أن السبب وراء عدم اكتمال الأمر هو أن الدراسة نفسها لم تتم بشكل جيد ودون أي توقُّعات حقيقية، فأعاد اختبار البرولين بوصفه عاملا حفازا في تفاعل ألدول (Aldol reaction)، وهو أحد أهم تفاعلات الكيمياء العضوية عموما التي تربط بين ذرتَيْ كربون.

 

وفجأة تماما، نجح التفاعل. اللافت للانتباه أن التفاعل لم يكن فقط سريعا مع كفاءة واضحة، لكن نتائجه كانت "غير متماثلة"، وفي تلك النقطة يجب أن نتوقَّف قليلا للتعلُّم عن التماثل في الكيمياء، حيث إن المركبات الكيميائية لا تمتلك صورة واحدة فقط، بل صورتان تبدوان، مقارنة ببعضهما بعضا، وكأن كلًّا منهما صورة للأخرى في مرآة، يشبه الأمر يديك، نعم، إنهما متشابهتان، ولكنَّ كلًّا منهما صورة للأخرى في المرآة، وفي المركبات الكيميائية فإن هذه الخاصية لها تأثير كبير، خذ مثلا مركب "الليمونين"، إحدى صوره (يمين) لها رائحة الليمون، والأخرى (يسار) لها رائحة البرتقال.

يتشابه المركّبان في كل شيء لكنَّ كلًّا منهما صورة للآخر، ولكل صورة خصائص مختلفة.

لكن مشكلة التفاعلات الكيميائية بالمحفزات المعدنية أنها كانت تُنتج كميات متساوية من الصورتين، ولأن إحدى الصور تكون مطلوبة دون الأخرى، بسبب اختلافهما في بعض الخصائص، فإن الأمر يتطلَّب الكثير من العمل، الذي قد يفشل في بعض الأحيان، لفصلهما عن بعضهما بعضا، لكن محفزات "ليست" العضوية اللا متماثلة، كانت تأخذ التفاعل مباشرة لإحدى الصورتين، ولهذا سُمِّيت العملية الحفز العضوي "اللا مُتماثل"، كان ذلك تقدُّما هائلا في نطاق الكيمياء التخليقية.

 

ماكميلان يعبث بالمواد العضوية

بينما كان ليست يعمل على نشر بحثه عن تلك العوامل الحفازة الجديدة، كان أحد العلماء على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي يحاول أيضا أن ينشر بحثا عن الموضوع نفسه، إنه ديفيد ماكميلان، الذي آمن أيضا أنه لا بد من ابتكار نوع جديد من العوامل الحفازة العضوية وليست المعدنية، في الواقع كان ماكميلان يدرس العوامل الحفازة المعدنية، لكنه توصَّل في النهاية إلى أن ما سيقوم به هو مجرد تحصيل حاصل ما دامت العوامل المعدنية تواجه المشكلات نفسها، هنا تحوَّل إلى الحفز العضوي.

دعنا في تلك النقطة نوضِّح معنى كلمة "عضوية" (Organic)، المركبات العضوية هي تلك التي تبني كل الكائنات الحية، بما في ذلك البشر، كل شيء في جسمك يتكوَّن من مركبات عضوية. لدى المركبات العضوية هيكل رئيسي من ذرات الكربون، ترتبط بهذا الهيكل ذرات مثل الأكسجين أو النيتروجين أو الكبريت أو الفوسفور.

 

خبرة ماكميلان بالكيمياء العضوية، على مدى عقود من العمل، ألهمته أن هناك مجموعة كيميائية مُحدَّدة تسمى الإيمونيوم يمكن لها -إذا كانت جزءا من عامل حفاز عضوي- أن تؤدي النتيجة بكفاءة، استخدم ماكميلان أداته الجديدة لتحفيز تفاعل "دايلز ألدر" (Diels-Alder reaction)، الذي يستخدمه الكيميائيون لبناء حلقات من ذرات الكربون. مثل رفيقه في ألمانيا، كانت النتيجة استثنائية، الآن بات لدينا طريقة إضافية لبناء عامل حفاز عضوي وليس معدنيا، نتائجه غير متماثلة أيضا.

انتقل ماكميلان من دراسة العوامل الحفازة المعدنية إلى عوامل حفازة عضوية

منذ عام 2000، لعبت منجزات كلٍّ من ليست وماكميلان دورا كبيرا في إنتاج العديد من المركبات الكيميائية الجديدة، العوامل الحفازة التي ابتكرها كلٌّ منهما جعلت إنتاج تلك المركبات أسهل وأسرع وأكثر كفاءة مع ميل واضح ناحية صورة محددة من صورتَيْ المرآة الخاصتين بالمركب الكيميائي، كما أنها كانت صديقة للبيئة لأنها لم تحتوِ على معادن ثقيلة ملوّثة.

 

أحد أشهر الأمثلة هنا هو الإستركنين، إنه مركب طبيعي مُعقَّد بشكل مذهل له أهمية كبيرة في عالم الصناعة. منذ عام 1952 تطلَّبت عمليات الحفز المعدني 29 تفاعلا كيميائيا مختلفا لإنتاج الإستركنين مع كمية هائلة من النفايات وصلت إلى نسبة 99.9991% من الناتج مع 0.0009% فقط من الإستركنين، لكن في عام 2011 تمكَّن الباحثون من استخدام التحفيز العضوي لبناء الإستركنين في 12 خطوة فقط، وكانت عملية الإنتاج أكثر كفاءة بمقدار 7000 مرة.

 

ثورة في عالم الدواء

كانت النتائج في عالم الأدوية، هل سمعت من قبل عن فضيحة الثاليدومايد؟ في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، أدَّى استخدام النساء الحوامل لمادة الثاليدومايد في 46 دولة إلى "أكبر كارثة طبية من صنع الإنسان على الإطلاق"، وهي ولادة أكثر من 10000 طفل مع مجموعة من التشوهات الشديدة، السبب في ذلك أن إحدى صور الثاليدومايد ضارة والأخرى نافعة، وقُدِّمت الاثنتان معا في المنتج الدوائي بسبب افتقادنا لآلية تفصل بسهولة بين الصورتين.

 

الكثير من الأدوية بالفعل تمتلك صورتين كيميائيتين؛ إحداهما غير مفيدة أو ضارة، والثانية نافعة، وكان الكيميائيون الصيدلانيون في حاجة إلى آلية تتمكَّن من حفز التفاعلات الكيميائية باتجاه الصورة المفيدة، ساعدت إنجازات ماكميلان وليست في إنتاج أدوية مشهورة جدا الآن مثل الباروكستين الذي يُستخدم لعلاج القلق والاكتئاب، والأدوية المضادة للفيروسات مثل أوسيلتاميفير الذي يُستخدم لعلاج التهابات الجهاز التنفسي.

Pictures of the winners of the 2021 Nobel Prize in Chemistry Benjamin List and David MacMillan are seen displayed on a screen during The Royal Swedish Academy of Sciences' announcement at the Swedish Academy of Sciences in Stockholm, Sweden October 6, 2021. Claudio Bresciani/TT News Agency/via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY. SWEDEN OUT. NO COMMERCIAL OR EDITORIAL SALES IN SWEDEN.

هل تعرف أن 35% من كل المنتجات المُصنَّعة في حياتك، سواء كانت غذاء أو ملابس أو بلاستيك أو دواء، أُنتجت المواد الكيميائية الخاصة بها بواسطة عامل حفّاز ما؟ يعني ذلك أن إنجاز عالِمين في نطاق الكيمياء لا تعرفهما ولم تسمع بهما من قبل، أنت وكل العالم بالمناسبة، فمحاضرات أيٍّ منهما على يوتيوب لم تتعدَّ 200 مشاهدة حتى إعلان الجائزة، كانت مؤثرة بما يكفي لتصل إلى بيتك، إلى أدوات تستخدمها يوميا ولكنك لم تُدرك ذلك، ولهذا استحقا -عن جدارة- جائزة نوبل.

 

لكن من جانب آخر، فإن نوبل للكيمياء 2021 هي أيضا جائزة لمحاولات الإنسان الدؤوبة كي يفهم الطبيعة من حوله، يسبر أغوارها ويتعلَّم عن مجهولاتها، ومع كل نافذة نفتحها على إحدى غرف الطبيعة المظلمة إذ بنا نمتلك معرفة جديدة، نُحاكيها بقدر ما نمتلك من ذكاء وحماس، فنصل إلى نتائج مفيدة وبديعة في الوقت نفسه، تُعرِّفنا أنه ما زال لدينا الكثير لنتعلَّمه حول الطبيعة والعالم.

————————————————————————————————————-

المصادر

  1. The Nobel Prize in Chemistry 2021

https://www.nobelprize.org/prizes/chemistry/2021/summary/

المصدر : الجزيرة